72 عاما على النكبة: حملة "حوريڤ" 1948-1949 (30/4)

كان تخطيط ألون يقضي بأن تحتل القوات الصهيونية أبو عويقيلة، وبذلك تسيطر قواته على الطريق البرية الوحيدة الصالحة للمركبات بين مصر وفلسطين. وبعد التمركز فيها تتقدم القوات المحتلة حتى العريش فتحتلها وكل المطارات المصرية في سيناء، والتي تستخدمها الطائرات المصرية

72 عاما على النكبة: حملة

بن غوريون وألون ويدين (أرشيف الجيش الإسرائيلي)

(أهدي هذه السلسلة لروح صديقي المرحوم هاشم حمدان، الذي كان له الدور الأكبر في تشجيعي على الاستمرار بكتابتها)


الحركات العسكرية الصهيونية داخل سيناء 1948

بينما كانت القوات المصرية تنسحب على عجل من قطاع بير عسلوج - عوجا الحفير باتجاه شبه جزيرة سيناء، بعد أن نجحت العمليات الصهيونية بين 25 و27 كانون أول/ديسمبر 1948، في احتلال أهمّ المواقع العسكرية المصرية في هذا القطاع، كما تقدم في الحلقة السابقة (30/3)، كانت القوات الصهيونية في العوجا تتحضّر للتقدّم إلى أبو عويقيلة (أبو عجيلة) داخل الأراضي المصرية لاحتلالها، كونها تقع على مفترق هام يسيطر على الطريق الوحيدة التي تصل بين فلسطين ومصر (ما عدا سكة الحديد التي تمرّ من رفح بجانب شاطئ البحر المتوسط حتى قناة السويس). كان احتلال أبو عويقيلة من شأنه أن يؤدي إلى السّيطرة على الطريق التي تربط بين العوجا ومدينة الإسماعيلية، تقُطَع خطوط إمدادات الجيش المصري الموجود في قطاع غزة - رفح.

كان هدف حملة "حوريڤ"، كما جاء في أمر الحملة، هو احتلال كل المواقع التي يسيطر عليها الجيش المصري بعد القضاء عليه، عبر مهاجمة عوجا الحفير والعسلوج وغزة، ولذلك أطلق عليها اسم حملة "ع"، حيث أنّ الحرف "ع" هو الحرف الأول من أسماء كل أهداف الحملة الثلاثة غزة بالعبرية "عزة")، عوجا الحفير والعسلوج (بير عسلوج). قائد المنطقة الجنوبية للجيش الصهيوني، الجنرال يغئال ألون، كان يخطط لتوسيع الحملة بحيث تشمل احتلال أبو عويقيلة (أبو عجيلة) والعريش في سيناء، ولذلك غيّر اسمها لحملة "حوريڤ"، نسبة إلى الاسم التوراتي لجبل سيناء، حيث نزلت الوصايا العشر على النبي موسى عليه السلام.

كان تخطيط ألون يقضي بأن تحتل القوات الصهيونية أبو عويقيلة، وبذلك تسيطر قواته على الطريق البرية الوحيدة الصالحة للمركبات بين مصر وفلسطين. وبعد التمركز فيها تتقدم القوات المحتلة حتى العريش فتحتلها وكل المطارات المصرية في سيناء، والتي تستخدمها الطائرات المصرية في الحرب. أمّا احتلال العريش فسيؤدي إلى قطع سكة الحديد الوحيدة بين مصر وفلسطين، وبذلك يصبح الجيش المصري المركزي في قطاع غزة - رفح، محاصرًا بشكل كامل. كان ألون يعرف أن الدولة المصرية لن تسمح باحتلال العريش، حيث أن أغلب الجيش المصري كان متواجدًا في فلسطين، بحيث بقيت في مصر سريتان من الجيش المصري وثلاث سرايا احتياط فقط، وهذا يعني أنّ محاصرة وحدات الجيش المصري في فلسطين ستؤدي إلى بقاء الدولة المصرية الكبيرة بدون حماية تقريبًا، ما عدا من قطعات الجيش البريطاني المتواجدة على قناة السويس.

