16/10/2009 - 08:27

مطبات الارتجال الفلسطيني في المحافل الدولية../ د.آنيس مصطفى القاسم*

مطبات الارتجال الفلسطيني في المحافل الدولية../ د.آنيس مصطفى القاسم*
يوم الجمعة الموافق الثاني من تشرين الاول (اكتوبر) عام 2009 هو يومٌ أسود في مسيرة القضية الفلسطينية، إذ أنه يومٌ وَجَّهَ فيه من يدعون أنهم يمثلون الشعب الفلسطيني أكبرَ إهانةٍ له واستخفافٍ به وبتضحياته، وحقوقه، خاصة حقه في الحياة .

لم يُصَدِّقْ أحد أن الاستخفاف بعقول الناس وبحسهم الوطني وحقوقهم ودماء أبنائهم قد وصل الى هذا الحد من أشخاص يدعون أنهم يحظون بثقة هذا الشعب ويعملون لصالحه والدفاع عنه. وازداد الاستهتار استهتارا بسخافات الناطقين الرسميين الذين اختلفت وتناقضت رواياتهم وتبريراتهم ورؤاهم لما حدث، وإن اعترف بعضهم بأن ما وقع كان خطأ.

وانتظر الناس تصريحا من رئيس السلطة يوضح الموقف قبل ان يعلقوا عليه. وجاء التصريح في مؤتمر صحافي، ثم في بيان قرأه بعد عشرة أيام من قرار التأجيل، فاذا به يكرر في بيانه الأول ما ذكره بعض من سبقه من الناطقين باسمه، ويركز على ما ركزوا عليه من أن فلسطين ليست عضوا في مجلس حقوق الانسان، وبالتالي فإن ممثليها لا يستطيعون تقديم طلب بالتأجيل، وأن هذا الطلب قد تقدم به مندوب غير المندوب الفلسطيني وبموافقة عربية واسلامية.

وكرر الرئيس كلامه هذا في البيان الذي قرأه في 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2009، موحياً بأن الذي يتحمل المسؤولية الوفود العربية والإسلامية، وأن قرار التأجيل ليس قرارا فلسطينيا.

والغريب أن الرئيس لم يعترف بأن 'خطأ' قد وقع، مع أن الأمين العام للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير قد اعترف علنا بذلك، وكذلك اللجنة المركزية لفتح، ولم يعتذر للشعب الفلسطيني عنه، ولم يتحمل أية مسؤولية عما حصل أو أن يطرح تبريرا له، مقنعا أو غير مقنع.

لم يكن هذا التصريح في رأي الكثيرين فراراً من المسؤولية وتجنيا على الحقيقة فحسب وإنما إساءة واضحة للدول العربية والإسلامية التي تحرص دائما على الاستجابة لرغبات الوفود الفلسطينية في المجتمعات الدولية.

هذا موقف يترك التساؤلات قائمة حول الأسباب الحقيقية التي كانت وراء طلب التأجيل ولا يريد رئيس السلطة الإفصاح عنها، مع أن هذه الأسباب لا بد وأن أفصح عنها رئيس البعثة الفلسطينية لرؤساء الوفود التي كانت مؤيدة لطرح التقرير للنقاش وذلك ولو من باب تبرير الموقف.

وبالفعل فقد قرأ الدكتور عزمي بشارة على فضائية 'الجزيرة' النص الكامل لتقرير بعثه أحد المندوبين لحكومته وفيه تفاصيل ما قاله مندوب فلسطين للمجتمعين، والواضح فيه كل الوضوح أن التعليمات بالتأجيل جاءت من رئيس السلطة الفلسطينية، وليس مثلا من حكومة الباكستان.

لقد تجنب الرئيس القول بأنه هو الذي أصدر القرار، أو أنه يتحمل المسؤولية عنه، وذلك لكونه هو المختص باتخاذ قرارات بهذه الأهمية، ولا يجوز له التنصل من تحمل هذه المسؤولية، حتى ولو كان القرار قد صدر من غيره. واذا كان الرئيس بعد عشرة أيام من صدور قرار التأجيل لا يعرف من أصدره، مع أن سؤالا لممثل فلسطين في جنيف كاف لكشف الموضوع، فإن الأمر خطير وخطير جدا.

