ترشيحا: فتحية الهواري تحكي وجع التهجير والجراح النازفة

ترشيحا للذين لا يعرفون كانت آخر معقل مقاوم في فلسطين في العام 1948، قاوم أهلها العصابات الصهيونية ببسالة، لكنّ المحتل ارتكب أبشع المجازر والغارات الجويّة بحق أهلها، ما دفعهم إلى مغادرتها، على أمل العودة قريبًا.

ترشيحا: فتحية الهواري تحكي وجع التهجير والجراح النازفة

فتحية الهواري

التقيتُها في منزلها في بلدة ترشيحا بمنطقة الجليل الأعلى، قالت فاطمة الهواري (مواليد الخامس من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1939)، لـ'عرب 48'، إن 'اسم أبي محمود إبراهيم هواري (توفي في جيل 45 عامًا، بسبب حادث سقوط من علو)، شقيقاي أحمد وكامل فارقا الحياة فقد توفي أحدهما بسكتة قلبية والآخر بحادث طرق. نحن ثلاث شقيقات، فاطمة وفوزية وأنا فتحية'.

وأضافت أن 'عائلتي تتكوّن من 3 بنات وولديْن ووالديْن، عندما سقطت حيفا، جاء أقاربنا وأقاموا في بيتنا، ثم استأجروا منزلا آخر، وبعد أن اشتعلت المعارك وبدأت الطائرات بالقصف، هاجر أقاربنا إلى بيروت، وبقينا نحنُ- وبسبب القصف الهائل، واستعمال البراميل، والقصف مرتين، الأولى وصلت قربنا ونحنُ في البيت والمرة الثانية أصيبت شقيقتي فاطمة وأخذها جيش الإنقاذ للعلاج في لبنان، فقد أصيبت في ظهرها ومكثت ثلاثة أشهر في مستشفى صور، ثم أحضرتها، وجاء كثيرون لتقديم الدعم والمؤازرة لها وللعائلة، قصفت الطائرات منزلنا، وبينما كانت فاطمة في المرحاض، سقطت القذيفة وأصيبت بشظية في منطقة الظهر، فأصابها نزيف حاد، نقلها الجيش من منطقة سحماتا وحملوها إلى صور، ثم انتقلت والدتي إلى صور للعناية بشقيقتي فاطمة، لفترةٍ طويلة'.

هل كان من السهل المساعدة بالوصول وتلقي العلاج في لبنان؟

بقينا في البيت فالحالة الاقتصادية لدى العائلة كانت جيدة، وشقيقتي فاطمة معروفة بقوّة شخصيتها؛ وحين كانت تضرب الطائرات كنّا نخرج تحت أشجار التين والزيتون؛ وفي المرة الأخيرة قال أفراد العائلة: ما دام بيتكم من طبقتين؛ ولدينا قبويْن، فيمكن عمل سدّة (للاختباء) من القصف، وبعد أن تزوّج أخي كانت تحوي ثلاثة غُرف. وعندما قامت الطائرة بالقصف، أصابت أساسات البيت ولم يكن الحائط قويًا فسقط، وقصفوا البيت ثلاث وأربع مرات، وقصفوا الحاكورة، وفي المرة الثانية من القصف أصيبت فاطمة، وجاء المقربون وقالوا: لا تخرجوا بين الزيتون، دخلنا وآخرون تحت سقف الباطون، كنتُ أنا وفاطمة وفوزية، وزوجة أخي الحامل، وزوجة عمي شاكر، والشقة الثانية من البيت كان فيها جدتي وزوجة خالي الحامل، والآخرون خرجوا، ولو كان الوقت أبكر قليلاً لأصيب جميع أبناء عمي، كانوا نيامًا، واحترق أربعة من أبناء عمي وهم نائمون، رأيت البيت يشتعل، وسمعتُ جدتي تنادي أمي، فترد أمي: 'يا لطيف يا ستار'، كان يفصلني عن النار المشتعلة أقل من متر واحد، أقول لأمي أخرجيني، وجدتي 'تستشهد بالله'، في النهاية خرجت، لم أنتبه أن هناك 'باطون'، لم أشعر بنفسي، أنظر وأرى الحجارة تسقط عليّ، وحين خرجت رأيتُ الحصان وهو يحترق والحمار أيضًا يئنان من الألم، بينما قامت ابنة خالي بالقفز من الشباك، فاحترق جسمها، لم نرَ زوجة خالي.

