16/02/2009 - 07:39

وحتما نكون../ محمد يوسف جبارين*

وحتما نكون../ محمد يوسف جبارين*
في قواعد اتصالنا بالمكان والزمان، وما ينضح به من حياة قائمة ومأمولة، بنحوها وصرفها، لا محل من الإعراب، ولا الصرف، للجزء الثاني من القول: نكون أو لا نكون، فثمة فرق بين إشهار الإرادة لموقفها إزاء ما يعترضها، بقول ذاك القول، وبين التساؤل، هل نكون أو لا نكون، فهذا السؤال الذي لا يجب أن يكون، فأن نكون آلية، بنا كائنة، وليست بغيرنا، فهذا كياننا وكذلك نحن، وهذا ما نريد، وهكذا نكون. وهذه ال – لا نكون، متناقضة بما بنا من نزوع وبذل، إلى ما نريد أن نكونه.. هي اعتراض من جهة حسابات رسمها إحباط، جاء من يأس، دق على بوابة النفس، واستمعت إليه خلجاتها ووسوست به، فأضلت الفكر، فنزلت ال- لا، ولها وظيفة دبابة، أو طائرة، أو أسنان جرافة، تشيع الخراب، لإنتاج حس بشك في كينونيتنا، التي تزحف بها إرادتنا، منساقة بوعينا، إلى ما يريح بالنا وخاطرنا وروحنا، من استذراء بالحال الذي نضيق به ولا نطيق، إلى الحال الذي نريده أن يكون حالنا.

نحن نريد أن نصير، إلى ما نحب أن نصير إليه، فهذا مصيرنا، وليس لغيرنا أن يمسك بدلا عنا، بزمام هذا المصير.
وأما هم، فإنما يريدون أن لا نصير إلى شيء به وعي وكرامة، حتى لا يقول هذا الشيء، إني أريد حق تقرير المصير، فهم يريدون طردنا من التاريخ. هذه هي غايتهم، ولذلك هم لا يدعون استعمالا ممكنا للقوة، إلا وينزلونه في تشريد أو قتل وخراب.. يريدون أن يسدوا به الطريق علينا إلى التاريخ.

ولقد استرعاني قولك، بأنهم يريدون السلام.. لا تقل هذا مرة أخرى، بل قل يفتشون عن سلام، بإطلاق النار على السلام، يطاردونه في الكلمات، في حفيف الشجر، في زهرة تتفتح.. يقصفونه بطائرة، بدبابة، بألغام، بموت معدني، يتخفى له في كل حفنة من ظلام.

وإذا سألتهم، قالوا بأنهم يبحثون عن سلام، وفي ممارساتهم كل حقيقة ودلالة، على أنهم يمزقون السلام أشلاء أشلاء. فإذا خلت الجبال والسهول والوديان منا، ولم يعد بنا قدرة على الوقوف، على حفنة من تراب فيها، وأصبح بيننا وبينها سياج من الموت المعدني، كان ذلك هو نطاق سلامهم الذي يريدون، فالسلام هو بالتمام الأمر الذي معه يتوترون ويتنافرون، وحلهم للتناقض، قد أخرجوه من فوهة مدفع، بإلغاء الطرف الآخر للتناقض، والذي هو نحن، فكذلك يأتون بسلام له معنى واحد، أن نكون خارج التاريخ.

وهذا على قدر ما فيه من أوهام وغرور، وما يستولدانه من نزعة قوية إلى استعمال القوة، إلى أبعد حد، في عملية إنتاج حل للتناقض، بإلغاء الطرف الآخر، وعلى قدر ما فيه من مفاهيم وعقائد، تنفي الآخر بكل ما له من حقوق، فعلى قدر ما تكون إدامة الصراع واستعاره. فالأوهام آلية تغذيها أساطير، لا صلة لها بواقع، والمبادئ التي تنفي الآخر، وتتوحد حول الذات، وتنغلق عليها، في حصن ينكر كل من هو خارجه، تستطيع أن تزعج الدنيا، لكنها لن تجد الوسيلة إلى الاستقرار على السلام مع الدنيا، ومع من فيها من آخرين، فثقافة الحصن تستطيع أن توقد النار، لكنها لن تعرف كيف تطفئ هذه النار.

واني فيما أقول لا أتجاوز السردية الواقعية لغاياتهم، ولا ما يتبدى منها، في حركة الحوادث، ولا ما يتشابك في ثناياها من علاقات سببية وأحكام.
ولقد أعجبني اقترابك من تعريف معنى السلام، حين قلت بأن السلام أمن وحياة تنمو وتتطور، وقدرة أمنية وحياتية تقدر في كل الأوقات على حماية نموها وتطورها وتقدمها دوما إلى الأمام.

فعلى عمومية الكلام، وما ينقصه من ربط بنحن، وبالأرض التي تخصنا نحن، فهو السلام الذي يطلقون النار عليه، ولا يريدونه في واقع، ولا في قناعات، ولا في كلمات، ولا في همسات، ولا في خلجات.. يريدونه منفصلا عن الوعي، وعن الزمان والمكان، كشيء يقع خارج بني الإنسان، وخارج الزمان.
وهنا ينكشف معنى السلام، كجوهر محرك في علاقة القوة بالجغرافية وبالسكان.

وهذه العلاقة قد استغرقتك، وصرفت فيها كلمات، بها برودة ترقى إلى الصقيع الذي يتجمد به القارئ، حتى ولو أراد أن يتبصر الجواهر التي في الكلمات. فمعذرة فكل ما أدركته، هو أنك تطلب مني، بأن أقترب من كلمات، مثل الصبر والقوة والسلام والحتمية، فلعلي أكتشف داخل تلك العلاقة، حتمية استنبات الصبر لقوة تستملك الإرادة، وقد انبسط أمامها الأمل، فتستوي على غايتها، في استخراج السلام، من أتون الصراع.

