05/05/2018 - 13:55

د. إغبارية: الانقسامات والتبعية ما زالت تتسبب بنكبة الفلسطينيين والعرب

إغبارية: انقسامات العرب وفشلهم في أن يأخذوا أمورهم بأيديهم ما زالت هي سبب نكباتهم وهزائمهم، وانقسام الفلسطينيين وفشلهم بأن يمسكوا بزمام أمورهم بمعزل عن الأنظمة العربية هو سبب نكبة الفلسطينيين وإخفاقاتهم

د. إغبارية: الانقسامات والتبعية ما زالت تتسبب بنكبة الفلسطينيين والعرب

من اللافت أن أول من استعمل التعبير أو صك مصطلح "نكبة"* الذي بات يختصر ما وقع في فلسطين عام 1948، المفكر السوري قسطنطين زريق، لم ير أن النكبة تتمثل أساسا، فقط، في تشريد وتهجير الشعب الفلسطيني، ولكن في إقامة دولة إسرائيل.

زريق الذي أصدر كتابه "معنى النكبة" في آب/أ غسطس 1948 أي قبل انتهاء "الحرب" في فلسطين رأى بالحرب على الفلسطينيين نكبة منذ اللحظة الأولى، بما ستفضي إليه من إقامة كيان استعماري في فلسطين، ومن نتائج كارثية على المشروع القومي والوحدة العربية والتحرر والتخلص من الاستعمار، ورغم أن تعريف لما وقع عام 1948 كنكبة، يتضمن تهجير سكان فلسطين، فإن هذا لم يكن اهتمام زريق الأساسي، ولكنه جزأ العوامل التي جعلت من تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين أمرًا كارثيًا.

لقد نظر زريق وهو المفكر القومي المعروف، إلى الموضوع ببعده السياسي، وهو يقول في هذا السياق "ليست هزيمة العرب فى فلسطين بالنكبة البسيطة، أو بالشر الهين العابر، وإنما هى نكبة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشد ما ابتلى به العرب في تاريخهم الطويل، على ما فيه من محن ومآسٍ".

وفي وصفه لتطور الأحداث يقول زريق "سبع دول تعلن الحرب على الصهيونية فى فلسطين، فتقف أمامها عاجزة ثم تنكص فى أعقابها، قضية لم يعرف التاريخ أعدل منها وأقرب إلى الحق: بلد يغتصب من أهله ليجعل وطنا لشراذم من الخلق ينزلونه من شتى أقطار العالم، ويقيمون فيه دولة رغم أنوف أصحابه والملايين من إخوانهم فى الأقطار المجاورة، أربعمائة ألف عربى أو أكثر يشردون من بيوتهم، وتنتزع منهم أموالهم وأملاكهم، ويهيمون على وجوههم في ما تبقى من فلسطين وفى البلدان العربية الأخرى، لا يدرون ما يخبئه لهم القدر.

ولتأكيد وجهته تلك، أصدر زريق بعد هزيمة 67 كتاب "معنى النكبة مجددا" وهو بهذا المعنى أعاد التأكيد على أن النكبة لا تتمثل بالكارثة الإنسانية التي حلت بالشعب الفلسطيني عام 48 فقط، بل أيضا وأساسا بهزيمة العرب السياسية أمام المشروع الصهيوني، التي أنتجت هذه الكارثة، وهي هزيمة تكررت عام 67 وما زالت تتكرر فلسطينيا وعربيا حتى اليوم.

حول معاني النكبة وترجماتها وتجلياتها اليومية عربيا وفلسطينيا، أجرينا هذا الحوار مع د. مسعود إغبارية أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية:

عرب 48: هناك من حاول وما زال، بنجاح إلى حد بعيد، إسقاط البعد العربي من النكبة وحتى اختزال بعدها السياسي وتحويلها إلى كارثة إنسانية حلت بالشعب الفلسطيني؟

