الناصرة: من ينقذ سوق البلدة القديمة؟

بين من يرى أن عملية إحياء سوق البلدة القديمة في الناصرة مستحيلة، وبين من يعتقد بأنها قابلة للتحقيق، يبزغ الأمل إلى واقع أفضل يصنعه تجار السوق وسكانه، بالتعاون مع أهل المدينة وبلديتها وهيئاتها الشعبية.

الناصرة: من ينقذ سوق البلدة القديمة؟

البلدة القديمة في الناصرة (تصوير "عرب 48")

بين من يرى أن عملية إحياء سوق البلدة القديمة في الناصرة مستحيلة، وبين من يعتقد بأنها قابلة للتحقيق، يبزغ الأمل إلى واقع أفضل يصنعه تجار السوق وسكانه، بالتعاون مع أهل المدينة وبلديتها وهيئاتها الشعبية.

وبين متشائم مثل حمودة زبيدي، من سكان البلدة القديمة، الذي يقول إنه "لا يمكن إحياء الميت"، وبين وفاء زهر، التي تقول: "نحن نصنع الأمل ونعيد السوق إلى سابق عهده"، تتواصل المحاولات المستمرة لتنظيم نشاطات وفعاليات يوميا لجعل سوق الناصرة ينبض بالحياة مجددا بعد سنوات طويلة لم يكن فيها سوى
"جثة سوق"!

إغلاق 200 من أصل 300 محل

يوجد في سوق البلدة القديمة بالناصرة أكثر من 300 محل تجاري، جميعها كانت مفتوحة قبل عشرات السنوات وكانت تستقطب الآلاف يوميا ممن يصلون إليه من البلدات القريبة والبعيدة، وفي نهايات الأسبوع كانت تصل أعداد الوافدين إليه بعشرات آلاف الزوار.

ويختلف الحال، اليوم، فالداخل إلى سوق الناصرة يلاحظ أن معظم محاله التجارية مغلقة، 200 من أصل 300 محل تجاري أغلقت لعدة أسباب، وهو أمر يبعث على الحزن والكآبة في سوق كان ينبض بالحياة وأصبح موحشا وكأنه مكان أشباح.

المراكز التجارية بدل السوق!

اتخذت بلدية الناصرة خطوة فارقة في تاريخ السوق والبلدة القديمة في العام 2000 حين قررت تفريغه كليا من المحلات التجارية ونقل حوانيته إلى ميدان مؤقت في وسط المدينة من أجل ترميمه، ومن ثم إعادتها إليه مجددا، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فقد طالت عملية الترميم لسنوات وسئم تجار السوق البقاء في "بسطاتهم" المؤقتة التي لا تقي حر الصيف، ولا برد الشتاء، وبدأت عملية انتقال تدريجية إما إلى أسواق خارج المدينة أو لفتح محلات جديدة على الشارع الرئيسي للمقتدرين منهم مع تبدد حلم العودة إلى السوق.

حين انتهت عملية الترميم لم تجد البلدية أولئك التجار الذين سيعودون إلى محالهم التجارية، وغابت عن أذهان الزوار كلمة "سوق المدينة"، خاصة أن تلك الفترة تزامنت مع افتتاح عدد من المراكز التجارية الحديثة والضخمة مثل "بيغ فاشن" و"دودج سنتر" والمركز التجاري "ليف هعير"، وشكّلت بدائل لسوق البلدة القديمة الذي كان القلب النابض لمدينة الناصرة.

هذه الكلمات المختصرة تُجمِل عملية "موت" سوق البلدة القديمة في الناصرة، تدريجيا، وتحوّله إلى "جثة" وإلى "مدينة أشباح" لا يسمع فيها سوى صدى صوت بعض تجار الخضار، بعد أن كان نابضا بالحياة، وشكل جزءا من التراث والتاريخ لمدينة البشارة.