حَسِبَ ألون أنه كان سيكتفي باحتلال أبو عويقيلة واستعمالها مركزًا لتنفيذ غزوات أو هجمات سريعة على العريش ومطاراتها، بدون أن يقوم باحتلالها. هذا، أيضًا، سيؤدي إلى إرسال قوات مصرية من غزة ورفح لحماية العريش، ولكن هذا - حسب ألون - سيؤدي حتمًا إلى إطالة فترة المعارك، وهذا لن يكون في صالح الكيان الصهيوني، لأنّ مصر ستتوجه لمجلس الأمن الذي سيفرض وقفًا لإطلاق النار، خلال أسبوع أو أسبوعين على الأكثر من بداية الحملة. لذلك، رأى ألون أن الأمر يحتاج إلى حسم سريع، وهذا لن يحدث إلا إذا احتُلّت العريش نفسها.

كان ألون شبه متأكد أنّ خطته "الجريئة" لن تكون مقبولة على القيادة العامة للجيش الصهيوني، وبالأخص ستقابل برفض قاطع من رئيس الحكومة المؤقّتة ووزير الأمن، ديفيد بن غوريون، لأسباب سياسية بحتة، إذ إن بن غوريون كان مهتمًا بعدم الاصطدام بتاتًا مع الحكومة البريطانية بشأن الحرب في فلسطين، ولذلك كان يتحاشى أي خطوة عسكرية من شأنها إغضاب السياسيين البريطانيين، وخاصة أنه وأركان دولته "الفتية" تجاوزوا كل تفويض حصلوا عليه من الأمم المتحدة وخاّصة من بريطانيا والولايات المتحدة، ليس بتوسيع رقعة الدولة اليهودية بحيث تجاوزت حدودها المنصوصة في قرار التقسيم فحسب، بل بالكمية الهائلة للمُهجّرين الفلسطينيين من الأراضي التي احتلت من قبل الجيش الصهيوني.

يعترف ألون في كتابه "في حيل الحرب" أنّه أخفى نيته في توسيع رقعة أهداف الحملة عن القيادة العامة للجيش الصهيوني برئاسة يغئال يادين، وعن الحكومة الصهيونية المؤقتة، وعزى ذلك إلى أنه بهذا إنّما يستعمل صلاحياته كقائد للمنطقة الجنوبية للجيش، وحيث أنّه كان مخوّلًا بتنفيذ مداهمات في المناطق التي تدور فيها المعارك، لذلك رأى أنّ عليه أن يقضي على قدرة الطائرات المصرية على شنّ طلعات جوية ضد جنوده، والطريقة الوحيدة لذلك تقتضي، بالضرورة، احتلال المطارات المصرية في سيناء، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بواسطة جنود مشاة، إذ ليست لديه طائرات كافية من أجل تنفيذ هذه المهمة. كما ادّعى ألون أيضًا أن عملية كبيرة مثل حملة "حوريڤ" لا يمكن تخطيطها بشكل دقيق حتى التفصيل الأخير، وأنّ التقدم في الحملة سيتم حسب الوضع في الميدان، ولذلك ترك خيار الولوج إلى سيناء واحتلال العريش لما يمكن أن يحدث حال احتلال قطاع عوجا الحفير - بير عسلوج، ومدى صمود قطاع غزة - رفح أمام هجمات قوات "غولاني".

أمّا مدير عمليات حملة "حوريڤ"، يتسحاق رابين، فيقصّ في كتابة "دفتر الخدمة" ما حدث عندما ذهب لمقابلة يادين ليطلعه على قرار الدخول إلى سيناء "في 27 كانون أول/ديسمبر قرّرنا الدخول إلى مصر، واحتلال أبو عويقيلة ومحاولة الوصول إلى العريش. ولأنّ هذا انحراف عن الخطة الأساسية، سافرت للقاء يادين في تل أبيب، للحصول على موافقته. يادين، الذي كان مريضًا، سمع ووافق على الخطة. لم أشرح كل تفاصيل الخطة. كان هناك أساس للاعتقاد بأنّ عرض الخطة كاملة للوصول إلى العريش سيجعل قيادة الأركان تعتقد أننا أصبنا بالجنون".

القوات الصهيونية تتوجه إلى أبو عويقيلة

حسب خطة حملة "حوريڤ"، كانت مهمة الدخول إلى سيناء تقع على عاتق اللواء "شموني" المدرع. لكنّ خسائره في معركة العوجا، وخاصة كتيبة الإغارة (الكتيبة التاسعة)، التي أنيط بها حسب الخطة أن تنطلق إلى أبو عويقيلة حال احتلال العوجا، أدت إلى تغيير في الخطة، بحيث ولِّيَ لواء "هنيغيف" بأن يقوم هو بهذه المهمة، بمعاونة الكتيبة الثانية فقط من لواء "شموني".

