الطرح في السياق التاريخي/ د. امطانس شحادة

تأسس التجمع الوطني الديمقراطي في بداية التسعينيات على نقاش ونقد، من جهة، وتطوير ما سبقه من طروحات سياسية للفلسطينيين في الداخل، من جهة أخرى. فقد استفاد من تفكيك الطروحات القائمة وقراءتها بطريقة نقدية ترتبط مع الواقع المتغير العاصف في بداية التسعينيات. لعل الأبرز في هذا السياق هو تزامن بروز خطاب التجمع المطالب بالحقوق الجماعية للفلسطينيين في الداخل وبدولة المواطنين مع بدايات المفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بحثًا عن ترتيب جديد للاستعمار الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية عام 1967، والتحولات الكبرى في المنظومة الدولية والإقليمية والداخلية.

الطرح في السياق التاريخي/ د. امطانس شحادة

تأسس التجمع الوطني الديمقراطي في بداية التسعينيات على نقاش ونقد، من جهة، وتطوير ما سبقه من طروحات سياسية للفلسطينيين في الداخل، من جهة أخرى. فقد استفاد من تفكيك الطروحات القائمة وقراءتها بطريقة نقدية ترتبط مع الواقع المتغير العاصف في بداية التسعينيات. لعل الأبرز في هذا السياق هو تزامن بروز خطاب التجمع المطالب بالحقوق الجماعية للفلسطينيين في الداخل وبدولة المواطنين مع بدايات المفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بحثًا عن ترتيب جديد للاستعمار الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية عام 1967، والتحولات الكبرى في المنظومة الدولية والإقليمية والداخلية.

في المحور الدولي، شهدت سنوات التسعينيات انهيار المنظومة الشيوعية والإتحاد السوفييتي مقابل انتصار المنظومة الرأسمالية الغربية. وهو ما سُوّق، حينها، كانتصار النظام الليبرالي الديمقراطي، على مساوئه، على النظام الشيوعي غير الديمقراطي. وهناك من اعتقد أننا بلغنا مرحلة نهاية التاريخ ونهاية الصراعات الأيديولوجية الكبيرة. هذا الانهيار والتحول في الساحة الدولية أدى إلى دخول أحزاب اليسار في أزمة إيديولوجية سياسية وجودية؛ ولكنه أتاح المجال بالمقابل لبروز مطالب الأقليات القومية التي كانت تقبع تحت النظام الشيوعي، ولعودة الاعتبار لوظائف ومكانة المجتمع المدني في تنظيم المجتمع والتحول الديمقراطي.

انهيار المنظومة الدولية وانتهاء الحرب الباردة مكّن الولايات المتحدة وحلفاءها من الأنظمة العربية وإسرائيل من البدء في محاولة إعادة ترتيب أوراق المنظومة الإقليمية في الشرق الأوسط؛ بداية بالحرب على العراق عام 1991 والتي أدت لخروج منظمة التحرير الفلسطينية من الخليج وما رافقها من أزمة وجودية لمنظمة التحرير، وإعلان رسمي لوفاة المنظومة العربية، ومن ثم محاولة دفع عملية تفاوض غير متكافئة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. هذه المفاوضات لم ترتكز على مبادئ الحقوق الشرعية والطبيعية التاريخية للشعب الفلسطيني ولم تسعَ للوصول إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، بل ارتكزت بالأساس على موازين قوى تميل لصالح إسرائيل، منها تضعضع مكانة منظمة التحرير وإرهاق المجتمع الفلسطيني بعد 6 أعوام من انتفاضة باسلة.

بالتوازي مع هذه التحولات الدولية والإقليمية والفلسطينية شهدت الساحة الإسرائيلية صراعًا داخليّا شديدًا على هوية وطبيعة دولة إسرائيل ومستقبلها، بين تيار سعى، ولو بشكل متواضع، إلى تحويل إسرائيل لدولة طبيعية، دون أن يتعامل مع جوهرها الكولونيالي، وبين تيار أراد التشديد على المركب الإثنيّ قبل الحداثيّ للمجتمع الإسرائيلي، يكون بعداد المركب الجامع للمجتمع الإسرائيلي والمبنيّ على الهويّة اليهودية. ونعتبر اغتيال رابين بداية المؤشرات لانتصار التيار الثاني-المحافظ، وهيمنة أحزاب اليمين الحالية على المنظومة السياسية الإسرائيلية تعزز هذا الانتصار.

في خضم هذه التحولات بدأ الفلسطينيون في الداخل بطرح الأسئلة الأصعب والتي بقيت دون تعامل جديّ منذ إقامة دولة اسرائيل، وبرزت أهميتها في ظل محاولة إسرائيل اغلاق ملفات استعمار المناطق الفلسطينية عام 1967. منها سؤال المكانة والحقوق الجماعية لأقلية وطن أصلانية تقبع تحت منظومة استعمارية، وسؤال هوية دولة إسرائيل والتناقض بين يهوديتها وديمقراطيتها.

