31/10/2010 - 11:02

أعمال الفنان العراقي تحت الاحتلال: برهان على صمود الانسان../ هيفاء زنكنة*

أعمال الفنان العراقي تحت الاحتلال: برهان على صمود الانسان../ هيفاء زنكنة*
في واحدة من لحظات الصحو النادرة، بين طقوس الغيبوبة الطائفية المستمرة بعدد ايام السنة، وبين ميلاد ووفاة وجرح واسر وانتظار فرج الغائب وعبادة رموز تمت صناعتها كأيقونات مقدسة، يخبرنا وكيل وزارة الثقافة الاقدم ( انتبهت إلى أن أكثر من 60' من مثقفي العراق يعيشون في الغربة. وهم يمثلون نخبة الشعراء والرسامين والمسرحيين والممثـــلين والأكاديميـــين والكتاب والصحافيين ومن مختلف أنواع الثقافات الأخرى، وان اغلبهم غادر العراق بعد عام 2003 ).

والحقيقة هي ان 80 بالمئة من فنانينا وكتابنا وشعرائنا قد اجبروا على مغادرة وطنهم خوفا على حياتهم وحياة اهلهم وسلامة عقولهم المهددة. فاما ان يقتلوا مباشرة على يد المحتل الامريكي المنتشي بمخدر اسلحته أو ميليشيات احزاب الاحتلال المنتشية بمخدرات الطائفية والعرقية أو قتلهم بشكل غير مباشر عن طريق اجبارهم على انتاج الطقوس والمراسيم الغيبية اليومية لميليشيات التخلف والترويج للتخلي عن الحضارة والثقافة والهوية. فكيف بامكان المرء ان يفكر وينتج ويبدع وهو المحاصر في قوقعة يحتاج فيها ان يكرس كل قدرته وقوته متحايلا للبقاء حيا على قيد الحياة؟

انه موت التاريخ، قال الصحافي البريطاني المعروف روبرت فسك، نقلا عن استاذة علم الآثار زينب بحراني في حديثها عن الخراب الذي الحقه الغزو الانكلو امريكي بالآثار العراقية التي تمثل مهد الحضارة الانسانية. حيث تقول بان الضرر أكبر بكثير من مجرد نهب المتاحف وحرق المكتبات بل انه تخريب التاريخ . والمعروف ان هناك سبعة مواقع اثرية على الاقل تعرضت للقصف الجوي من قبل قوات الاحتلال كان آخرها مدينة سامراء التاريخية في عام 2006، فضلا عن استخدام بعض المواقع مثل بابل كمعسكرات. والشعور بالغضب والمرارة لايفارقنا ونحن نعلم جيدا بان المدن السومرية ومواقع حضارتنا وتاريخنا لا تزال تنهب يوميا وتهرب آثارها لتباع باسعار بخسة خارج العراق تحت انظار ساسة الاحتلال وبمباركتهم. حيث يتقاسم المسؤولون الغنائم. فالطائفي المنشغل باشعال نار الطائفية المشرفة على الانطفاء دوما لايرى في تاريخ العراق التليد تاريخه ولا في حضارة العراق حضارته ولا شعب العراق بتعدده وغناه وألوانه شعبه. ان كل مايراه من خلال خرقة الطائفية السوداء المربوطة على عينيه هو تغذية الطائفية ليمد جذوره الذاوية في التربة العراقية. واولويات السياسي والمثقف الطائفي متماهية مع المحتل وان أهانه المحتل يوميا. واثبتت لنا سنوات الاحتلال الخمس ان مشروع الاحتلال الاستعماري الطائفي والعرقي يهدف بالدرجة الاولى الى مسح حضارة العراق وثقافته وتاريخه تمهيدا لاعادة كتابته من جديد. وهو مشروع يتطلب تنفيذه تفريغ العراق من عقوله وابداعاته ونتاجاته الفكرية.

فكان قتل العلماء والاكاديميين والاطباء والتهجير القسري للفنانين والصحافيين والمثقفين عموما. فلم يبق في داخل العراق من المبدعين وشريحة الطبقة المتوسطة المتعلمة والقادرة على الانتاج والتنمية، باستثناء المتعاونين مع الاحتلال، غير المجبرين اقتصاديا وبحكم الارتباطات العائلية وقسوة المنفى وما يتعرض له المهجر من امتهان لكرامته على حدود الدول وابواب السفارات ومنظمات الاعانة والاغاثة الدولية.

ولم يبق امام الفنان الذي اصابه رذاذ الموت بانواعه اما ان يهاجر مع المهاجرين او يبقى ليقدم اعماله بصياغات تبعد عنه القتل المجاني من ناحية وتوفر له اساسيات العيش من ناحية اخرى. فصار هم الفنان الاول ان يواصل العمل في فترة الاحتلال ومنذ عام 2003 وحتى اليوم وبأي شكل كان لتقديم اعمال بالامكان وصفها بانها اعمال للمحافظة على البقاء ومواصلة الحياة. وقد لوحظت هذه الميزة في معرض افتتح منذ يومين في لندن، في قاعة أرتيكا، ومن خلال مشاهدة ما يزيد عن الاربعين عملا فنيا يجمع بين الرسم والنحت والسيراميك لعدد من الفنانين الموجودين والعاملين داخل العراق حصرا، ومن بينهم رضا فرحان وعبد الكريم خليل وضياء الخزاعي وستار درويش. حيث تراوحت الموضوعات ما بين الميثولوجيا والتجريد والرسم الطفولي بالوان زاهية براقة تقارب الالوان الفسفورية .