شهدت السنوات الأخيرة استقرارا نسبيا، عزّز من حركة السياحة الوافدة إلى البلاد، وإلى مدينة الناصرة التي تحمل رمزية مهمة للعالم المسيحي. والناصرة ليست فقط شارع بولس السادس (الرئيسي) وعين العذراء، وكنيسة "البازيليكا" الكبيرة، أدرك بعض سكان المدينة أن لديهم كنز سياحي غير مستغل اسمه "البلدة القديمة" وبدأ عدد منهم ينفذ مبادرات فردية تهدف إلى إنعاش البلدة القديمة، سواء من خلال ترميم بعض المباني القديمة وتحويلها إلى بيوت للضيافة بسبب النقص في عدد الغرف الفندقية، وبطبيعة الحال يكون ثمن المبيت فيها أقل من الفنادق، خاصة لأولئك الحجاج الذين يصلون فرادى لزيارة الأماكن المقدسة، وليس في مجموعات كبيرة ومنظمة.

15 بيت ضيافة

الشاب سلام ضاهر، هو أحد المبادرين لإقامة بيت للضيافة ومقهى داخل البلدة القديمة، حاصل على اللقب الأول في موضوع السياحة، قال لـ"عرب 48": "أتعاون مع السائحين الذين يصلون إلى البلاد في رحلات غير منظمة، وأقدم لهم الخدمات السياحية منذ لحظة وصولهم إلى المطار، مواصلات ونقل وجولات داخل المدينة، وضيافة في 'ديوان ضاهر' الذي بدأ بأربع غرف ضيافة قبل بضع سنوات ومرّ بمراحل توسعة وترميم ليصل عدد غرفه إلى 10 غرف".

سلام ضاهر

وأضاف أنه "في البلدة القديمة، اليوم، نحو 15 بيتا للضيافة، جميعها مجتمعة تضم نحو 100 سرير، أي أنها لا تساوي عدد غرف فندق واحد"، مؤكدا على "ضرورة مواصلة هذه المبادرات وغيرها لتعزيز الحركة السياحية في البلدة القديمة، مع وجود مبادرات لفتح مطاعم ومراكز ثقافية وترفيهية داخل البلدة القديمة كالمركز الثقافي 'ليوان' و'زاوية غادة' ومقهى 'مها' و'ريكامو' للأشغال اليدوية والتطريز والصياغة ونادي البلدة القديمة الثقافي الذي ينظم العديد من الفعاليات المميزة، بمبادرة وإشراف الشاب بهاء سليمان، والعديد من المبادرات الأخرى".

وأعرب ضاهر عن أمله بأن يعود سوق الناصرة والبلدة القديمة القلب النابض للمدينة، مؤكدا أن "الأمر ممكن. لا شيء يوقف هذه الحركة السياحية سواء الداخلية أو الخارجية سوى وقوع حرب لا سمح، وهو أمر لا نريده".

ثقافة وتراث وفلكلور

صاحبة محل "ريكامو"، وفاء زهر، هي إحدى المبادرات التي تهدف إلى تنشيط الحركة في البلدة القديمة، قالت لـ"عرب 48"، إن مبادرتها مع جارتيها ريم أبو خضرة وسناء مزبر، لا تهدف بالأساس إلى تحقيق الكسب المادي بقدر ما هي مبادرات تعيد للبلدة القديمة أصالتها وتاريخها وتراثها.

وفاء زهر

وكذلك هو الأمر لدى صاحبة "زاوية غادة" في البلدة القديمة، غادة بولس، التي قالت لـ"عرب 48" إنها تقيم زاويتها في مبنى عثماني تاريخي.

وأكدت بولس أن "الملتقى يهدف للتعرف على حضارتنا وتراثنا من خلال تنظيم برامج وأمسيات ثقافية لمناهضة العنف ضد المرأة وضد الأقليات المختلفة. 'زاوية غادة" مفتوح أمام السائحين من كل الأجناس، وفيها مقهى وزاوية أشغال يدوية خاصة، وفيها نروي للضيوف عن التراث والفلكلور والمعتقدات والارتباط بالأرض لأن هذا الموضوع يعني لي الكثير".  

وقال صاحب محل لمستلزمات العرائس، سهيل فرح، لـ"عرب 48" إنه رغم الهزات التي شهدها سوق البلدة القديمة إلا أنه يرفض أن يغادر المكان منذ العام 1961، وأضاف أن "سوق الناصرة لا مثيل له في العالم"، وبارك فرح المبادرات الجديدة ومحاولات إنعاش السوق، واصفا اياها بأنها مساهمات من شأنها أن تعيد الحياة للسوق.