إغبارية: النكبة هي كارثة حلت بالشعب الفلسطيني ولها أبعاد فلسطينية وعربية وعالمية.  بدأت ضد الشعب الفلسطيني ساعات قليلة بعد قرار التقسيم في تشرين الثاني 1947 وما زالت مستمر حتى يومنا هذا. الجوهر السياسي للصراع وبعده العربي لا يمكن انتزاعهما منه بتلك البساطة، فابن الشام إبراهيم اليازجي صرخ مجلجلا عام 1868 ببائيته الشهيرة "تنبهوا واستفيقوا أيها العرب..."، وبعد  حوالي ثلاثين سنة 1905 نشر نجيب عازوري كتابه "نهضة  الأمة العربية" محددا أن الصراع في المنطقة هو صراع معادلة صفرية  (zero-sum game) بين الحركة القومية العربية والمشروع الصهيوني، وبعده بحوالي ثلاثين عاما نشر جورج انطونيوس كتابه "نهضة العرب" حدد فيه أن العرب كانوا ضحية الخدعة الكبرى التي قامت بها بريطانيا وان بريطانيا وفرنسا كانتا من وراء التقسيم الذي تجسد في اتفاقية سايكس بيكو 1916 الذي ما زال تعاني منه الأمة العربية حتى اليوم. الصراع مع الحركة الصهيونية في فلسطين بدأ أصلا عندما أدرك الفلسطينيون عام 1886 أن اليهود قادمون إلى فلسطين لأهداف سياسية، وذلك في ما يسمى الهجرة اليهودية الأولى عام 1882، قبلها كانت فلسطين تستقبل اليهود القادمين إليها بدواع دينية أو إنسانية بكل ترحاب.  عندما تحولت الهجرة إلى سياسة استيطانية هدفها اقامة دولة يهودية، تصدى لها الفلسطينيون بالمقاومة وبأشكال مختلفة وما زالوا يتصدون للاستيطان باعتباره استعمارا كولونياليا إلى اليوم.

عرب 48: ولكن الهجرات الأولى وإن أسفرت عن إقامة مستوطنات، فإنها تمت بواسطة شراء أراض من الفلسطينيين؟

إغبارية: هذه قضية حساسة ويجب التطرق اليها ومخاطبتها بحذر واهتمام شديد كي لا نقع في مطبات خطرة. أنا أرفض استخدام مصطلح "بيع وشراء أراضي" في سياق الصراع بين الفلسطينيين والحركة الصهيونية باعتباره مصطلحا تضليليا لأن عمليات البيع والشراء ذاتها غير شرعية، وكانت تتم تحت التهديد والابتزاز وتزييف الوثائق والتوقيعات على مستويات كثيرة، واحبذ استعمال مصطلح "السيطرة" على الأرض.  يكفي في هذا السياق إيراد ما كتبه يوسف نحماني الذي كان نشطا في إنجاز صفقات السيطرة على الأراضي الفلسطينية لصالح "الكيرن كييمت" في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين في مذكراته "يوميات يوسف نحماني" الذي تم إخراجه بفيلم للمخرجة الاسرائيلية داليا كاربل: "عندما كنت أذهب لإنجاز صفقة أراضي كان مسدسي جاهزا دائما لإطلاق النار".

عرب 48: على كل حال، فإن عمليات الشراء إن تمت فعلا فإنها لا تتعدى 4-5% من أراضي فلسطين، ولكن أهمية السيطرة على الأرض قبل 48 تكمن في خلق ركائز سياسية وعسكرية للكيان العتيد؟

إغبارية: من المعروف أن الحركة الصهيونية لم تحقق نجاحات على الأرض حتى انهيار الإمبراطورية العثمانية، وسقوط المنطقة العربية بأيدي الاحتلال البريطاني - الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، وتطبيق اتفاقية "سايكس بيكو" التي أبرمت عام 1916، وهدفت إلى تقاسم المنطقة وتجزئتها بين بريطانيا وفرنسا وروسيا لتتمكن هذه الدول الاستعمارية من السيطرة عليها والتحكم بها، وبها انعكس انجازات استعمارية في المنطقة بدأت بغزو نابليون للمنطقة في بداية القرن التاسع عشر وبها تجسد بداية بناء أسس للسيطرة الاستعمارية على  المنطقة حتى يومنا هذا على أساس إستراتيجية فرق تسد. 