في ليلة 28 كانون أول/ديسمبر 1948، صدرت أوامر المنطقة الجنوبية للجيش الصهيوني بالدخول إلى سيناء واحتلال أبو عويقيلة، ولمّا كان ليادين ما يقال على الدخول إلى أرض مصرية، أصدر أمره إلى ألون للسفر إلى تل أبيب لمناقشة هذا الأمر معه، إلا أنّ الأخير وكّل رابين قائد عملياته بمقابلة يادين عوضًا عنه. فما كان من رابين إلا أن ادّعى أن الهدف هو الإغارة على أبو عويقيلة فقط، ومن ثم عودة القوات إلى داخل فلسطين.

استمرّت القوات المشاركة في الحملة على سيناء بتحضير نفسها طوال صباح يوم 28 كانون أول/ديسمبر، ومن ضمن التحضيرات أُهّلت سيارات ومدرّعات مصرية، استولي عليها خلال معارك العوجا. في الساعة 14:15 بدأ الطابور العسكري بالتحرك باتجاه أبو عويقيلة، والتي تبعد 35 كم إلى الغرب من عوجا الحفير، بحيث تتقدم الكتيبة التاسعة / "هنيغيف"، المكونة من سرية إغارة ميكانيكية، وسرية مشاة محمولة على عربات، وسرية سيارات الجيب، وسرية مساعدة، مع بطارية مدفعية ميدان ومدفع مضاد للدبابات عيار 6 أرطال محمول على نصف مجنزرة. من خلف الكتيبة التاسعة سارت قيادة لواء "هنيغيف" برفقة الكتيبة الثانية / "شموني"، المكونة من فصيلة دبابات، وسرية مدرعة، وسرية سيارات جيب، وسرية مشاة محمولة على عربات، ومن خلفها الأسلحة المساعدة والمكونة من بطاريتي مدفعية "كروپ" 75 مم، وبطارية مدافع هاون عيار 120 مم، وبطارية مدفعية مضادة للدبابات عيار 6 أرطال. بعدها سارت الكتيبة السابعة مشاة/"هنيغيف"، والمكونة من ثلاث سرايا بنادق، وسرية مساعدة.

في الساعة 16:30، أطلقت طائرتان صهيونيتان النيران على الطابور الصهيوني المتقدم إلى داخل سيناء، ظنًا منهما أنه طابور مصري، بسبب السيارات العسكرية المصرية التي كانت ضمن المركبات المتقدمة. عندها، طالبت قيادة الطابور، مركز عمليات الحملة بأن يطلب من الطيارين وقف هجومهما على القوة الصهيونية. عندما وصلت هذه المعلومة إلى يادين، أبرق إلى ألون مطالبًا إيّاه بوقف التقدم إلى أبو عويقيلة، أما إن كانت القوات قد أصبحت في طريقها إلى الهدف، فعليها تنفيذ إغارة على المخافر المصرية، والعودة بعدها إلى العوجا.

استمر ألون بتنفيذ خطته، ولَم يقم بالرد على برقية يادين حتى الساعة 21:00، وكان هذا ردّه: "لا يمكن وقف الحركة نحو أبو عويقيلة. عندما نحتل المكان تكون لدينا الحرية بالانسحاب إذا قررتم ذلك. للأسف يجب علينا السيطرة على الموقع، لأسباب عدة".

القائد المصري أمام قرارات مصيرية

عندما كانت قوات لواء "هنيغيف" وكتيبة من لواء "شموني"، في طريقها إلى أبو عويقيلة في الأراضي المصرية، كان لواء "إسكندروني" يشنّ هجومه على عراق المنشية، في ما سمي بعملية "حيسول"، من أجل القضاء على اللواء الرابع المصري المحاصر بكتائبه الثلاث، واحتلال جيب الفالوجا (انظر/ي الحلقة 29/2 بعنوان "صمود رجال الضبع الأسود"). كان الهدف الأساسي من هذه الهجمات، عدا الأهداف المعلنة، إجبار القوات المصرية المتواجدة في قطاع غزة - رفح، على إرسال نجدات إلى سيناء أو جيب الفالوجا، أو ربما للناحيتين معًا، فتضعف خطوطها الدفاعية المحصنّة ما يُمكّن القوات الصهيونية من محاصرتها والتغلب عليها.