في البيت سقطت خابيات الزيت فاشتعل البيت بمن فيه، وعند البحث عن زوجة خالي لم نجدها، ووجدتُ الأطفال متفحمين ككومةٍ سوداء، وتحوّل الدجاج إلى كلاب مسعورة، بعد نهشها لحم البشر، عندها توقفت عائلتي عن البحث، احترقت جدتي.

حضر والدي وشقيقي؛ وقاما بالمساعدة، إذ استعملا 'المناكيش' أخرجا زوجة أخي وابن أخي وأختي فوزية، وأُخرجت فاطمة، وابنة خالي المحترقة والتي نقلت مع فاطمة إلى رميش، وهناك دفنوا ابنة خالي، ونقلوا فاطمة إلى بيروت، ودفن والدي شقيقتي فوزية، ولم تُدفن زوجة عمي شاكر، وبقي أولادها في البيت فنهشهم الدجاج والكلاب. وخرجنا من الحرائق، ليتلقفنا الشوك، ومع صعوبة السير تبادلتُ أنا وأمي الحذاء، وبعدها انضم والدي حتى وصلنا كفر سميع، لنقيم في بيت للإيجار لدى أحد الأصدقاء.

وبقيت فاطمة في بيروت لبضع سنوات تحت رعاية أطباء مختصين، وعبر الصليب الأحمر، جرى نقلها إلى مستشفى 'تل هشومير'، ومن ثم إلى المستشفى الإنجليزي، وبقي الحديد في ظهر فاطمة، لتتألم دائمًا، هكذا أمضت أكثر من عشر سنوات مع جرحها النازف، وعاشت حياتها مشلولة، وحين اقترحوا عليها قطع رجليها رفضت، قائلة: 'لتكون رجلاي ميتة أفضل من قطعهما'.

ولم تعترف بها إسرائيل، حتى زارها أحد الطيارين الذي قصف ترشيحا واسُمه 'ايبي نتان' ليعتذر، فشتمته فاطمة وتأسّف بسبب ضربه ترشيحا وسحماتا، وأنه يبحث عن السلام؛ أحضر لها ثلاجة وسرير، فردتهم قائلة: 'لا أريد شيئًا سوى أن تعيد رجليْ كما كانتا قبل قصف بيتنا، فاطمة الهواري رحلت ولم تُسامِح المجرم القاتل إيبي نتان. وبقيتُ أنا الوحيدة بين الشقيقات، وأنا أيضًا لن أسامح ولن أغفر للقتلة'.

آخر معقل مقاوم في فلسطين في العام 1948

ترشيحا للذين لا يعرفون كانت آخر معقل مقاوم في فلسطين في العام 1948، قاوم أهلها العصابات الصهيونية ببسالة، لكنّ المحتل ارتكب أبشع المجازر والغارات الجويّة بحق أهلها، ما دفعهم إلى مغادرتها، على أمل العودة قريبًا بوعدٍ من الجيوش العربية، وكان فيها مجلس بلدي ومخاتير ومدرستان وأكبر سوق يرتاده أهل القرى المجاورة. وكان أهل المكان بأفضل حال؛ حيثُ عاشوا على الزراعة وتربية المواشي، لكنّ الخير الكثير قبل النكبة، شحّ بعد النكبة، وبقي الشرفاء والكرماء والبواسل يقاومون حتى الرمقِ الأخير.

اقرأ/ي أيضًا | ترشيحا تحيي ذكرى النكبة

التعليقات