28/10/2009 - 10:12

إسرائيل تقتحم الأقصى.. براً وبحراً وجواً والنظام العربي يشتري سلامته بالتواطؤ!../ طلال سلمان

إسرائيل تقتحم الأقصى.. براً وبحراً وجواً والنظام العربي يشتري سلامته بالتواطؤ!../ طلال سلمان
للمرة المئة، أو أكثر، يقتحم جنود الاحتلال الإسرائيلي حرم المسجد الأقصى، وبالسلاح، فينتهكون حرمته، ويمنعون فيه الأذان، ويطاردون أهله وحماته... ربما لأن أهل النظام العربي، مهيأون لأن يقبلوا الإهانة ومعها الخسارة الفادحة الجديدة، فيعوضون عنها ببيانات الشجب والاستنكار، وقد يتطوع شعراء السلطان لنظم بعض المراثي في وطن لم يستطيعوا حفظه فذهب الى غيرهم.

ومع الاقتحام المتجدد للمسجد الأقصى، بمكانته المميزة الى حد التقديس، تعلن إسرائيل بأعلى الصوت سقوط العرب كدول وأنظمة حديدية أو حريرية، وشعوب بالتنظيمات والأحزاب الحكومية والدينية، التقدمية والرجعية والوسطية والبين بين.

والحقيقة أن الاقتحام الجديد يأتي في سياق سياسة رسمية يعتمدها الاحتلال الإسرائيلي منذ زمن بعيد: القضم اليومي للأرض وحقوق أهلها فيها، بالمستوطنات التي لا تفتأ تتزايد، والتي تعجز الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس الأسمر الذي صور كهدية من السماء، والذي كاد النظام العربي يعتمده ولياً من أولياء الله، عن وقف نموها السرطاني واحتشاد الآلاف المؤلفة من المستوطنين المستقدمين من مشارق الأرض ومغاربها فيها.

.... ومع القضم اليومي للأرض، هناك القضم اليومي لمكونات القضية، وبمساعدة القيادات السياسية لأهل الأرض، المستضعفين مرة بالاحتلال، ومرة ثانية بالانقسام الذي بلغ حد مواجهة بعضهم بعضاً بالسلاح، ومرة ثالثة بالتفريط بما كان يسمى «القرار الوطني المستقل»، ومرة رابعة بالعجز الفاضح عن استعادة وحدتهم السياسية والارتهان للإرادات الخارجية وفيها العربي والأجنبي.

إن الاقتحام الجديد والمتكرر للمسجد الأقصى، لا يهدف فقط الى السيطرة على بعض مساحته بذريعة أنها تضم «مقدسات» يهودية تعود بتاريخها الى ما قبل التاريخ، بل هو يهدف أيضا الى فرض الأمر الواقع الجديد على العرب والعالم: القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، دولة اليهود في العالم، والمساجد كما الكنائس فيها، بغض النظر عن قداستها، عناوين لفترة احتلال أجنبي لأرض الميعاد، وقد آن أوان تحريرها منه واستعادتها الى أحضان دولته المجددة: إسرائيل التاريخية.

[[[

لكن مشهد اقتحام الأقصى لا يكتمل إلا اذا أجلنا البصر في فلسطين «التاريخية» كلها، ثم التفتنا الى ما يجري حولها.
فالاقتحام يجري في ظل تفاقم «الحرب» بين المعسكرين الفلسطينيين اللذين تملك قياداتهما هذا الترف على الاندفاع في الانقسام الى حد إلغاء فلسطين كوطن واحد لشعب واحد، موفرين لإسرائيل ذريعة إضافية لكي تقول للعالم: لمن تريدونني أن أتنازل عن حقي في الأرض، وهؤلاء الأدعياء يقتتلون فيها؟! لو أنها حقاً لهم لحفظوها. إن بعضهم يعمل معي، وبعضهم الآخر يعمل لي. فالانقسام كما التنازل وجهان لعملة واحدة.

ثم إن الاقتحام يجري بينما العراق يكاد يغرق في دماء أبنائه، والانقسامات بين قياداته السياسية تستقوي بالفتنة، طائفية ـ مذهبية وعرقية، فيتبدى أهل أرض الرافدين وكأنهم مجموعة شعوب مختصمة، وليسوا شعباً واحداً كان يعيش على أرضه الواحدة في ظل دولة واحدة أورثها الطغيان للاحتلال الأميركي.

لقد عادت التفجيرات الإرهابية تفتك بالعراقيين، فتوقع بين الحين والآخر مئات القتلى والجرحى، والأخطر: أنها تعيد التأسيس للانقسام الذي يبدأ بالاختلاف حول الهوية السياسية للمفجرين وهل هم من «القاعدة»، أم من مخلفات النظام السابق، وهل هي تستهدف التقسيم على أساس طائفي أم على قاعدة عرقية، وإن كانت في جميع الحالات تخدم الاحتلال الأميركي وتجعل استمراره مطلباً شبه وطني، إذ انه يكاد يعني السلامة العامة، ويكتسب مشروعية ليست له قطعاً من خلال تصويره وكأنه عامل التوحيد بين العراقيين.