في نفس الوقت، كان قائد القوات المصرية في فلسطين، اللواء فؤاد صادق باشا، يفكّر في كل الاحتمالات التي ستواجهه بسبب التحرك المفاجئ إلى داخل سيناء، والهجوم الشرس على جيب الفالوجا. وقد قرّر اللواء صادق منذ البداية عدم إرسال أي دعم إلى الفالوجا وعراق المنشية. وبدل ذلك، طلب من قائد قوات الجيب الصمود حتى آخر رمق. أما القلق الأساسي فكان يتمركز حول تقدم القوات الصهيونية داخل سيناء، حيث أن هذه الحركة تفتح أمام القوات الصهيونية عدة إمكانيات لكسب المعركة، بينما تُعتَبَر كلها سيئة بالنسبة للجيش المصري: الاحتمال الأوّل أن تتحرك القوات الصهيونية الرئيسية في حركة تطويق واسعة للقوات المصرية في سيناء وقطاع غزة - رفح من أجل أبادتها، وهذا ما كان يفكر به ألون. الاحتمال الثاني أن تتحرك القوات الصهيونية مباشرة من العوجة إلى رفح لتطويق قواعد الجيش المصري في فلسطين وعزلها عن القوات المتواجدة في سيناء، للقضاء عليها. أما الاحتمال الثالث فكان شنّ هجمات قصيرة وسريعة ضد الدفاعات المصرية في المناطق الأساسية، ومن ثم تحويلها إلى جيوب متناثرة، ثم إحكام القبضة عليها حتى تتفكك.

كان الانسحاب العام قبل حدوث أي من هذه الاحتمالات هو الحل الأسلم عسكريًا للمحافظة على الجيش المصري، ولكن اللواء صادق اختار الحل الأصعب والأخطر، وذلك لثقته بأنه لن يكون باستطاعة القوات الصهيونية تنفيذ خططها، بسبب تضاريس مثلث الأرض المحصور بين رفح والعريش وأبو عويقيلة، حيث أن هناك طريقين صالحين لمرور المركبات والمدرعات العسكرية، وهما طريق العوجا - رفح والطريق التي تربط بين أبو عويقيلة والعريش. ولذلك فإنّ أي حركة تطويق واسعة ستحتاج إلى مدرعات أكثر تطورًا ومهارات قتالية عالية جدًا لا تتوفر لدى القوة المحتلة. كذلك اعتقد اللواء صادق أن الموقف الدولي ومجلس الأمن لن يسمحا باستمرار العملية الصهيونية لفترة، بسبب تجاوزها للحدود الدولية إلى داخل الأراضي المصرية، ولذلك فلن تستطيع تنفيذ مبتغاها في القضاء على الجيش المصري. كل هذا أدّى باللواء صادق إلى عدم إرسال قوات من قطاع غزة - رفح إلى سيناء من أجل إيقاف الاعتداء الصهيوني.

احتلال "أم القطف" وأبو عويقيلة

كما توقع اللواء صادق، تقدمت القوة الصهيونية داخل سيناء ببطء شديد، حيث أنّ طريق العوجا - أبو عويقيلة كانت هي الوحيدة التي تسمح بمرور المركبات عليها، إذ كانت محاطة بالكثبان الرملية على جانبيها، وكانت هذه الكثبان غير صالحة لمرور المدرعات وسيارات الجيب عليها، بسبب أن عجلاتها، أي المركبات، ستغوص في الرمال، ولن تتمكن من الاستمرار في مسيرتها حتى الهدف.

كانت على رأس القوة الصهيونية مدرعة مصرية كان استولي عليها في معارك العوجا. عندما أصبحت هذه المدرعة على بعد 600-700 م من أم القطف، بدأت القوات المصرية من الكتيبة الخامسة مشاة، بإطلاق نيرانها باتجاه القوة المتقدمة، فأصابت قذيفة مدفعية مضادة للدبابات عيار 6 أرطال المصفحة التي في المقدمة، فاشتعلت النيران فيها، وأصيب طاقمها بحروق شديدة، ولكنه نجح في الخروج منها والهرب من جحيم النيران التي شبت في المصفحة. كانت هذه نيران الكتيبة المصرية الخامسة مشاة، والتي انسحبت على عجل من بير عسلوج، بعد سقوط مخافر العوجا وبئر الثميلة، وأتمت تمركزها بسرعة في تلال تقع على جانبي شارع العوجا - العريش في منطقة أم القطف. كانت الكتيبة المصرية مزودة بأربعة مدافع 3.7 إنش، ومدفعين مضادين للدبابات عيار 6 أرطال، و4 مدافع هاون، ومدافع رشاشة متوسطة، ومدافع رشاشة ميكانيكية.