وكذلك لا يجوز له الاحتماء وراء ادعاء بأن القرار اتخذ بموافقة عربية واسلامية، وأن المندوب الفلسطيني لم يتقدم هو بطلب التأجيل حيث أن فلسطين ليست عضوا في مجلس حقوق الانسان. صحيح أن فلسطين ليست عضوا في المجلس، ومعظم أعضاء الامم المتحدة ليسوا أعضاء فيه. ولكن اذا أرادت فلسطين أو أية دولة غير عضوة صدور قرار في موضوع معين فكل ما يتطلبه الامر هو اقناع عضو بما تريده فيتبناه ويتقدم بمشروع القرار الذي طلب منه. انها خدمة تقدم، ولكن القرار النهائي هو بيد المندوب الفلسطيني فيما يتعلق بفلسطين. وهذا ما قاله المندوب القطري والمندوب الباكستاني، وكانا صادقين، ولا يليق أبدا تحميل المسؤولية لهؤلاء الذين نفذوا رغبات من كانوا في نظرهم يمثلون الشعب الفلسطيني.



إزاء هذا الموقف من قمة هرم المسؤولية الفلسطينية ومن هم دونه يجب ألا نستغرب مستقبلا، اذا سمح شعبنا لهؤلاء أن يبقوا في السلطة، ألا تجد القضية الفلسطينية من يتبناها في دوائر الأمم المتحدة خوفا من تحميله مسؤولية يجب أن يتحملها الوفد الفلسطيني وسلطته.

ماذا يقول السفير الباكستاني لحكومته التي تخشى أن يصدق شعبها ما قاله المسؤولون الفلسطينيون عن موافقته على القرار ومسؤوليته عن تقديمه؟ هذا الخطر حاصل الآن بعد أن تقرر تقديم طلب لإعادة التقرير الى جدول الاعمال.

هذا هو السؤال الأول، وعليه يجب أن تتركز الجهود الآن. ان التأجيل أتاح الفرصة لإسرائيل لتحشد حلفاءها وتستغل طلب التأجيل هذا وما تلا ذلك الآن من مهاترات رخيصة والتركيز عليها بدلا من التركيز على التقرير نفسه وتوحيد الجهود لضمان إعادته لجدول الأعمال أولا وتبنيه ثانيا.

ولنفترض أن التقرير أعيد لجدول الأعمال، فإن السؤال الذي يرد ماذا سيكون موقف الدول التي وعدت بالتصويت بالموافقة على ما جاء فيه، ثم يأتي صاحب الشأن، ممثل فلسطين، فيتخلى عن موقفه بسحبه لقرار اعتماد التقرير بصورة لا مبرر لها، ثم يحاول التملص من المسؤولية عن طلب التأجيل وإلصاقها بغيره؟ هذه الدول لا بد أنها قد أصيبت بصدمة عندما فوجئت بطلب التأجيل في موضوع بهذه الخطورة، الأمر الذي طعن في مصداقية منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرر وطني، وفَتَحَ طريقا معبدة لإسرائيل وأمريكا للتأثير على هذه الدول الاعضاء وكذلك المنظمات غير الحكومية وإقناعها بعدم جدية المواقف الفلسطينية وعدم الثقة في الفلسطينيين أنفسهم. ومن حق هذه الدول والمنظمات أن تتساءل ما الذي سيضمن لها أنه لن تكون هناك تقلبات جديدة في الموقف الفلسطيني؟ وسنرى أن هذه ليست هي المرة الاولى التي يتنازل فيها المسؤولون الفلسطينيون عن مواقف أو قرارات أو تقارير تدعم قضيتهم لاسباب كثيرا ما تبدو غير واضحة، ولكنها ضارة بها في جميع الحالات.

ما حدث في جنيف في يوم الجمعة الاسود 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2009 كان انقلابا للأدوار بشكل لافت للأنظار: لم تكن إسرائيل المتهمة هي التي تقدمت بطلب تأجيل اتخاذ القرار، وانما كان المجني عليه، الضحية، الذي ثبت حقه واحتشد انصاره والعالم كله لسماع النطق بالحكم.

لقد عاصرتُ، منذ عام 1976، لجنةَ حقوقِِ الإنسان، ومن بعدها، مجلسَ حقوق الاإسان الذي خلفها، بصفتي ممثلا لمنظمة غير حكومية لها صفة استشارية لدى الأمم المتحدة، ولم أشهد في اللجنة أو المجلس موقفا مثل هذا الموقف الذي وُضِعَ فيه ممثل فلسطين وقضيته الحساسة العادلة أمام المجتمع الدولي.