محاولات السيطرة التي قامت بها الحركة الصهيونية بتواصل مع ألمانيا وبريطانيا في بداية القرن العشرين منيت بفشل بسبب رفض تجاوب الدولة العثمانية وتحفظات من جانب الموقف الأميركي، الذي مثل دور دولة عظمى في مرحلة الصعود لتحتل لاحقا قمة الهرم الدبلوماسي العالمي. على سبيل المثال، لقيت محاولات هرتسل واقتراحاته التي قدمها للسلطان عبد الحميد أبوابا مغلقة في إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، رغم الإغراءات الكبيرة التي عرضها وبضمنها تسديد جميع ديون الدولة العثمانية، ومساعدتها في قمع الحركات القومية العربية والأرمنية وغيرها. وبسبب موقف أميركي متحفظ من سياسات بريطانيا وفرنسا وروسيا في المنطقة، حين حاولت تجاهل دور أميركا المتصاعد في تلك السنين لإملاء الفراغ السياسي على اثر انهيار الدولة العثمانية، كما تجلى في تقرير لجنة التحقيق الرئاسية "كينغ-كرين" (King-Crane) عام 1919 التي أبدت في تقريرها الأخير تعاطفا مع مواقف العرب في بلاد الشام ورأت ان تنفيذ تصريح بلفور على  أرض فلسطين لن يمر إلا بسفك الدماء وارتكاب مجازر. بالمقابل وللمفارقة، وقع الأمير فيصل الذي أصبح لاحقا ملك العراق (وهو ابن الشريف حسين) عام 1919 مع رئيس الحركة الصهيونية حاييم وايزمن على وثيقة اعترف فيها بشرعية تصريح بلفور اي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. 

عرب 48: من الواضح أن انهيار الدولة العثمانية لم يخدم الفلسطينيين، خاصة وأن البديل القومي لم يكن ناضجا، وترك الرسن لملوك وأمراء تابعين لبريطانيا على شاكلة الأمير فيصل والأمير عبد الله وغيرهم؟

إغبارية: من الجدير التنويه أن تصريح بلفور كان في ضمن خطة بريطانية محكمة لخدمة مصالحها الأمنية القومية الإستراتيجية، حيث علينا ألا ننسى أن التصريح أعلن في خضم الحرب العالمية الأولى وكانت بريطانيا بحاجة استمرار روسيا في الحرب إلى جانبها بعد أن انتصرت الثورة البلشفية وكان زعماء بارزون فيها من اليهود، وكانت ترغب في زج الولايات المتحدة للحرب إلى جانبها حين كان واضحا أن هناك، في الولايات المتحدة، تأثير كبير للوبي الصهيوني على اتخاذ القرار، وطبعا إن أمكن فللسيطرة على أرض فلسطين. طبعا، لاحقا أعتبر تصريح بلفور لاحقا إنجازا للحركة الصهيونية التي اعتبرت رأس حربة للاستعمار الغربي. تم إعلانه في إطار الصراع بين الدولتين المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى، بريطانيا وفرنسا، بعد أن كانت روسيا غارقة في عدم استقرار داخلي على إثر الثورة البلشفية في أكتوبر 1917، للسيطرة على فلسطين التي كانت وفق اتفاقية سايكس بيكو منطقة دولية، وحاولت بريطانيا الاستحواذ عليها بواسطة الحركة الصهيونية.

عرب 48: لقد صدر هذا التصريح بالرغم من أن اليهود في فلسطين كانوا يشكلون وقتها نسبة لا تذكر من سكان فلسطين، حوالي 50 ألفا فقط؟

إغبارية: الهجرة الصهيونية إلى فلسطين بدأت تتدفق بعد الحرب العالمية الأولى، وخاصة بعد ان استطاعت بريطانيا احتلال فلسطين عسكريا ومحاولة تغطيته تحت اسم "انتداب" من أجل تجميل وجه الاحتلال الدموي وخلق ما سمي في حينه إدارة مدنية للحكم العسكري البريطاني في بداية العشرينات، بتعيين صهاينة على رأس المناصب الهامة مثل تعيين هربرت صاموئيل مندوبا ساميا لبريطانيا في فلسطين، وهو من زعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا. ودفعت ممارسات هتلر في ألمانيا منذ بداية سنوات الثلاثين اليهود للهجرة إلى فلسطين حين استطاعت الحركة الصهيونية جعل فلسطين "الخيار الآمن"، بعد أن تمكنت من إغلاق أبواب الهجرة من ألمانيا والمناطق المحاذية إلى كندا وأميركا وأماكن أخرى. من أجل تسهيل الأمر، كان هناك تنسيق بين ناشيطين صهاينة في فلسطين وغيرها والنظام النازي في المانيا ومن بين أبرزها التنسيق الذي دأب عليه  يئير شطيرن من مؤسسي عصابة "الليحي" في فلسطين (الذي تزعمها إسحق شامير الذي أصبح رئيس وزراء اسرائيل في سنوات الثمانينات من القرن العشرين) مع النظام النازي عن طريق السفارة الألمانية في أنقر، تركيا.