بعد إصابة المدرعة، استمرت النيران المصرية بالانطلاق بكثافة باتجاه طلائع الطابور الصهيوني، ما منعه من التقدم باتجاه التل، وحتى المدرعات وأنصاف المجنزرات أصبحت هي أيضًا في مرمى المدفعية المضادة للدبابات، فتجمّدت القوة في مكانها، بل إنّ طلائعها انسحبت إلى الخلف، بحيث لا تشكل خطرًا على القوة المصرية، فتوقفت نيران مدافع الهاون المصرية عن القصف. عندها قرّر قائد القوة الصهيونية وقف التقدم حتى حلول الظلام، على أن يتم احتلال التبة التي تتمركز فوقها القوة المصرية بواسطة شنّ هجوم ليلي.

كانت خطة الهجوم تعتمد على تغطية بواسطة مدفعية عيار 120 مم، ومساندة سيارات الجيب المصفحة، على أن تُحتلّ التلة بواسطة سرية المشاة الثانية من الكتيبة السابعة / "هنيغيف"، وفصيلة مشاة من الكتيبة التاسعة من نفس اللواء، بحيث تقوم الفصيلة من الكتيبة التاسعة بالهجوم من الناحية الجنوبية للتل، بحيث يجبر هذا القوات المصرية على الرد بنيرانها، فتتمكن باقي القوة المقتحمة من معرفة مواقعها الدقيقة. عندها، تقوم سرية الكتيبة السابعة بالهجوم من الناحية الشمالية للتل، وتقوم سيارات الجيب المصفحة بالهجوم من الناحية اليمنى للتل وتكون مزودة بقاذفات الصواريخ اليدوية من عيار M-2، أما المدفعية الثقيلة فتقوم بالتغطية على القوات البرية بقصف مدفعي مركز على القوة المصرية المتواجدة على التل.

بدأ الهجوم عند الساعة 19:00 من يوم 28 كانون أول/ديسمبر، بالقصف المدفعي، وتقدمت قوة المشاة من الناحية الشمالية للتل، متقدمة باتجاه الغرب حتى استطاعت مفاجأة القوة المصرية من الخلف، ولكنها أطلقت القنابل المضيئة وفتحت نيران مدافعها الرشاشة باتجاه القوة المهاجمة، ما تسبب بوقوع قتلى وجرحى في القوة الصهيونية، ولكنها استمرت رغم ذلك بالتقدم، وعندما وصلت إلى بعد 80 م من الجنود المصريين، تقدمت الفصيلة الأولى من الكتيبة السابعة/"هنيغيف" في الوسط، وعلى يسارها الفصيلة الثانية، وعلى يمينها الفصيلة الثالثة. النيران المصرية الشديدة أوقعت عددًا من القتلى والجرحى في صفوف القوة المهاجمة، ما أدى إلى توقف الهجوم بسبب تزايد الإصابات. لم تستطع الفصيلة الأولى والثانية التقدم، وذلك لأن زاوية الصعود إلى التل كانت كبيرة ومن الصعب الوصول إلى القمة، خاصة وأنّ نيران المدافع الرشاشة كانت قوية جدًا. أمّا الفصيلة الثالثة فكانت مزودة بقذائف "البيات"، التي بدأت بإطلاقها باتجاه مراكز المصريين، وفِي نفس الوقت بدأت قوة سيارات الجيب بإطلاق قذائف M-2 على الناحية الشمالية للتل، أما مدافع الهاون عيار 120 مم فتركزت أيضًا باتجاه الناحية الشمالية، ما تسبّب بحالة فوضى كاملة في الجانب المصري، الذي بدأ في الانسحاب بعد سقوط قذيفة هاون على شحنة ألغام فحدث انفجار شديد، أدى إلى كسر المقاومة بشكل مفاجئ. عند الساعة 02:30 من يوم 29 كانون أول/ديسمبر 1948، كانت القوة الصهيونية قد احتلت أم القطف بالكامل، ما فتح أمامها الطريق إلى أبو عويقيلة، فسار الطابور الصهيوني إليها بنفس الترتيب السابق، بعد أن أُبقيت سرية واحدة من الكتيبة السابعة/ "هنيغيف" في "أم قطف". وصلت طلائع الكتيبة التاسعة / "هنيغيف" إلى أبو عويقيلة عند الساعة 06:00 صباحًا، وسقطت بشكل كامل بأيدي لواء "هنيغيف" عند الساعة 07:00 صباحًا من نفس اليوم، بعد انسحاب القوة المصرية المرابطة فيها باتجاه العريش.