النتيجة اذن هي أن القضية الفلسطينية الواضحة العدالة قد خسرت الكثير نتيجة لمواقف السلطة هذه، وهي مواقف تدل على الارتجال، بل ولربما ما هو أكثر منه، حتى في قضايا في أهمية تقرير كتقرير القاضي غولدستون. وهذه خسارة تمس بعنصر الثقة والمصداقية وسلامة التعامل، وهي أمور ليس من السهل استردادها.

إننا ما زلنا لا ندري ما الذي أدى بالرئيس الفلسطيني إلى دفع هذا الثمن الباهظ جدا، الا أنه من المؤكد ان مصداقيته فيما يتعلق بقضيته قد اهتزت، وسيكون من الصعب ترميمها، خاصة وأن الدلائل كلها تشير الى أن ما جرى ليس تصرفا طارئا، وانما هو، كما قال الدكتور عزمي بشارة والدكتور منير شفيق على فضائية 'الجزيرة'، تنفيذ لمنهج سار عليه رجال السلطة منذ زمن.



لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي أهدرت فيها السلطة الفلسطينية مكسبا فلسطينيا بعيد الأثر دون مقابل. فقد تخلت القيادة الفلسطينية في أعقاب مؤتمر مدريد عن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، ذلك القرار الذي أزعج الدوائر الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية إزعاجا كبيرا، الى أن نجحت في إلغائه بعد مؤتمر مدريد.

ولم يكن هذا الإلغاء ممكنا لولا موافقة فلسطينية وعربية وإسلامية، حيث أن الإلغاء، كالقرار الأصلي نفسه، قد صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. كان ثمن هذا الإلغاء البدء في مفاوضات. وكان ثمن تأجيل النظر في قرار القاضي غولدستون هو أيضا استئناف المفاوضات.

طبعا بدأت مفاوضات، وكانت نتائجها أوسلو وأخواتها، وما فيها جميعها من تنازلات تعاني منها القضية الفلسطينية في كل يوم. الا أن مقاومة إلغاء القرار الذي يدمغ الصهيونية بالعنصرية عادت الى الواجهة في المؤتمر الدولي عن العنصرية الذي عقد في مدينة ديربان بجنوبي افريقيا عام 2001 ويشار اليه عادة بـ 'ديربان واحد'. مؤتمر ديربان رقم 1 أزعج اسرائيل وحلفاءها لدرجة لا تطاق.

في ذلك المؤتمر الدولي ناضلت منظمات حقوق الإنسان ذات الصفة الاستشارية لدى الأمم المتحدة الى جانب الدول المناهضة للعنصرية، ونجحت في إقناع المؤتمر بضرورة إدراج نصوص واضحة في البيان الختامي للمؤتمر بخصوص فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني.

قاومت إسرائيل وأمريكا والدول الاوروبية هذه المحاولة، بل وقاطعت المؤتمر، إلا أن المحاولة نجحت فوردت ثلاث فقرات بهذا الشأن عبر فيها المجتمعون عن قلقهم 'إزاء معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الأجنبي، واعترافهم بحقه الثابت غير القابل للتصرف في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة وحق جميع دول المنطقة، بما فيها إسرائيل، في العيش بأمان ودعوة جميع الدول لدعم عملية السلام والانتهاء منها على وجه السرعة' (الفقرة 63 من البيان).

وفي الفقرة 64 دعا المجتمعون 'لتحقيق سلام عادل وشامل ودائم في المنطقة تتعايش فيه جميع الشعوب وتتمتع بالمساواة والعدل وحقوق للإنسان وأمن معترف بها دوليا'.

وفي الفقرة 65 جاء في البيان 'إننا نعترف بحق اللاجئين في العودة الاختيارية لبيوتهم وأملاكهم بكرامة وأمن، ونحث جميع الدول على تسهيل العودة هذه'.

هذه النصوص أزعجت أمريكا وإسرائيل والدول الأوروبية كثيرا، ومثلت انتصارا للقضية الفلسطينية في داخل مؤتمر دولي خاص بالعنصرية، بالتأكيد على حقوقه الثابتة وحق العودة إلى 'البيوت' و 'الأملاك' والتخلص من المعاناة بسبب الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة.