التحولات التي سردناها، على عجالة، في هذا المقال ساهمت ودفعت إلى تعامل نقدي مع الأطر التحليلية والمفاهيم القائمة، وتفكيكها وطرح مشروع يتعامل مع خصوصية الحالة الفلسطينية في الداخل. إذ أن الطروحات التي كانت قائمة لغاية تلك الفترة لم تخرج من رحم المكانة السياسية والقانونية والاستعمارية الخاصة للفلسطينيين في الداخل إنما كانت استيرادًا لمفاهيم قائمة ومحاولة لإسقاطها على الحالة الفلسطينية؛ مع الأخذ بعين الاعتبار أن غالبيتها تصلح أو تتحقق فقط إذا بلغت السلطة، مثل الطرح الشيوعي أو الإسلامي، ولا تطرح مشروعًا يتعامل مع خصوصية الأقلية القومية.  

مشروع التجمع اشتُقّ من خصوصية الحالة الفلسطينية في الداخل، لكنه استند إلى تجارب تاريخية للحركات القومية العربية (وكذلك تجارب الشعوب الأخرى) ونما من رحمها، وربطها بشكل ثوري وخلّاق مع الطرح الديمقراطي. أدرك التجمع أنه لا يمكن لأي تيار يسعى إلى ترتيب مكانة الفلسطينيين في الداخل والحفاظ على الهوية القومية الجامعة في الوقت نفسه إلا أن يكون مشروعًا ديمقراطيًا، لأنه أولا مشروع أخلاقي ولأنه مشروع طوعي، ولأن الديمقراطية والحرية تحصن المجموعات القومية وتزيدها ترابطا وتكافؤا وقوة، ولأن التجمع شَخَّص فشل تجارب مشاريع قومية أخرى وانهيارها بسبب تجاهلها للبعد الديمقراطي في التنظيم القومي. كما شَخَّص التجمع ضرورة الربط بين القومي واليومي للمجتمع الفلسطيني؛ لأن التعامل فقط مع البعد اليومي للفلسطينيين يؤدي بالضرورة إلى الأسرلة وإلغاء الهوية الجامعة أو التعامل معها بتبسيط فلكوري في أفضل الحالات، بينما يؤدي التعامل فقط مع المركب القومي والهوية دون التواصل مع هموم واحتياجات الناس إلى خسارة الناس. هذا الربط بين القومي واليومي، أنتج الحاجة إلى تنظيم المجتمع على أساس قومي من خلال مؤسسات جمعية، والمطالبة بحكم ذاتي ثقافي وتحويل إسرائيل إلى دولة المواطنين، خاصة في فترة اعتقد البعض متوهمًا وما زال، أنها الحقبة الذهبية في علاقة دولة إسرائيل والمواطنين العرب، أي فترة أوسلو وحكومة رابين. وبهذا المعنى رأى التجمع في فترة التحولات الكبرى بداية لبروز مسألة الفلسطينيين في الداخل والحاجة للتعامل معها بشكل جماعي منظم، خاصة على أثر احتمال إقامة دولة فلسطينية. في حين رأت مجموعة أخرى أن الحقبة ذاتها تشكل بداية الحل دون أن تدرك، في أفضل الحالات، أن هذا الحل سيكون مشروطًا إسرائيليًا وعلى هامش المجتمع والدولة وخارج المشروع الوطني الفلسطيني. كما أن مطلب تحوّل إسرائيل إلى دولة المواطنين، بنظرة آنية إلى الصيرورة التاريخية يعني بما يعنيه، أن إنهاء الإحتلال والوصول لحل عادل للقضية الفلسطينية يتطلب أولا دمقرطة إسرائيل وكسر مشروعها الاستعماري، وليس العكس.

بالعودة إلى الحقبة الحالية نرى أن السياق والبيئة السياسيين المحيطان بالمشروع الوطني الفلسطيني تحولا إلى نقيض حقبة التسعينيات. النظام الدولي مرن ومتحول بحيث لم تتبلور لغاية الآن ملامح الفترة المقبلة؛ الساحة الإقليمية غارقة في الدماء والدمار، والهوية العربية تهشمت وحلت مكانها هويات قبل حداثية ترتكز إلى الانتماء القبلي أو الطائفي-الديني؛ إسرائيل حسمت أمرها واختارت، كتحصيل حاصل لكونها مشروعًا استعماريًا، الانتماء الإثني الديني والابتعاد عن الديمقراطية وحسمت رفض إقامة دولة فلسطينية واختارت إبقاء الوضع الراهن كأفضل الخيارات لإسرائيل؛ الفلسطينيون في المناطق المحتلة عام 1967 يقبعون في ثبات أوسلو وفي ظل انقسام يشل النضال الجماعي. هذه الظروف تعيد مرة أخرى أهمية إعادة تنظيم المشروع الوطني الجماعي الديمقراطي لكي يجمع كافة فئات الشعب الفلسطيني، ويطرح مشروعًا قوميًا ديمقراطيًا تتكافل فيه كافة فئات الشعب الفلسطيني في مواجهة المشروع الاستعماري الإسرائيلي، كل من مكانته وخصوصيته. هنا يبرز دور التجمع الوطني والحاجة إلى تجديد طرحه بشكل خلّاق ليتعامل مع التغيرات الحالية كما فعل بداية التسعينيات.              

*باحث في مركز مدى الكرمل 

 

التعليقات