منذ بداية حملة "حوريڤ" وحتى احتلال "ابو عجيلة" وقع في الأسر 534 من الجنود المصريين، منهم 29 ضابطًا، إثنان منهم برتبة لواء.

مدينة العريش هي الهدف، وارتداد الهجوم عليها

في الساعة 08:00 صباحًا من يوم 29 كانون أول/ديسمبر 1948، جمع قائد الحملة داخل سيناء، ناحوم ساريغ ضباطه ووزع المهام عليهم: الكتيبة السابعة/"هنيغيف" تتمركز في أبو عويقيلة بحيث تتحضر لإقامة طويلة في المنطقة. تقوم الكتيبة الثانية/"شموني" مع قوة من الكتيبة التاسعة/"هنيغيف" وبمساندة قوة من المدفعية، بالتقدم شمالًا باتجاه العريش بهدف احتلالها، وفِي طريقها إلى هناك تقوم باحتلال "بير لحفن" ومن ثم مطار العريش، وفِي النهاية تحتل مدينة العريش نفسها. وتقوم سرية مشاة من الكتيبة السابعة/"هنيغيف" بمرافقة فصيلتي سيارات الجيب من الكتيبة التاسعة /"هنيغيف"، بالتوجه لمسافة 70 كم إلى الغرب داخل سيناء، حتى تصل إلى مطار الحمّة فتقوم باحتلاله، وبمهاجمة مطار بير حسنة فتدمره، وبذلك لا يتبقى للقوات المصرية أي إمكانية للطيران من داخل شبه جزيرة سيناء.

في الساعة 12:30، بدأت الكتيبة الثانية/"شموني" بالتحرك شمالًا باتجاه العريش، وحال اقترابها من مطار العريش قامت القوات المصرية بإخلاء الطائرات المتواجدة فيه إلى مطار الحمّة الواقع على بعد 143 كم شرقي الإسماعيلية. احتلّت القوة الصهيونية مطار بير لحفن (الذي لم تعرف بوجوده في السابق)، عند الساعة 13:15، ووجدت فيه طائرة مصرية واحدة من نوع سبيتفاير صالحة للاستعمال، وسُحِبَت هذه إلى أبو عويقيلة. خلال تقدم الطابور المدرع الصهيوني باتجاه العريش، أغارت القوات الجوية المصرية عليه خمس مرات متتالية بين الساعة 11:00 والساعة 12:30، ما تسبب بتعطيل حركته لبعض الوقت، بسبب اضطراره للاختباء وراء كثبان الرمال.

تقدمت القوة الصهيونية وعلى رأسها الكتيبة الثانية المدرعة / "شموني" باتجاه العريش لساعتين إضافيتين بدون أن تواجهها أي قوة مصرية، حتى اقتربت من مطار العريش فوجدته خاليًا فاحتلته، واستمرت في سيرها نحو مدينة العريش. على بعد ثلاثة كيلومترات شمال المطار، وعند تقاطع الطريق مع وادي المعذر، أنشأت الكتيبة التاسعة مشاة من الجيش المصري خطًا دفاعيًا، على عجل، لسدّ المنافذ المؤدية إلى العريش من الجهتين الجنوب والشرقية. بعد وقت قصير من احتلال المطار، وصل الطابور الصهيوني إلى موقع الكتيبة التاسعة المصرية، ففتحت هذه نيرانها المضادة للدبابات على الرتل المتقدم، من كمين للدبابات يقع على الناحية الغربية للطريق، والذي فتح نيران مدفع "البوفرز" عيار 40 من على الدبابات الصهيونية، ما تسبب بتحطيم جنزير الدبابة الأولى. عندها، توقّفت القوة عن التقدم، وحاولت المناورة يمينًا أو يسارًا، ولكنّها لم تفلح في ذلك بسبب طبيعة الأرض وسيطرة كمين الدبابات على المنطقة. ولمّا تعذر الأمر على القوة الصهيونية، وبسبب عدم وصول قوة مشاة لمساندتها على احتلال موقع الكتيبة التاسعة المصرية في ساعات الليل، صدرت الأوامر بالعودة إلى أبو عويقيلة من أجل التحضير لهجوم كبير على العريش بعد منتصف الليل واحتلالها.

