الناصرة: تجّار على مقاعد "السُّترة"

هذا هو حال أصحاب أغلب المصالح التجاريّة في الناصرة بشكل عام، وسوق البلدة القديمة بشكل خاص، كما تجلّى في حالِ صاحبة مصلحة تجارية، التي وقفتْ خارج حانوتها، معبرةً بحسرة: "أجلس متكتّفة طوال اليوم".

الناصرة: تجّار على مقاعد

حركة تجارية ضعيفة في الناصرة

يجلسُون على مقاعدِ 'السُّترة' في محلاتهم التجارية، وبعيونِهم بعضُ الملل، واضعين يدهم على خدّهم شاردين، بانتظار أن يدخل أحد الزبائن المتجولين عليهم ليضعوا شيئًا من العمولة في صرافهم الآلي، متأمّلين بعطاء شهرِ رمضان واقتراب العيد، ولكن ما من ذلك يحدث ليعيد إليهم النشاط بعد كل ذلك الركود، فهم لا يسعون إلا لأن يعيلوا عائلاتهم لسدّ تكاليف المعيشة، لكنهم يستمرّون بالجلوس.

هذا هو حال أصحاب أغلب المصالح التجاريّة في الناصرة بشكل عام، وسوق البلدة القديمة بشكل خاص، كما تجلّى في حالِ صاحبة مصلحة تجارية لبيع الأدوات المنزليّة، نهلة أرسلان، التي وقفتْ خارج حانوتها، معبرةً بحسرة: 'أجلس متكتّفة طوال اليوم'.

الحال الاقتصادي الذي وصلت إليهِ الناصرة، هو أشبه بوضع مخطط له، فحتّى سنوات الثمانينيّات، وبداية التسعينيّات، كانت النّاصرة محطّة تجاريّة لكافة المواطنين الفلسطينيين في الداخل والقرى المجاورة، فامتلأ السوق القديم حينها بالزبائن والتجّار، لدرجة يصعب المرور منه إلا ببطء، ثم تحول إلى شوارع فارغة مهملة.

وبرغم وجود شهرِ رمضان، في هذه الأيّام، إلّا أنّه لم يحُسِّن من حال هؤلاء التجّار بل بات يشكلُ عبئًا على بعضِ العائلاتِ المستورة، فالسوق هو مرآة الناصرة الاقتصاديّة، فما طالَ السّوق طالَ النّاصرة وأهلها.

تحت الحدّ

يفترضُ المتخصص في السياسات الاقتصاديّة، د. مطانس شحادة، أن تحتل النّاصرة مكانة عالية في الاقتصاد العربي الداخلي، إذ تم بناء المؤسسات العامة والخدماتيّة فيها بكثرة، إضافةً لكونها مركز سياحي عالمي، منوّهًا: 'يجب أن تكون الاوضاع الاقتصادية في الناصرة جيدة نسبيًا مقارنة بباقي البلدات العربية، لكن بالطبع على أرض الواقع الحالة ليست ورديّة'.

ويشرحُ د. شحادة، عن الوضع المادي غير الجيد لسكان المدينة، إذ تحتل الناصرة مرتبة متدنية بالترتيب الاقتصادي الاجتماعي، تدريج 3، وفقا لدائرة الإحصاء المركزية، فمعدلات الدخل فيها منخفضة نسبيًا، إذ بلغ معدل دخل الأجير قرابة 5600 شيقل في الشهر، والمستقل نحو 8200 شيقل، في العام 2013، بالإضافة إلى أن حوالي 48% من العمال الأجيرين يحصلون على مدخولات تحت الحد الأدنى للأجور.

كل تلك الإحصائيات، التي لا تنتهي، تجعلُ شحادة يجملُ القول أنَّ 'نصف العاملين في الناصرة هم من أصحاب الدخل المتدني، حيث أنّ نصف سكان الناصرة يعيشون بضائقة اقتصادية'، كما أكّد المواطن هاني رشرش، الذي هو ربّ أسرة لثلاثة أطفال، بقولهِ إن 'إيجاد عمل هو أمر صعب جدًا، كنت تاجراً ولكن لسوء أحوال المدينة اضطررت لأقفال محلي والذهاب إلى الأعمال الفيزيائيّة الأخرى، بأجر متواضع'.

أمّا مساعد رئيس بلدية الناصرة، سالم شرارة، فيرى أنّ 'هذه الأزمة لا تقتصر على مدينة النّاصرة بشكل خاص، فهي مشكلة عامة تعاني منها الدولة، ولكن الحكومة الإسرائيليّة قصّرت بحق المجتمع العربي، من خلال عدم وجود مصانع ومشاغل كما هو الحال في المدن اليهوديّة'.

نزوح متعمّد

يتوجه أهالِي النّاصرة إلى نتسيرت عيليت، قاصدينَ الأسواق الشعبيّة، أو المجمعات الكبيرة، بالإضافة إلى نزوح التجار بسبب التسهيلات التي تُمنح لهم هناك، وهجران المؤسسات الحكوميّة والشركات، التي كانت آنذاك.