سهيل فرح

أما عادل أبو ربيع، صاحب معرض للأزياء في سباط الشيخ بالبلدة القديمة، فبدا متشائما، وكان محله مهملا لعدم إيمانه بإمكانية إعادة الحياة إلى السوق. وقال لـ"عرب 48" إن "غياب المحفزات تحول دون عودة الحياة إلى البلدة القديمة، وافتقار المنطقة لمواقف السيارات هي سبب إضافي يجعلني غير مقتنع بإمكانية عودة الحياة إلى السوق القديم".

وانتقد أبو ربيع أهالي المدينة الذين لا يبالون بالسير على الأقدام لمسافات طويلة وهم يتسوّقون في بلدات أخرى، ولكنهم لا يفعلون ذلك في الناصرة، بل يريدون أن تصل بهم السيارة إلى باب المحل!

نواقص ومطالب

معظم أصحاب المبادرات الجديدة في السوق والبلدة والقديمة تحدثوا عن بعض النواقص التي ينبغي على البلدية أن تعالجها، وأهمها موضوع الإضاءة، فالبلدة القديمة موحشة إلى حد الرعب في ساعات المساء، لذلك فإن جميع المحال التجارية تغلق أبوابها الساعة الثالثة بعد الظهر، باستثناء المطاعم والمقاهي التي تنظم فعاليات مسائية للسائحين والمحليين، ولا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة.

وتخالف هذا الرأي الشابة مها شحادة، صاحبة مقهى "مستكة" القائم عند "درب الحجاج" في مدخل البلدة القديمة منذ بضعة أشهر، وقالت لـ"عرب 48" إن "البلدة القديمة ليست موحشة، بل على العكس أشعر بالأمان هنا، صحيح أن الحركة ضعيفة وأن إلغاء سوق الميلاد أثر سلبا علينا، لكننا مستمرون".

15 شيكلا في اليوم

وقالت شحادة إنها كسائر أصحاب المبادرات الجديدة في السوق، فالمقهى ليس مصدر رزقها الأساسي، مشيرة إلى أنها في بعض الأيام لا تبيع بمبلغ 15 شيكلا! إلا أن ذلك لن يمنعها من الاستمرار.

وتوجه أصحاب المبادرات بشكل فردي إلى المسؤولين في البلدية، مطالبين بتحسين ظروف البلدة القديمة من ناحية الإضاءة وتوفير الأمان للراغبين بالتجول فيه في ساعات المساء، قبل أن يعلموا بأن هناك لجنة للتجار وأنه من الأنسب أن يتم التوجه للبلدية في إطار اللجنة بدلا من أن يعرض كل تاجر مطالبه كما يحلو له.

تعزيز الانتماء للبلدة القديمة واجب وطني

وتوجه "عرب 48" إلى رئيس لجنة التجار والحرفيين في السوق والبلدة القديمة، محمد أبو رحال، فقال: "نحن لا نكف عن مطالبة البلدية بتحسين ظروف السوق، وبالقيام بالمزيد من البرامج والفعاليات التي تحفز الناس على زيارة السوق، والبلدية متجاوبة معنا إلى حد كبير، لكن ما ينقصنا هو نشر ثقافة الانتماء للبلد. نريد أن يعلم أهالي المدينة بأن تمسكهم بالسوق وزيارته والتجول فيه والحفاظ عليه مهمة وطنية من الدرجة الأولى".

محمد أبو رحال

وبارك أبو رحال المبادرات الجديدة، وقال إن "معظمها تشدد على التراث والفلكلور والثقافة التي من شأنها أن تعيد للبلدة القديمة أصالتها".

وأكد أن "إهمال السوق من قبل أهل المدينة من شأنه أن يفسح المجال أمام جهات مشبوهة تحاول الدخول إلى السوق وشراء عقارات فيه خاصة عندما أصبح سعر هذه العقارات في الحضيض"!