انها، باستثناء لوحة واحدة مست، تجريدا، على واقع جدران التقسيم الطائفي الكونكريتية التي يواصل الاحتلال بناءها حماية لامنه، اعمال يريدها الفنان للهرب من الواقع المرير، اما لفرط ثقل الواقع وقسوته المحبطة للنفس الى حد العجز، ولا يريد الفنان نقله على لوحته، أو لان الفنان بحاجة الى متنفس يتيح له ان يواصل الحياة لئلا يموت كمدا. فاصبحت اللوحة التجريدية بالوان الطفولة والنحت البرونزي المتموج غير الواضح شكلا وكأنه عجينة طينية واقفة بالكاد، هي المتنفس، او لان الفنان المحاط يوميا بطقوس الموت والتهديد بالموت لا يستطيع الا ان يتحايل على واقعه وظروفه لغرض بسيط وصعب في آن واحد: ان يواصل انتاجه بهذا الشكل ليتجنب تهديد هذه الميليشيا او تلك او لئلا يغضب هذا الحزب او ذاك. لقد حاول عدد من الفنانين معالجة واقع الاحتلال وجرائمه في العامين الاولين من الاحتلال، وكان المعرض الذي اقامته مجموعة من الرسامين والنحاتين عن فضيحة تعذيب وقتل السجناء في ابوغريب، يمثل اعمالا بشكل صرخة داوية ضد الاحتلال وممارساته المهينة لكرامة الانسان العراقي وفضحا لزيف ادعاءاته بالحرية والديمقراطية. الا ان ازدياد شراسة المحتل وعملائه واستهدافها بالقتل كل من يناهض الاحتلال وافعاله، غيرت من طبيعة اعمال الفنانين. لتصبح اعمال معظم الفنانين، داخل العراق، مماثلة لاعمال فناني المدرسة البغدادية في الفترة المظلمة، بعد غزو المغول لبغداد وحرقهم للمكتبات والكتب والاعمال الفنية، والتي حاولوا فيها المثابرة على العمل ومقاومة الموت فقط. انها مرحلة تجميد الابداع الى حين لصالح البقاء وانتظار انتهاء الحقبة الكارثية، لان الابداع الحقيقي يستند الى روح المغامرة واتساع المخيلة.

في الوقت نفسه، يواصل عدد من الفنانين المهاجرين اعمالهم واقامة المعارض في دمشق وعمان والقاهرة وعدد من الدول الغربية. ويصاحب هذه المعارض عمل الاساتذة والفنانين في العمل وبجهود فردية وجماعية من اجل حماية وانقاذ ما يمكن انقاذه من الاعمال الفنية التي تم نهبها وحرقها وتخريبها برعاية الاحتلال وحكومته (الديمقراطية). ففي أمريكا، اطلق الاستاذ الفنان هاشم الطويل استاذ ورئيس قسم تاريخ الفن في كلية هنري فورد ـ ميتشيغن، مع الدكتورة ندى شبوط أستاذة تاريخ الفن في جامعة نورث تكساس، مشروع إنقاذ التراث العراقى وخاصة الاعمال الفنية التي كانت موجودة في مركز صدام للفنون والبالغ عددها 8000 عمل لم يتم استعادة وتوثيق غير 1500 عمل فقط منها حتى الآن. وحسب وثيقة المشروع في عام 2004: (تعتبر هذه المجموعة مصدراً تراثياً مهما ًوأرشيفاً تاريخياً لتطورالفن العراقي العربي المعاصر...

كمٌ هائل من النتاج الفني التشكيلي الزاخر بالتجارب المتنوعة في الرسم والنحت والفخار والخط العربي والزخرفة وفن الملصق والطباعة والأعمال المجسمة والتصوير الفوتوغرافي لأجيال عديدة من الفنانين غطت الفترة الزمنية من نهايات القرن التاسع عشر وحتى بدايات عام 2003. وهي بعد كل ذلك محصلة وخلاصة للأبعاد السياسية والثقافية والعرقية والدينية والاجتماعية لكافة أطياف المجتمع العراقي). وبالاضافة الى المركز أكد الاستاذان على اهمية المحافظة على الاعمال الفنية التي كانت في مطار صدام الدولي، فندق الرشيد، القصر الجمهوري الذي يضم متحفا خاصا، وقصر المؤتمرات بالاضافة الى المكاتب الرسمية العائدة لوزارة الثقافة والأعلام كدار الاثار العراقية والمتحف البغدادى والمأثورات الشعبية والمؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح. والنصب الجماهيرية الفنية في بغداد والمحافظات.

وتتواصل الجهود الفردية باشكال مختلفة وكما يقول الفنان المعروف سعد الكعبي: (تعبيرا عن حيوية الفنان والانسان العراقي اذ يكون برهانا على استمرار الحياة واستمرار الفن والثقافة رغم حرق الفن والموروث، لكن الذي حرق الموروث لم يدرك بان الانسان هو الذي يخزن الموروث). وبصوت الفنان الذي يحمل في داخله هوية وتاريخ وحضارة العراق، يقول الكعبي مخاطبا المحتل الامريكي الجاهل بمعنى التاريخ والحضارة: (اذن نحن احياء ويمكن اعادة كل شيء. ما مات شعب يوما. كيف يموت شعب وهو يملك ست حضارات عريقة؟).
"القدس العربي"

التعليقات