أما قوة "هنيغيف"، التي أرسلت إلى مطار الحمة، فتحرّكت في ساعات الظهر شرقًا باتجاه الإسماعيلية. على بعد 4 كم من المطار، عند سفح جبل المغارة، قرر قائد القوة بأن احتلال المطار في ساعات النهار، هو مهمة شبه مستحيلة بسبب قلة عدد جنوده، ولذلك تمركزت القوة في موقعها بانتظار الليل، حتى تقوم بمهاجمة المطار في جنح الظلام.

في ساعات المساء، وعندما تقدمت القوة الصهيونية حتى مسافة قريبة من المطار، تمكنت سيارة عسكرية مصرية كانت في طريقها إلى خارج المطار من كشف القوة ونيتها في الهجوم، فقام الضابط المصري بفتح نيران المدفع الرشاش المركب في مقدمة السيارة، على سيارات الجيب المنطلقة باتجاه المطار، ثم عاد على أعقابه مسرعًا لتحذير القوات المتواجدة في المطار من خطورة الموقف.

عندما اقتربت القوة المهاجمة حتى مسافة 300 م من المطار، فتح الجيش المصري نيرانه بكثافة من المدافع الرشاشة والبنادق، ولكن القوة الصهيونية تمكنت من الاقتراب مسافة 100 م أخرى، فتصدت لها المدفعية المضادة للدبابات، وعملت الطائرات المصرية على قصفها من الجو، ما اضطرها إلى التراجع نهائيًا عن خطتها في احتلال مطار الحمة، ففضت الاشتباك وعادت هي الأخرى إلى أبو عويقيلة.

تحركات سياسية مكثفة وانسحاب من سيناء

كان تحريك القوات الصهيونية شمالًا باتجاه العريش، قرارًا انفراديًا لقائد الحملة، ألون، والذي كان يخطط لمهاجمة مدينة رفح من خلفها بعد احتلال العريش، أو على الأقل استدراج قوات مصرية منها إلى العريش للدفاع عنها. أما اللواء فؤاد صادق باشا فكان يعتقد "أنّ اليهود ليسوا جادين في زحفهم صوب العريش، وأنّهم أرادوا أن يوهموه بأنهم يبغون احتلالها ليسحب جنوده من رفح إليها. لأنّهم كانوا يريدون مهاجمة رفح واحتلالها"، ولهذا احتفظ بجنوده في رفح وهم على أتمّ الاستعداد للمعركة الكبيرة التي ستستهدفهم. ويؤكد ألون الاستعدادات المصرية في رفح عند لقائه مع بن غوريون ويادين في 30 كانون أول/ديسمبر 1948 بقوله "في المنطقة الممتدة من شمال غزة حتى العريش توجد 7 كتائب نظامية، وهناك 5 كتائب شبه نظامية. في كل هجوم ننفذه على أي من استحكاماتهم توجد خطة لهجوم مضاد، وفِي كل مكان يوجد احتياط. يبدو أن هناك قائدًا جيدًا".

بعد دخول القوات الصهيونية إلى سيناء، توجّهت مصر إلى الأمم المتحدة وطالبت باجتماع عاجل لمجلس الأمن، بسبب "الاعتداء الإسرائيلي" على الأراضي المصرية. وتقدمت بريطانيا بمشروع قرار لمجلس الأمن مطالبة إياه بإجبار إسرائيل على العودة إلى حدود 14 تشرين أول/أكتوبر 1948 (أي قبل احتلالات حملة "يوآڤ"). أمّا وزير الحربية المصري، محمد حيدر باشا، فأبلغ بريطانيا بأن الجيش الصهيوني يقف على بعد ستة أميال من العريش. في اليوم التالي، اجتمع مجلس الأمن وأصدر قرارًا بوقف إطلاق النار حالًا، وتنفيذ قراره من تاريخ 4 تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948، والقاضي بانسحاب صهيوني إلى ما قبل حملة "يوآڤ".