عرب 48: ولكن الحقائق التاريخية تشير إلى دعم الحركة الصهيونية لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية، وتجند آلاف اليهود في الجيش البريطاني، جرى استغلال قدراتهم القتالية وعلاقاتهم العسكرية لأغراض تنظيم وتسليح القوات الصهيونية؟

إغبارية: صحيح كان هناك مجندون يهود في الجيش البريطاني وكان هناك مجندون عرب في نفس الوقت، ولكن دعم بريطانيا كان واضحا لليهود. بريطانيا هي التي دعمت المشروع الصهيوني بكل ما أوتيت من قوة وعملت في نفس الوقت بكل ما تملك من أجل إضعاف وضرب  الشعب الفلسطيني بكل جوانب حياته السياسية والاقتصادية والثقافية حتى لا يستطيع إقامة دولته المستقلة على تراب وطنه فلسطين. فحين انتهت الحرب دأبت بريطانيا على تسريح الجنود اليهود منظمين في إطار وحدات عسكرية منظمة مع كامل السلاح الذي استعملوه خلال الحرب، أما الجنود العرب فقد تم تسريحهم بالعودة الى بيوتهم بعد تسليم أسلحتهم. في نفس الوقت كان للحركة الصهيونية قبل الحرب وخلالها خطوط مفتوحة مع ألمانيا، كما أنها بقيت على علاقات جيدة مع الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية لاحقا، وعلاقة قوية مع السلطات الأميركية بعد انتقال مركز نشاطها من أوروبا الى الولايات المتحدة في بداية سنوات الأربعين من القرن العشرين، واستفادت من تلك العلاقات المتشابكة سياسيا وخاصة على إثر بداية الحرب الباردة والتنافس القوي لنشر السيطرة في العالم بين الدولتين الكبار على إثر الحرب العالمية الثانية (الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة) من خلال دعم كلاهما لقرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة، قرار 181 للجمعية العامة، ليحصل وفقه الصهاينة على حوالي 56% من أراضي فلسطين حين لم يزد عددهم حينها في فلسطين على ثلث السكان، وعسكريا من خلال صفقات الأسلحة من الدول الشرقية، والتي كان أبرزها صفقة السلاح التشيكية.

عرب 48: هناك من يقول إن الصفقة التشكية هي التي حسمت "الحرب"، ولكن الصهيونية نجحت في الإمساك بطرفي معادلة المنتصرين بعد الحرب الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، مثلما نجحت بعد الحرب العالمية الأولى بإمساك طرفي المنتصرين بريطانيا وفرنسا، بينما كنا نحن، العرب والفلسطينيين، مع الطرف الخاسر؟