وصممت اسرائيل وحلفاؤها على التخلص من هذه النصوص. وبالفعل فقد حشدت قوتها وجلبت أعدادا كبيرة من أنصارها للتشويش على الدورة الثانية للمؤتمر التي عقدت في نيسان (ابريل) 2009 في قصر الأمم المتحدة في جنيف، وكان الهدف هو استبعاد هذه الفقرات الثلاث من البيان الختامي للمؤتمر، بحيث يظهر أن هذا المؤتمر الثاني، الذي هو مراجعة لما تم بعد مؤتمر ديربان الأول، قد شطب هذه الفقرات من البيان الختامي بناء على اتفاق توافقي بين أصحاب القضية، وأن المشاكل المتعلقة بما ورد فيها قد سويت. وبالفعل فقد شطبت هذه الفقرات الثلاث ولم يرد أي نص في البيان الختامي بشأن القضية الفلسطينية أو الاحتلال الاسرائيلي والمعاناة منه أو حق العودة أو الحق في الاستقلال، وكأن هذه الامور قد أنجزت في الفترة بين المؤتمرين (2001 2009).

قرار الحذف هذا قد جاء بموافقة وزير خارجية فلسطين، تماما كما كان قرار تأجيل النظر في تقرير لجنة القاضي غولدستون بموافقة ممثل فلسطين. والمسؤول النهائي في الحالتين هو السلطة الفلسطينية ورئيسها واللجنة التنفيذية. كلهم مسؤول. وكما ثارت ثائرة المنظمات غير الحكومية اعتراضا على قرار التأجيل، فقد كان وقع حذف الإشارات الخاصة بفلسطين مؤلما جدا، خاصة وأن ما تحقق في ديربان واحد كان بالرغم من التعنت الأمريكي الإسرائيلي الأوروبي.

لم يدر أحد ما الذي دفع المندوب الفلسطيني للموافقة على بيان بهذا الشكل، مع أن الاحتلال ازداد ضراوة، ولم يتراجع في الفترة ما بين الدورتين للمؤتمر. لم نعرف شيئا في حينها ولا بعد ذلك، وكل ما وصل الى المسامع هو الثناء المتكرر من الدول الأوروبية على وزير خارجية فلسطين لتعاونه في الوصول الى نصٍ متفقٍ عليه أُجيزَ من دون تصويت. لماذا هذا الحرص على الغاء هذه الفقرات عن طريق ما أصبح يسمى 'بالتوافق' دون تصويت ووقع في فخه وزير الخارجية الفلسطيني عن وعي أو غير وعي؟ (من المفيد أن نذكر أن المنظمات غير الحكومية لم تتح لها فرصة التدخل الا بعد أن أقرت الدول الاعضاء البيان الختامي، ولذا لم يكن للمنظمات في هذه الدورة التأثير الذي كان لها في الدورة الأولى، وهذا طبعا مقصود من الدول الأعضاء).



هذه مصيبة تسبب فيها معالي السيد الوزير بالموافقة على إلغاء هذه الفقرات، ولا ندري الى أين ستنتهي، حيث أن تحديد الحقوق في المؤتمرات الدولية لا يأتي عبثا، وإنما له أهدافه وأبعاده القانونية التي قد لا تخطر بالبال للوهلة الأولى.

وواضح أن القيادات الفلسطينية تتصرف على أساس 'الإلهام' 'والشطارة' ولا تعترف بضرورة أي استعداد أو إعداد مسبق. فمثلا هل ان حذف الإشارة الى حق العودة مثلا من نفس الجهة الدولية التي كانت قد أقرته سابقا بالتوافق بين الطرفين المعنيين يمكن أن يفسر على أنه توافق على إلغاء ذلك الحق أو عدم الالتزام به أو على أنه تم تنفيذه؟ وإذا لم يكن كذلك، فما هو الهدف من الحذف إذن في بيان شامل حل محل البيان السابق الصادر من نفس الجهة؟ أليس التوافق دون تصويت هو اتفاقٌ عليه شهودٌ، وإن لم يصوتوا، بحيث يصبح من الصعب عليهم، إن لم يكن من المتعذر، إعادة النظر وإرجاع الوضع الى ما كان عليه؟

هذه القضية الدقيقة تنبه لها رئيس الجمعية العامة للامم المتحدة، ميجيل ديسكوتو بروكمان، وهو من فنزويلا، وأصدر مكتبه بيانا في نفس اليوم الذي صدر فيه البيان الختامي لمؤتمر ديربان 2 وتنازل فيه وزير خارجية فلسطين عما تنازل.

