09/10/2009 - 16:25

ما بعد تقرير غولدستون../ سونيا بولس

ما بعد تقرير غولدستون../ سونيا بولس
تعجز الكلمات عن وصف بشاعة ما قامت به سلطة أوسلو، المتورطة، كما يبدو، في العدوان الإجرامي على أبناء شعبنا في غزة، والمتورطة في محاولة طمس تقرير غولدستون ومساعدة مجرمي الحرب على الإفلات من العدالة. وبالرغم من هول ما حصل ووجود حاجة ماسة وطارئة لتعبئة الشارع الفلسطيني ضد النهج الفضائحي لسلطة أوسلو وضد محاولتها تصفية القضية الفلسطينية، تبقى متابعة تقرير غولدستون وإيجاد قنوات أخرى لملاحقة مجرمي الحرب مهمة لا يمكن إهمالها أو تأجيلها.

لقد كتب الكثير مؤخرا عن القاضي السابق ريتشارد غولدستون وكونه يهوديا تربطه علاقات أكاديمية وثقافية مع مؤسسات إسرائيلية، وكونه رجل قانون من الطراز الأول على مستوى العالم، حيث أشغل مناصب قانونية دولية رفيعة كمنصب المدعي العام للمحكة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.

غولدستون وسيرته الذاتية قطعا الطريق على إسرائيل، التي اعتادت على اتهام كل من قام بانتقادها بمعاداة السامية أو الانحياز واللا-مهنية، لكنها وقفت مكبلة الأيدي واللسان أمام قاض سابق يحظى باحترام شديد أينما ذهب. لذا، صدور تقرير دامغ يتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانية من قبل لجنة تحقيق دولية يترأسها غولدستون هو إنجاز بكل المعايير.

بالإضافة إلى ما ذكر أعلاه، من يقرأ تقرير غولدستون يشعر بأن التقرير يختلف عن تقارير سابقة أعدتها منظمات حقوق إنسان دولية حول الحرب على غزة. منظمات حقوق الإنسان تضع الضحية في مركز اهتمامها، وهي تحاول إيصال صوت الضحية للعالم دون التخلي عن المهنية في توثيق ونقل المعلومات، ومن ثم تطالب الدولة المعنية بالرد على هذه المعلومات، التي تشير إلى تورطها في انتهاك حقوق الإنسان.

أما تقرير غولدستون، فقد تم إعداده من وجهة نظر مدعي عام الذي لا يسعى لإسماع صوت الضحية فحسب، إنما يرتكز على جمع الأدلة والقرائن لإثبات إثم المتهم، فتعامله وتحليله للقرائن يعتمد على معايير أكثر صرامة من تلك التي تعتمدها مؤسسات حقوق الإنسان. هو لا يقدم لائحة اتهام إلا إذا كانت لديه قناعة بأن الأدلة والقرائن التي جمعها هي كافية لإدانة المتهم في محكمة جنائية. وهذا هو التوجه التي تبنته اللجنة الدولية لتقصي الحقائق برئاسة غولدستون. هذه نقطة قوة لا يستهان بها بل يجب استغلالها لمتابعة ملاحقة كل من ارتكب جرائم حرب خلال العدوان على غزة.

وبالرغم من تأجيل التصويت على تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وبالرغم من إفلات براك من الملاحقة القضائية في بريطانيا كونه يتمتع بحصانة دبلوماسية، من الضروري استغلال التقرير لتحقيق بعض المكاسب التي يمكن بالفعل إنجازها على المدى القريب وكسر حاجز الحصانة التي تمتعت به إسرائيل لسنوات عديدة كما يلي:

أولا، بموجب تقرير غولدستون، إسرائيل ارتكبت جرائم حرب تقيم ولاية قضائية دولية، حيث يمكن ملاحقة مرتكبيها أينما وجدوا. مع هذا، من الصعب ملاحقة مجرمي حرب يتمتعون بحصانة دبلوماسية كوزراء أو رؤساء حكومة في محاكم أجنية، كما حصل في محاولة اعتقال براك في بريطانيا. لذا يجب التركيز على ملاحقة مجرمي حرب لا يتمتعون بحصانة دبلوماسية كوزراء سابقين أو ضباط جيش. وقد يكون من الأنجع البدء في ملاحقة ضباط جيش في رتب متوسطة أو حتى في أسفل سلم القيادة العسكرية، لأن البدء في ملاحقة من هم في أعلى سلم القيادة قد يكون رادعا للمحاكم الأجنبية، خاصة في حالة إسرائيل، التي تمتعت لسنوات طويلة من عدم المحاسبة، بالرغم من الانتهاكات الجسيمة لقوانين الحرب التي ارتكبتها في حروبها ضد الشعب الفلسطيني وضد شعوب المنطقة. وبما أن تقرير غولدستون هو في غاية التفصيل، من الممكن الوصول لهوية ضباط هم في رتب متوسطة وأقل، والذين يتحملون مسؤولية شخصية عن إرتكاب جرائم حرب في غزة وملاحقتهم.

ثانيا، التقرير يقر يشكل واضح بأن إسرائيل استهدفت بشكل مباشر المدنيين، وارتكبت جرائم حرب بحقهم وبضمنها: جريمة الاستهداف المقصود للمدنيين، استعمال المدنيين كدروع بشرية، وتدمير الممتلكات الخاصة دون وجود أية حاجة عسكرية وغيرها. ويكفل القانون الدولي حق ضحايا جرائم الحرب بالحصول على تعويضات مادية مقابل الضرر الذي لحق بهم. وتخول العديد من الدول محاكمها الوطنية بممارسة ولاية قضائية عالمية ليس فقط في السياق الجنائي إنما في السياق المدني أيضا، بمعنى أنها تتيح لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبضمنها جرائم الحرب، برفع دعاوى تعويض مدنية. وبالرغم من أن المحاسبة الجنائية تبقى الوسيلة الأنجع لتحقيق العدالة لا يجوز الإستهانة بإسقاطات الدعاوى المدنية التي يقدمها الضحايا، وذلك لعدة أسباب، وخاصة في سياق الحرب على غزة. أولا، للضحية دور مركزي وسيطرة أكبر على المسار المدني مقارنة مع المسار الجنائي. ثانيا، من الأسهل إثبات إدعاء في دعوة مدنية مقارنة بإثبات إثم متهم في دعوة جنائية. ثالثا، في حالة إسرائيل والتقاعس المخجل لما يسمى بالمجتمع الدولي، يصبح استصدار قرار محكمة يوثق ويعترف بارتكاب إسرائيل جرائم حرب، حتى في سياق دعوة مدنية، ذا قيمة معنوية كبيرة، بإمكانه كسر حاجز اللا-محاسبة ورد بعض من الاعتبار للضحايا من خلال الاعتراف بالضرر الذي لحق بهم. رابعا، ضحايا جرائم الحرب في غزة المحاصرة بحاجة ماسة إلى موارد مالية لمحاولة تخطي حالة الدمار الشامل التي جلبتها عليهم إسرائيل.

وأخيرا، يتطرق تقرير غولدستون إلى الحصار غير الإنساني على غزة الذي لم يسلم منه جانب واحد من جوانب حياة الغزيين، ويصفه بالعقاب الجماعي، ويؤكد على هذا الحصار جعل من سكان غزة أكثر عرضة للأذى خلال الحرب. كما يشدد التقرير على أن الحصار يشكل عائقا كبيرا أمام إعادة بناء ما تم هدمه في غزة. كما يشير التقرير بشكل واضح إلى أن اللجنة تعاملت مع إسرائيل كدولة محتلة فيما يتعلق بمسؤولياتها تجاه قطاع غزة. لذا يجب استغلال ما جاء في تقرير غولدستون عن حصار غزة كمواد يمكن الاستناد عليها للعمل على كسر الحصار المفروض عليها.

ولتسهيل عملية متابعة تقرير غولدستون يجب العمل فورا على إقامة هيئة أو إطار يعمل على التنسيق بين المنظمات القانونية المحلية والمنظمات القانونية الدولية والأجنبية بهدف البدء بتحضير ملفات عينية واقتناص الفرصة الأولى لتقديمها، ومن أجل العمل على كسر الحصار على غزة.

التعليقات