بسبب المناقشة في مجلس الأمن، وخوفًا من إلزام إسرائيل بخطوات لا تكون في صالحها، وبعد أن عرفت القيادة العسكرية الصهيونية بخطة ألون لاحتلال العريش، أرسل يادين برقية عاجلة لألون عندما كانت قواته عند بير لحفن "عرفت من مخابراتنا ومن طلعات طائراتنا بأن وحداتنا تتحرك باتجاه العريش، أطلب منك إيقاف قواتنا، وعدم تحريكها بدون إذن مني"، ثم أرسل برقية أخرى: "أخبرتني طائراتنا بأنكم تتقدمون إلى العريش، ماذا يحصل هنا؟ أوقف تقدم القوات"، وفِي المساء أرسل برقية ثالثة "أعود وأكرّر أنني أمنعك من أي عملية إلى الشمال من أبو عويقيلة، بدون إذن مني".

سافر ألون بالطائرة على عجل إلى تل أبيب لإقناع يادين بخطته. وشرح له أنّ قواته تستطيع مهاجمة رفح من الخلف، لكن يادين رفض التزحزح عن موقفه، وطالب بإبقاء القوات في أبو عويقيلة. فقام ألون بدوره بالاتصال بقواته التي تتحضر لمهاجمة العريش: "لم أستطع إقناعه، انسحبوا إلى أبو عويقيلة".

حاول ألون بكل قوته إقناع بن غوريون، في صباح اليوم التالي، بوجوب تنفيذ خطته، ولكن بن غوريون أصر على موقفه خوفًا من غضب بريطانيا التي توجهت تحت الضغط المصري عليها، إلى رئيس الولايات المتحدة، ترومان، مطالبة إياه بالضغط على إسرائيل لسحب قواتها من سيناء. فقام هذا بإرسال جيمس مكدونالدز، ممثل الولايات المتحدة في تل أبيب، بإبلاغ بن غوريون بضرورة انسحاب القوات الصهيونية من سيناء، وإلّا فإنّ بريطانيا ستتدخل لصالح مصر، بسبب معاهدة الدفاع المشترك بين الدولتين. كذلك شرح مكدونالدز لبن غوريون بأنّ عدم انسحاب إسرائيل من سيناء سيؤدي بأميركا لتقييم علاقاتها مجددًا مع الكيان الصهيوني، وربما ستسحب موافقتها على قبول إسرائيل كعضو كامل الصلاحيات في الأمم المتحدة.

صدرت الأوامر الصهيونية بالانسحاب من سيناء حتى ظهر يوم الأول من كانون ثانٍ/يناير 1949، ولكن الانسحاب الفعلي تمّ في اليوم التالي، رغم محاولات ألون بإقناع القيادة العسكرية والسياسية، على حدّ سواء، بعدم جدوى، بل بخطورة الانسحاب من شبه جزيرة سيناء.

لم تتوقف المعارك بعد الانسحاب من سيناء، إذ أنّ الهجوم المركزي على قطاع غزة - رفح، لم يكن قد بدأ فعلًا، وهذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة.

(يتبع....)


المصادر:

  1. يغئال ألون، "في حيل الحرب"
  2. يتسحاق رابين، "دفتر الخدمة".
  3. نتانائيل لوراخ، "سيرة حرب الاستقلال".
  4. أردان كوهين وآخرون، "لواء ’هنيغيف’ في حرب الاستقلال".
  5. الجنرال أرييه سيئون، مجلة "معرخوت" عدد 207، مقال بعنوان: احتلال مخافر "برن".
  6. اللواء حسن البدري، "الحرب في أرض السلام، الجولة العربية الإسرائيلية الأولى".
  7. موشي غيفعاتي، "في طريق الصحراء والنار، سيرة الكتيبة التاسعة".
  8. د. مئير پعيل، هجمات الجيش الإسرائيلي على أبو عويقيلة "في ثلاثة حروب: حرب الاستقلال وحرب سيناء وحرب الأيام الستة"، مجلة "معرخوت" عدد 306-307.
  9. عارف العارف، "نكبة فلسطين والفردوس المفقود 1947-1952".
  10. بيني موريس، "1948 سيرة الحرب العربية الإسرائيلية الأولى".

التعليقات