جاء في هذا البيان تعقيبا على بيان المؤتمر: ('في رأيي أنه شيء جيد أن استطاع الأطراف التوصل إلى اتفاق نهائي على النص بطريق التوافق (consensus) . ومع ذلك فإنني آسف أن التركيز على الضحايا الذي كان سائدا في مؤتمر ديربان لعام 2001 قد جرى الانتقاص منه في النص الحالي. وآسف كذلك أن الاشارة التي وردت في نص ديربان واحد والذي يعترف بحقوق الانسان للشعب الفلسطيني، بما في ذلك الحق في دولة مستقلة قد حذف أيضا من النص. إن الامم المتحدة، وخاصة الجمعية العامة، وقد أجازت القرار رقم 181 منذ أكثر من ستين عاما، ما زالت تتحمل التزامات محددة فيما يتعلق بخلق دولة اسرائيل ودولة فلسطين التي ما زالت لم تتحقق. إنه مبدأ من المبادئ الاساسية في القانون الدولي، وخاصة قانون حقوق الانسان الدولي، أنه اذا اعترف بحق من الحقوق، فانه لا يمكن رفض وجوده أو الغاؤه، وإن الدول الأعضاء في الامم المتحدة ملتزمة بأن تحترم وتحمي وتنشر حقوق الانسان. انه لمسؤولية المجتمع الدولي في مجموعه والامم المتحدة على الخصوص أن تُحَرِّكَ بشكل تقدمي جدول الاعمال الخاص بالدفاع عن هذه الحقوق ونشرها وتقنينها وتنفيذها'.) (انتهى بيان رئيس الجمعية العامة للامم المتحدة).

اشارةُ رئيس الجمعية العامة الى 'الاتفاق بطريق التوافق' والى القرار رقم 181 (وهو قرار التقسيم) والى مبادئ القانون الدولي، الى غير ذلك مما أشار اليه، له مدلوله المهم في هذا السياق. فبيان ديربان الثاني صدر 'بالتوافق وبدون تصويت'. واول تصريح لممثل السلطة الفلسطينية بعد قرار تأجيل النظر في تقرير لجنة القاضي غولدستون تحدث عن أن من اسباب التأجيل هو السعي للوصول الى 'توافق' حول القرار الذي يصدره المجلس بشأن التقرير.

التوافق هذا يتم أصلا بين الوفد الفلسطيني والوفد الإسرائيلي على نص قرار يقدم للمجتمعين فيجري إقراره من دون تصويت. وقد رأينا نوع التوافق الذي تم مع وزير الخارجية الفلسطيني، وهو ما نعاه رئيس الجمعية العامة للامم المتحدة وحذر من عواقبه بمحاولة التأكيد على أن هذا الحذف التوافقي يتعارض مع القانون الدولي اذا قصد منه إلغاء حقوق سبق الاتفاق عليها. الحذف قد حصل وتمت الموافقة على النص النهائي للبيان بناء على الاتفاق التوافقي الذي تم مع وزير خارجية فلسطين. ومن المؤكد أنه لن يتم الرجوع عن هذا في مؤتمر لاحق، أو لابد من خوض معركة حامية جدا لارجاع ما تم الغاؤه. التوافق الذي يتم يسجل بطبيعة الحال على أطرافه، ويشهد عليه المجتمع الدولي كله.

ومن هنا تأتي أهمية السؤال الذي طرحناه عن الأثر القانوني لهذا الأسلوب المستحدث في التعاطي مع القضية الفلسطينية، وهو أسلوب الاتفاق بالتوافق دون تصويت، والذي لا شك أنه كان في صميم اهتمام رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما تعرض لما حذفه البيان من الاشارة الى حقوق الشعب الفلسطيني، ومؤدى موقفه هو أن هناك حقوقا سبق للأمم المتحدة أن أقرتها، ولكنها لم تتحقق بعد، مثل حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة وفقا لقرار التقسيم، وهناك القرار الخاص بالعودة، فيقول رئيس الجمعية العامة إن ما سبق إقراره من حقوق لا يمكن رفضه فيما بعد أو الغاؤه. هذا هو رأيه، ولكن من المؤكد أن رجال القانون الدولي، وكثير منهم يهود صهيونيون، سيبدأون في تعميق الدراسات حول الاثار القانونية للاتفاق التوافقي، وسيبدأ القانونيون الاسرائيليون دراساتهم لتثبيت كل تراجع فلسطيني وإلزامهم به. وسيستمر رجال السلطة الفلسطينيون في غفلة عما يجري وفي الاعتماد على 'الشطارة' و'الفهلوة' الى غير ذلك من المواهب التي اكتشفها الاسرائيليون بسهولة وأثبتت قيمتها فيما تم من أوسلو وحتى اليوم.