شرارة يُرجحُ ذلك لافتقار البلدة القديمة لمواقف سيارات كافية، وتفضيل المجمعات التجارية الجديدة على الأسواق، بالإضافة إلى تغيّر في العادات الشرائيّة لدى المستهلكين.

ومن جهة أخرى، يعبّر شحادة عن 'سياسة منهجية لاستمرار تبعية المدن العربيّة للاقتصاد الإسرائيلي، إذ تقوم الدولة بتطوير اقتصاد الناصرة العليا عن طريق نقل المؤسسات الرسمية كالمكاتب والدوائر الحكومية، من الناصرة إلى نتسيرت عيليت'.

ويعود شرارة لينوّه أنّ حل الأزمة الاقتصاديّة هو ليس دور السلطات المحليّة، التي هي أصلاً 'تتغذى' اقتصاديًا من الحكومة الإسرائيليّة، بل على الحكومة أن تنتهج سياسة عادلة في توزيع الميزانيات الممنوحة للمجتمع اليهوديّ، وتلك المستحقة للمجتمع العربي.

حرمان ماديّ

يرى تاجر الأدوات الكهربائيّة، شفيق صفوري، أنّ النًاصرة لغاية الآن لم تنتعش اقتصاديًا بسبب شهر رمضان، ويلقي العاتق على تقصير عن الجهات المسؤولة عن المدينة، مقارنًا بين المدن العربيّة ورؤسائها.

بينما يُفصح شرارة، أنّ البلديّة غير راضية عن الميزانيات الممنوحة لها مِن قِبل الحكومة مقارنةً بالنّاصرة العليا، المقامة على أراضِي النّاصرة، فسكان مدينة الناصرة نحو 85 ألف نسمة، يعيشون على 14،200 دونم، مقابل النّاصرة العليا التي يقطنها 50 ألف نسمة على مساحة 70،000 دونم، أي ما يقارب خمسة أضعاف مساحة أرض النّاصرة، لعدد سكان أقل.

ويضيف أنّ مدينة نتسيرت عيليت، التي أقيمت منذ 60 عاما، يُمنح لها ميزانيات أكبر بكثير من مدينة الناصرة، رغم عراقتها وأصالتها التاريخيّة ومكانتها الدينيّة، التي تضيف إلى دخل الدولة الماديّ جرّاء استقطابها سياحيًا، ذاكراً أحد أسباب العجز المادي، ألّا وهو عدم وجود مساحات أراضِ كافية وعدم إمكانيّة التوسع المعماري، فمساحة النّاصرة منذ 40 عاما كانت 14,200 دونم، وما زالت لغاية اليوم بذات المساحة.

ويؤكد شحادة ذلك، بقولهِ إنه 'لا يوجد توزيع عادل للميزانيات الحكومية، ليس فقط ميزانيات السلطات المحلية الاعتيادية، بل بالأساس ميزانيات التطوير، والبنى التحتية، التي حُرمت منها البلدات العربية على مدار 60 عامًا'.

جدوى مؤقتة

يشير شرارة، إلى أنّ البلديّة تهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي، من خلال مشاريع مختلفة، مفصحًا أنّها جلبت عشرات آلاف السائحين، في محاولة نجحت بتشغيل أكبر عدد من أصحاب المصالح التجاريّة والسياحيّة.

ومن جهتهِ، يشكو صفوري، سوء الأحوال رغم وجود مشاريع جماهيريّة، كليالي رمضان، وكريسماس ماركت، فهي تخدم أصحاب المصالح السياحيّة والمطاعم فقط، لمدة زمنيّة مؤقتة، كما أنّها لم تحسِّن من الوضع العام، الذي لم ينعكس على محلّهِ التجاريّ إيجابًا في فترة تلك الاحتفالات.

ويردف أنّ استمرار الأزمة لمدة طويلة ستشعل نار التمرد والمطالبة بتغيير شامل، وذلك عندما يفقد المواطن الأمل بالخروج من الأزمة، عندها لا يوجد 'ما يخسره أكثر'، فإن هذا الوضع يحولّه إلى مقاوم متمرّد على المؤسسة بأكملها، وعندها سيكون العمل في الساحة السياسية مكثف أكثر، لحل الأزمة، وضمان مستقبل أفضل.

أمّا الحل، الذي يراه شحادة، فهو خلق أماكن عمل جديدة مع دخل مرتفع، وتشغيل شريحة أكبر من النساء، من خلال إقامة مناطق صناعية متطورة، والاستثمار في البنى التحتيّة، وتطوير جذري لقطاع السياحة والترفيه، والتعليم في المدنية، بإقامة جامعة عربيّة، مشيراً إلى أنّه يجب أن تتحول الناصرة إلى مركز اقتصادي فيه الخدمات المالية، وصناعة التقنيات العالية، ويكون ذلك بتغيّر السياسات الحكومية التي تعيق بناء النّاصرة.

فإلى متى ستبقى النّاصرة، كأكبر مدينة عربيّة، مستهدفة لإضعافها وإبقائها دون أيّ تطوير اقتصادي، ينهض بها، نحو الارتقاء بمستوى معيشة لائقة للإنسان وكرامته؟.

التعليقات