ولك أن تعرف بأني اقتربت من مفهوم الصراع، وأدركت متغيراته، وحاولت أن أحدد مشكلاته، وتوثقت من أنها معا في تركيب صحيح، تفصح عن مشكلة العلاقة ذاتها، وهذا استغرقني جهدا، استقر بي على أني أحتاج إلى بحث طويل.. إلى كتاب، لا إلى رسالة عبر الشبكة المعلوماتية، وحيث أنك أصررت، أن أبرهن بحيثيات الواقع على ما أقول، وأن أنتهي بتكوين حكم، فليس أمامي الا أن الفت انتباهك، إلى أن حركة الحوادث، ما تزال تجري، وبأن طرفي الصراع يتحاددان، وتصعب رؤية السلام. بل أمواج الصراع العالية، لا تدع لأحد أن يرى له وجها، إلا أن ثمة إطلالة بالبصيرة، على حركة الحرية، تومئ بأن حلول المشكلات كلها معلقة عليها، أو يكون الطوفان.

فثمة سردية كالتي طلبت مني، في حد ذاتها سيرة شعب، لم يزل يتعذب ويشقى، ويكد ويبذل أقصى ما يملك من أجل حريته، وحين يأتي الاستقلال وتزهو الوجوه بالسلام، يكون الكتاب يؤثث لمقدمة كتاب، في حياة الحرية التي من أجلها، كان الصبر وكانت المعاناة، وسالت الدماء.

وحين تفرغ الحرية من تدوين كتابها، أعود إليك بكتابها، أما أن أستخرج من الخيال الوقائع، قياسا على حركة شعب آخر، أو بقياس الحركة اللاحقة على الحركة السابقة، فهذا لا يكون واقعا منسوخا في كتاب. دع الركب يسير فانه بالغ آماله، واترك الانتظار، قرين الصبر، يضغط على أعصابك، ويزيد في شوقك إلى كتاب الحرية، فصبرنا مثمر لا مفر، فانتظارك لن يدوم طويلا.

واني لا أدري، إن كنت أرويك وأكفيك، أو كان يزيد في شوقك، أن ترى كما أرى، فكر المصابرة، وصيرورة العزيمة، وديمومية الإصرار، وعناد الإرادة، وكلمة الحرية، كيف تمتلك النفوس، وتملأ كل همس وفعل، لكي ترى كيف أن الصبر عبور.. جسر تعبر عليه النفوس، من بحور ألآمها إلى توازنها، فصمودها، فإصرارها، فعنادها، فانبلاج الأمل لها، وسط بحور من الظلمات.

فالانتفاضة مستمرة.. أرواح تتدافع. قلوب تتواثب.. روائح الحرية تعطر الأنفاس بالأمل. والانتفاضة أسلوب إدارة للصراع، ينبني به حل التناقض بين الحرية والاحتلال. واستمرارها إدامة الإصرار على الحل، ومضاعفة الطاقات المبذولة في الإصرار على الاستواء، على نفي الاحتلال وإقامة نظام للحرية، تنتظم به دولة الحرية، لذلك الانتفاضة ثورة شعب، يستخرج بإرادته حريته، من أتون الصراع.

فكل ما بنا ينطق بكل فصاحة التعبير، بالعزم على ترجمة الخراب وسفك الدماء إلى حرية.. لا أحد يريد أكثر من الحرية. وهذا هو الانتماء في صيرورته، يصلب عود الصبر، ويمر عليه إلى ذاته، يعود سيرته الأولى ويؤهل نفسه إلى الحضور على مسرح التاريخ. وحتما تتكامل له معانيه في خلال حركته في خضم الصراع، وحتما يعود بالسلام من جبهات الصراع، فهكذا أسمع هديره، في حركة الوعي، يتكلم عن ضرورة الحرية، وعن حياة الحرية كضرورة للنماء والإبداع.

ودعني وأنا أفتش لك، عن الأمل، في دوامة الأمن، أن أسألك، فلعلك تأخذ إجازة من وساوسك ؛ هل عرفت عن منابت الشمس، بأنها لا تعرف نورا ولا شروقا. هل عرفت عن الشروق ركوعا وخضوعا، فجاءت إيماءات شروق ولم يأت شروق، أو جاء شروق ولم يليه نهار.

أما كان الظلام دوما، هو الدليل على الضرورة، بأن تشرق الشمس، ويبزغ فجر النهار.
أما قرأت في تاريخ الحرية، بأن الظلام كان دوما هو الغطاء لعملية ميلاد النهار.
أما قرأت في صفحات التاريخ، بأن موجات الظلام التي جاءت، من جهة الغرب، قد تراجعت بقوة الشمس التي أشرقت، من جهة الشرق.

هل يؤملك كلامي بالأمل الذي أؤمله، وتود لو تأمله، فترى بعين قلبك، ما تكاد تراه بعين عقلك، أم أنك تريدني أن أسافر في الزمان القادم، لكي أعود إليك بمهرجان الشروق، فهو هناك في عيون الأطفال، فسافر في عيونهم، تراه واقعا، يستولده واقع الحال الأليم الذي نئن تحت وطأته، فان في داخل هذا الأنين انتماء ينمو ويورق، وبراعمه خضراء، ولا مفر تثمر حرية.

فأن لا نكون، هو ما لا يمكن أن يكون، ينفي اللانكون ما بنا من قدرة على أن نكون.
فحركة الوعي والإرادة في اتجاه أن نكون، والحرية لا تكون سواها، وهي فينا تحيا، وبنا تعلو، وبأنفاسنا كانت وكائنة وتكون، وهي التي نكونها، فلا غير أن نكون، وحتما نكون..

التعليقات