وأكد على هذا الأمر صاحب مطعم "ديوان السرايا" في البلدة القديمة، علي أبو أحمد، وقال لـ"عرب 48" إن "المشكلة فينا نحن التجار وأهالي المدينة، نحن لا ننظر إلى المستقبل، ولم تكن هنالك جلسة جدّية واحدة لدراسة وضع السوق بشكل عميق وبعيد المدى. ينظر الواحد إلى مصلحته الشخصية بعيدا عن المصلحة العامة، اللهم أسألك نفسي! لم تكن هنالك محاولات جادة للنهوض بالسوق والدليل على ذلك أنه في الانتخابات الأخيرة للمجلس البلدي لم يطرح أي من المرشحين خطة لتطوير السوق والبلدة القديمة، مثل 'حارة كل مين إيدو إلو.' نحن لا نريد إحياء السوق بـ'الصعقات الكهربائية' بل نريده أن يتعافى، ولكي يتعافى يجب أن نحب بعضنا البعض وأن نتخلى عن الأنانية التي تقتلنا"!

يهودي يشتري بيتا في البلدة القديمة

وتبدو أجواء القلق واضحة بين الأهالي إثر الحديث عن بيع عقارات في السوق والبلدة القديمة لجهات غريبة أو مشبوهة، خاصة وأن سكان البلدة القديمة يتحدثون عن قيام مواطن يهودي من سكان منطقة "الكريوت" بشراء منزل في البلدة القديمة، والبعض يتحدث عن منزلين وآخرون يقولون إن رائحة السمسرة تفوح في أرجاء البلدة القديمة وهنالك خوف من بيع عقارات إلى جهات استيطانية.

ورافق سامي زغايرة من سكان البلدة القديمة، "عرب 48"، إلى المنزل المهجور الذي يعلم أو يعتقد معظم سكان البلدة القديمة أنه بيع ليهودي، لكنه لا يسكن فيه ولا يأتي إليه إلا نادرا!

سلّام: لن نسمح ببيع بيوت للمستوطنين!

وقال رئيس بلدية الناصرة، علي سلام، في حديث سابق لـ"عرب 48" إن أهالي السوق لا يبيعون بيوتهم لجهات استيطانية أو مشبوهة".

وأضاف أن "هنالك بيت بيع ليهودي، ونحن طلبنا بأن يتم إلغاء هذه الصفقة. من قام ببيع العقار هي الدولة التي استولت على بعض العقارات في البلدة القديمة بادعاء أنها 'أملاك غائبين'، وهذا أمر لا نستطيع أن نسيطر عليه، لكننا لن نسمح ببيع عقارات وبيوت للمستوطنين، وندعو أهالي البلدة القديمة للحذر والامتناع عن بيع بيوتهم لسماسرة أو لجهات مشبوهة".

سعدي: لا لمشاريع التهويد

وقال مسؤول ملف السوق والبلدة القديمة، سمير سعدي، لـ"عرب 48" إن "تطوير السوق والبلدة القديمة في مقدمة سلم أولويات البلدية، ونحن نقول للزائر إذا عشت أجواء السوق والبلدة القديمة، عشت أجواء مدينة الناصرة الأصيلة".

سمير سعدي

وأضاف: "هنالك ميزانية جاهزة في وزارة السياحة لتطوير السوق، لكن الحكومة أرادت تمرير هذه الميزانية عن طريق ما يسمى بـ'شركة تطوير عكا' ونحن بطبيعة الحال رفضنا دخول هذه الشركة إلى الناصرة، بسبب تجارب سابقة لهذه الشركة في عكا وغيرها. ونحن الآن نسعى للحصول على الميزانية بمعزل عن هذه الشركة".

وأكد سعدي: "نحن كفلسطينيين كانت لدينا تجربة تهويد في عكا ويافا والقدس وغيرها، وقد تعلمنا من أخطاء الآخرين، لذلك واجب علينا أن نكون على قدر من الوعي وأن نتصدى لأي مشروع استيطاني، حتى وإن كان سيمر عن طريق 'القيم على أملاك الغائبين'. نحن لسنا ضد اليهود كيهود، لكننا ضد أي مشروع استيطاني أو أي مؤامرة علينا".

التعليقات