إغبارية: الصفقة التشيكية ساعدت على حسم معارك في تلك "مسرحية الحرب" مثل معركة باب الواد، أي السيطرة على القدس، ولكن كان ميزان القوى العسكري واضحا لجانب العصابات الصهيونية المسلحة بأحدث الأسلحة في تلك الأيام منها الطائرات والدبابات والأسلحة الثقيلة أما القوات العربية فقسم لم يكن جاهزا كما تجلى من مواقف رئيس الأركان الجيش المصري في تلك الأيام، وقسم آخر تسلح بسلاح فاسد كما حدد أحد الشهود، جمال عبد الناصر، الذي قاد لاحقا الثورة المصرية في عام 1952 ليصبح رئيس مصر حتى 1970، الذي كان خلال تلك المسرحية أحد الجنود المصريين وتم محاصرته في معركة الفالوجة. لا ننسى أن عصابات الهاغانا، عصابات مسلحة نشطت في فلسطين قد تشكلت عام 1920. على مستوى آخر عملت الحركة الصهيونية على كسب تأييد مختلف القوى الفاعلة على الساحة الدولية. بعد انتهاء دور بريطانيا كدولة عظمى عام 1939 نقلت نشاطاتها الى الولايات المتحدة الامريكية، ونجحت في مؤتمر بالتيمور الذي عقد في الولايات المتحدة عام 1942  بالحصول على موقف امريكي يدعم إقامة دولة يهودية في فلسطين وإقامة جيش يهودي في فلسطين من اجل تحقيق هذا. وحددت الحركة الصهيونية بموقف مخادع أن تلك الدولة ستسبح في العالم اللبرالي الغربي، بينما كان هناك اتصالات مع المخابرات الروسية تشير إلى أن تلك الدولة، بسبب خلفيتها العمالية واصل المهاجرين من روسيا، ستكون دولة اشتراكية، أي سوف تسبح في فلك الاتحاد السوفياتي. بهذه الخدعة استطاعت كسب تأييد  الطرفين وكل طرف، رغم بداية التنافس بينهما حالا بعد الحرب العالمية الثانية فيما عرف لاحقا بالحرب الباردة، بدأ يعتقد أن إقامة دولة اسرائيل سوف يخدم مصالحه الاستراتيجية في المنطقة.  أما بالنسبة للعرب، فحكامهم من الأمراء والملوك والمشايخ أمثال عبدالله وغازي وفاروق وغيرهم، كانوا مجندين في خدمة بريطانيا لتنفيذ تلك المسرحية التي عرفت بحرب 48. وكان هذا خدمة لإقامة دولة يهودية نظيفة من الفلسطينيين تكسب ود وتعاطف العالم كـ"ضحية" تعرضت لهجمات من سبع جيوش عربية، أو لترفع معنويات المستوطنين الصهاينة بتحقيق "انتصار عسكري" حاسم على تلك الجيوش.

عرب 48: أنت تعود الى "الثالوث" الذي يسميه البعض دنسا، ويحمله مسؤولية نكبة فلسطين الذي يتشكل من الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية، ولكن ماذا مع الجيوش الدول العربية التي حاربت في فلسطين؟

إغبارية: إضافة إلى كل ما قيل وكتب عن مسرحية "حرب 48"، فقد دخلت الجيوش العربية السبع تلك "الحرب" دون أن تكون على استعداد لذلك، ودون أوامر، "ماكو أوامر"، أي من دون بوصلة ومن دون خطة مبرمجة، وكان أغلبها مسلحا بأسلحة الفاسدة. وفي السنوات الأخيرة ظهرت براهين وأدلة التاريخية الدامعة: هناك وثائق رسمية تم الكشف عنها حديثا، تشير إلى أن المخابرات والدبلوماسية البريطانية كانت وراء إرسال الجيوش العربية لفلسطين، وخلق حالة تطبق فيها للوهلة الأولى سبعة جيوش عربية على قوة صغيرة، في حين أن المواجهة على الأرض هي بين حوالي 30 ألف جندي عربي مزودين بسلاح فاسد دون بوصلة واضحة، وبين حوالي 70 ألف مسلح صهيوني مدربين ومسلحين بأحدث الأسلحة في تلك الأيام.

وهناك عدة تفسيرات لضرورة خلق مثل هذه الحالة، منها وأهمها استكمال عملية تهجير الفلسطينيين تحت دخان الحرب، علما أن التطهير العرقي في فلسطين بدأ بعد ساعتين من صدور قرار التقسيم في 29/11/ 1947، حيث يفيد المؤرخ إيلان بابه أنه حتى تاريخ 15/5 كان قد تم طرد وإخراج 250 ألف فلسطيني من بيوتهم بغير حق، بينما يقدر المؤرخ إبراهيم أبو جابر العدد بـأكثر من 400 الف مهجر. على سبيل المثال نذكر انه كان قد تم احتلال القدس وارتكاب مذبحة دير ياسين في 9/4/1948، إضافة إلى احتلال حيفا في 22/4 ويافا في 24/4/1948 أي قبل 14/5 موعد انسحاب القوات البريطانية المحتلة لفلسطين مما يتنافى مع الرواية الصهيونية التي تحدد أن مشكلة اللاجئين قد نتجت بسبب هجوم الجيوش العربية وخلق حالة حرب على إثر إعلان إقامة دولة إسرائيل في 15 أيار 1948.