كذلك فإن اقتحام الأقصى يجري بينما اليمن تكاد تغرق في دماء أبنائها.
«فالتمرد الحوثي» كما أسماه النظام ينذر بالتفاقم الى حرب أهلية مخيفة، خصوصاً مع ارتفاع أصوات الجنوبيين من أهل اليمن، ممن كانت لهم «دولة» اصطنعتها المصالح الأجنبية، مطالبة بالانفصال والعودة الى «دولتهم» التي كانت تعيش على المساعدات و«الصدقات» التي لم يكن ممكناً تمويه أغراضها، سواء أجاءت من «الصديق الكبير البعيد»، أي الاتحاد السوفياتي آنذاك، أو جاءت من الأخ الشقيق والجار القريب، ممثلاً بالمملكة العربية السعودية التي لم تكن علاقتها باليمن، عبر التاريخ القريب، مثالية أو أخوية أو عملية بمعنى الارتكاز الى المصالح المشتركة.

وقبل هذا كله، فإن الاقتحام الإسرائيلي للأقصى يجري في ظل المناورات المشتركة «الأكبر والأوسع» بين «جيش الدفاع الإسرائيلي» وأسلحة متنوعة من الجيوش الأميركية، وان ظلت قيادتها منوطة بقيادة الأسطول السادس.
وعبر هذه المناورات فإن السفن الحربية الأميركية الأقوى ومعها السفن الحربية الإسرائيلية تمخر عباب المياه العربية نظرياً، المواجهة لشواطئ كل من سوريا ولبنان ومصر (وفلسطين) وربما ليبيا وتونس وصولاً الى المغرب.

والطائرات الحربية الأميركية والإسرائيلية، تجوب الآفاق (العربية أصلا) وتجري تدريباتها على الصواريخ المتعددة القدرات والأمداء، والتي لوحت بها إسرائيل مؤخراً في وجه إيران، وأسعد هذا التلويح بعض النظام العربي، وقد تناسى أهله أن من يهدد طهران إنما «يلغي» من حساباته كل العواصم العربية، سواء خلف الكيان الإسرائيلي أو من حوله، ويتجاوز التهديد الى الإنذار المباشر، دون أن ترتفع كلمة اعتراض واحدة على هذا الإنذار لكل المدى العربي الذي يحيط بفلسطين المحتلة، براً وبحراً وجواً... والصمت في مثل هذه الحالات تواطؤ!

ولعل بعض المراقبين قد استذكر، مع هذه المناورات التي اعتبرت الأضخم في تاريخ العلاقات العسكرية الأميركية ـ الإسرائيلية، ما روّجته تل أبيب عن «اتفاقات» معلنة أو ضمنية مع عدد من الدول العربية أبلغتها بموجبها عدم اعتراضها على خرق الطيران الحربي الإسرائيلي أجواءها وهو يتوجه لقصف المنشآت المختلفة في المدن والقواعد المنتشرة في الأرض الإيرانية الفسيحة.

بل ان بعض المراقبين قد استذكر، أيضاً، حكاية عبور بعض الغواصات الإسرائيلية قناة السويس، متجهة من البحر الأبيض المتوسط الى قاعدة إيلات في نهاية مضائق تيران، على البحر الأحمر، وقد كانت الذريعة في السماح بعبورها أنها تعبير عن الالتزام بنصوص معاهدة إنشاء القناة في أواخر القرن التاسع عشر (29 تشرين الأول 1888).

[[[

إن النظام العربي لا يتعب من تقديم الهدايا لإسرائيل.
إن صورة هذا النظام في العالم، بكل ما فيها من معالم الدكتاتورية والقمع واستخدام الأسلحة القذرة كالطائفية والمذهبية والعنصرية في تقسيم شعبه وتحريض بعضه ضد البعض الآخر، لتتم له السيطرة على مجموعه، هي هدية ثمينة لدولة اليهود في العالم القائمة على العنصرية والاستعلاء على شعوب الأرض بالاستناد الى الأسطورة التوراتية التي تكذبها الوقائع التاريخية المشهودة.

إن الحروب الأهلية، معلنة ومستترة، التي تمزق الوحدة السياسية لبعض الدول العربية وتهددها بالانهيار والتمزق دويلات أو جهات مقتتلة، بذرائع طائفية أو مذهبية أو عنصرية أو حتى قبلية، هي تزكية ثمينة للكيان العنصري الإسرائيلي، الذي يبدو متماسكاً وقوياً جداً بالاعتماد على قاعدته الدينية ـ العنصرية مموهة بالحداثة الغربية، والديموقراطية المحصورة في شعب الله المختار.