ومهما يكن من أمر، فإن أي اتفاق، سواء كان بهذه الطريقة أو غيرها، يمس بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني لن يكون له أي أثر ولا يُلزِم الشعب الفلسطيني، ومن المفيد أن يتذكر هذا من يدعون تمثيله في مفاوضات أو مؤتمرات أو لقاءات خاصة أو سرية.

إن اليقظة التي أظهرها الشعب الفلسطيني فيما يتعلق بتقرير القاضي غولدستون لن تخبو وسيفرض هذا الشعب وجوده كلما تعرضت قضيته للخطر.

إزاء هذه التجربة مع ممارسة المسؤولية، وعوداً الى قرار تأجيل النظر في تقرير القاضي غولدستون، ألا يحق للمواطن الفلسطيني أن يتساءل ما الذي كان يمكن أن يتم في فترة التأجيل البالغة ستة أشهر؟ هل ستعترف إسرائيل بالجرائم التي ارتكبتها، أم إن التوافق المطلوب سيكون تنازلا فلسطينيا عن مقاضاة اسرائيل ومجرمي الحرب من رجالها وقادتها أو أي حل من هذا القبيل؟ هذا هو الذي كان سيحدث اذا استمر التأجيل تطبيقا لنظرية الاتفاق التوافقي، والحجةُ لذلك والمبرر سيكون، مرة أخرى، الحرص على مفاوضات أثبتت عبثيتها بالنسبة للشعب الفلسطيني، وكأنما لا يكفيه ما فُرِّطَ باسمه من حقوق. هذا هو المتوقع، ولربما يكون هذا ما قد تم الاتفاق عليه بالفعل، أي التأجيل في مقابل المفاوضات، ولكنه اتفاق لم يُعلن.

الشعب الفلسطيني لم يعد يدري ماذا يصدق وماذا لا يصدق من أقوال السادة المسؤولين، وهو يرى الوطن يُنهَبُ والسادة المسؤولون كأنهم لا يرون ما يقع. واذا كان هذا هو ما يجري في العلن فما هو يا تُرى الذي يجري خلف الأبواب المغلقة؟


هذا موضوع آخر، سنعود اليه بعد أن يتقرر مصير تقرير القاضي غولدستون، ولكن من المؤكد أننا سنطالب، من بين ما سنطالب به، بتفعيل منظمة التحرير كمرجعية فلسطينية جادة تحاسب من يتخذون القرارات من جهة وتؤمن أسلوبا علميا واعيا لا ارتجال فيه لاتخاذ القرارات والمحاسبة عليها.

وإذا استمر القائمون على الأمر في التلاعب بهذا الموضوع، فإن الشعب الذي أقام المنظمة لن يعجز عن إيجاد الوسيلة لتفعيلها. الشارع الفلسطيني يتحرك، في كل أماكن تواجده في الداخل والضفة والقطاع، في المخيمات وفي الشتات، ولن يترك الأمور على هذا الحال.

ومن المؤكد أنه لن يترك مصيره بيد أي شخص أو فريق يتأكد له أنه يتعايش مع الاحتلال وإفرازاته ويتأقلم معه في تصرفاته وخياراته وقراراته.

غير أن المهم في هذه اللحظة بالذات هو حشد الجهود لتصحيح ما حدث ومنع الضرر بالتركيز على ضمان الموافقة على التقرير وتوصياته وضمان المتابعة بحيث لا ينضم هذا التقرير أو قرار مجلس حقوق الإنسان إلى سلسلة ما أهمل من قرارات وإلى فتوى محكمة العدل الدولية بشأن الجدار الفاصل، وهي القرارات والفتوى التي أهملتها السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية إهمالا كاملا، ربما أيضا حرصا على 'المفاوضات'.
"القدس العربي"

التعليقات