عرب 48: ولكن أين كان الفلسطينيون؟

إغبارية: كان تأثير الثورات التي قام بها الفلسطينيون منذ احتلال بريطانيا لفلسطين في كانون الأول 1917 ضعيفا في نهاية الأمر ولم يتكلل بالنجاح للأسباب التالية: أولا: استطاع الاحتلال البريطاني، ولا أقول الانتداب البريطاني، لفلسطين منذ اليوم الاول من ضرب البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشعب الفلسطيني. تم استهداف قادته منذ البداية وكانت السياسة إما القتل وإما التهجير من الوطن ونجحت بريطانيا في ترسيخ سياسية فرق تسد. ثانيا، لعب انتشار الجهل بين الفلسطينيين والعرب  دورا سلبيا في دعم انقسام الفلسطينيين في العشرينيات  من القرن العشرين. ثالثا، نشطت العصابات الصهيونية بتصفية بؤر المقاومة الفلسطينية ومنظماتها وكوادرها قبل 1948 وقد عملت لهذا الغرض عصابات الهاغاناة، والإتسل والليحي ولم يكن هناك أي تردد في إقامة عصابات مثل عصابة قادها الضابط البريطاني وينغت. رابعا، لم تكن هناك إستراتيجية فلسطينية للاعتماد على الذات. فحين اكتشف الفلسطينيون ضعفهم في نهاية سنوات العشرين استنجدوا بالمسلمين من اجل نصرتهم فدعوا إلى عقد المؤتمر الإسلامي الأول في المسجد الأقصى في عام 1931 وحضره المئات من المسلمين من بينهم رياض الصلح من لبنان وعبد العزيز الثعالبي من شمال أفريقيا ومحمد إقبال من الهند، وخرج المؤتمر بقرارات لم يتم تنفيذها على ساحة الواقع حتى اليوم. رغم إنني لا أقلل من أهمية الدعم الخارجي، إلا أنه كان أحرى بالفلسطينيين أن يستنجدوا بأنفسهم أولا، وأن يجمعوا الطاقات الداخلية الكامنة والهائلة ويوحدوها ويفجروها. خامسا، كان التدخل العربي الرسمي سلبيا منذ البداية وساعد على إحداث النكبة. ففي عام 1919 وقع الأمير فيصل على اتفاقية فيصل - وايزمن معترفا بتصريح بلفور، وفي سنوات الثلاثين تدخل قادة العرب (فاروق وغازي وعبد العزيز وعبد الله ) لوقف وإفشال الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936-1939، حيث كانت بريطانيا بحاجة ماسة للتهدئة  لمواجهة الحرب العالمية الثانية التي كانت على الأبواب.

عرب 48: ما هي الدروس المستفادة؟

إغبارية: انقسامات العرب وفشلهم في أن يأخذوا أمورهم بأيديهم ما زالت هي سبب نكباتهم وهزائمهم، وانقسام الفلسطينيين وفشلهم بأن يعتمدوا على أنفسهم، يفجروا طاقاتهم الهائلة الكامنة، ويمسكوا بزمام أمورهم بمعزل عن الأنظمة العربية هو سبب نكبة الفلسطينيين وإخفاقاتهم.  نظرة تاريخية شاملة على التطورات تجعلنا نوقن أن هناك رغم استمرار النكبة ونزف الجراح كثير من المكاسب والإنجازات، ولا يمكن إنكارها حين نرغب في فهم ما يدور اليوم بعد 70 سنة من بداية النكبة الفلسطينية. الشعب الفلسطيني اليوم أكثر عددا ومنتشر في مختلف بقاع الأرض وأكثر وعيا لما يدور تجاه قضيته، وأكثر استعدادا للتلاحم حول هويته ومصالحه المشتركة، ولا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي والتقدم التكنولوجي في الاتصالات والمواصلات تلعب دورا في هذا، وأكثر استعدادا للعمل الجماعي على مختلف المستويات، وفي النهاية أكثر استعدادا لتحدي ومواجهة الظلم. 


د. مسعود إغبارية: أنهى شهادة الماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة العبرية في القدس وشهادة الماجستير في قسم التاريخ من جامعة جورج تاون في العاصمة الأميركية واشنطن، وحصل على شهادة الدكتوراة في قسم العلوم السياسية من جامعة ماريلاند الأميركية، وهو باحث ومحاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية بنابلس.

كما استخدم المصطلح الكاتب والمؤرخ الفلسطيني «عارف العارف» (1891-1973) في كتابه «نبكة فلسطيني والفردوس المفقود»، والذي رأى أن النكبة بدأت على الفلسطينيين منذ اليوم الذي صدر فيه قرار التقسيم 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 إلى اليوم

التعليقات