إن الخلافات بين أهل النظام العربي قد تجاوزت التعارض في المواقف السياسية الى تآمر بعضهم ضد البعض الآخر، والى التواطؤ المتبادل كل مع حلفائه الكبار... وأحيانا مع إسرائيل ذاتها... إن النظام العربي لا يتعب من تقديم الهدايا لإسرائيل.

إن الدماء تكاد تغطي ثلث الوطن العربي أو يزيد... وهي دماء شعوب كانت لها حضارتها، وكانت لها دولها، وكانت لها مقومات وجودها (اليمن، العراق، السودان..).

ثم ان كل دولة عربية مشغولة حتى الإنهاك بمشكلاتها الداخلية التي قد تكون ناجمة عن الفقر، كما قد تكون ناجمة عن الثراء الفاحش والعجز عن حماية الثروة الوطنية إلا بالاعتماد على الحماية الأجنبية المطلقة، والتي قد تستعدي دولاً مجاورة تخاف على أمنها الوطني من «جيرة» القواعد الأجنبية بكل الأهداف الحقيقية من إقامتها، وبمعزل عن مخاوف المستجير التي تشكل الذريعة.

ومتى بات أهل النظام العربي مشغولين بحماية ركائز حكمهم أو تحكمهم بشعوبهم، فمن الطبيعي أن يفرض الحامي (الذي سيظل دائماً شريك الإسرائيلي) شروطه، وأولها الخروج من ميدان المواجهة مع إسرائيل، إن لم يكن فرض الصلح معها بشروطها... وأول شروطها خروج العرب من ميدان المواجهة الأصلي مع المشروع الإسرائيلي في فلسطين، أي في المنطقة بجهاتها جميعاً، الشرق والغرب والشمال والجنوب، والبر والبحر والجو.

من هنا فإن اقتحام الجنود الإسرائيليين المسجد الأقصى الذي بارك ـ سبحانه وتعالى ـ من حوله، ليس إلا نتيجة لخروج النظام العربي من ساحة المواجهة مع إسرائيل، وترك الفلسطينيين ـ أرضا وشعبا وقضية ـ لمصيرهم، في حومة انقساماتهم التي تغذيها الخلافات العربية ـ العربية ثم تتخذها ذريعة للتخلي عن الواجب القومي، بل كل نظام عن واجبه الوطني، فحماية حقوق شعب فلسطين في أرضه (أو بعضها) تتصل بالدفاع عن استقلال أي دولة وكل دولة عربية، لا يهم مدى قربها أو بعدها عن فلسطين، جغرافياً.
إن الاقتحام الإسرائيلي المسلح للمسجد الأقصى هو اقتحام لكل قصور أهل النظام العربي بقدر ما هو اقتحام لكل بيت عربي.

إنه نتيجة للتواطؤ، أو للتفريط، أو للمهادنة حتى الاستسلام، أو للانسحاق أمام عتو القوة الإسرائيلية. وما دام كل نظام عربي مشغولاً بحماية ذاته (وغالباً من شعبه) فكيف تطالبه بنجدة فلسطين والمسجد الأقصى فيها؟

إنها مهمة مكلفة تفوق طاقة هذا النظام العربي الذي خرج نهائياً من ساحة المواجهة، معتمداً على قدرته التفاوضية البائسة وقد تخلى سلفاً عن أسباب قوته جميعاً.
ستتهاطل المراثي. ولعل البعض باشر تدبيج المقالات الشاجبة لهذا «التدخل الإسرائيلي الوقح والفظ والاستفزازي».

سيشتم الجميع إسرائيل. سيشتمون التقاعس العربي، وكل يعني غيره، وقد يشتمون التواطؤ الدولي، بينما يتحاشون أن يشاهدوا على الفضائيات منظر الجنود الإسرائيليين وهم يطلقون النار على أنبيائهم وكتبهم وسائر مقدساتهم.

وقد يتطرفون فيتوجهون بالشكوى الى عنوان العجز: الأمم المتحدة، التي يرمز أمينها العام الى الحالة العربية بأجلى معانيها، حتى ليمكن اعتباره «الممثل الشرعي الوحيد للنظام العربي» الذي يكثر من تبرير الجرائم الإسرائيلية في حين يرى بالعين المجـــردة ـ من موقعه في نيويورك ـ بندقية مقاوم في لبنان تهدد أمن دولة اليهود في كل العالم، فيبادر الى تنبيه الحكومة (وهي غير قائمة في لبنان) الى هذا التهديد للسلم العالمي.

أما الغارقون في إيمانهم حتى التصوف فلسوف يكتفون بالقول: إن للأقصى رباً يحميه... ثم يذهبون الى الصلاة، والله ولي الأمر، في كل حال.
"السفير"

التعليقات