31/10/2010 - 11:02

أنقذونا من هذه القسوة! /مرزوق حلبي

أنقذونا من هذه القسوة! /مرزوق حلبي
الفلسطينيون في إسرائيل ظاهرة سياسية تبدو عصيّة ليس على مسؤولي دولة إسرائيل وحدهم بل على كثير من العرب في عواصمهم وأريافهم . وفيما ترانا النخب الاسرائيلية الرقم الخطأ في تطبيقات المشروع الصهيوني يرانا بعض العرب في الجهة الأخرى «أسطورة بقاء في الوطن السليب» . وعلى هذا المحور يتمّ التعاطي معنا كظاهرة تتضح وتتفكك رموزها حينا أو تستعصي وتنغلق حينا آخر . رؤية العالم العربي لنا لا تخلو من قراءات خاطئة عاطفية بالاتجاهين: اعتبارنا «أسطورة بقاء» وإضفاء مسحة من قدسية علينا، أو اعتبارنا جسرا للتطبيع بعد أن «تمّت أسرلتنا وزجّنا في خانة اللعب الإسرائيلية على لوحة الزهر» . وقد يقول الخبثاء منا أن لا جديد في الأمر لأننا أمّة عاطفية في تفكيرها . لن نُغرى بالخوض في هذا النقاش في هذا السياق تحديدا لأننا مشغولون بمحصّلته في ما يتعلّق بنا هنا- العرب داخل إسرائيل - وبما تتركه فينا هذه المحصّلة.

فلسطين هي الساحل الغربي للعالم العربي اقتطعه المشروع الصهيوني له بمن بقي فيه من فلسطينيين على أمل أن تواتيه الفرصة للتخلّص منهم ( مجزرة دير ياسين ومن ثم مجزرة كفر قاسم في العام 1956 مثلا). وقد اعتمد المشروع ممثلا بإسرائيل الدولة الناشئة لتوّها استراتيجيتين أساسيتين للتعامل مع ظاهرة الفلسطينيين الذين بقوا أو تم إبقاؤهم خطأ . الأولى: الإقصاء والإبعاد والتهميش في المكان أو خارجه . والثانية: الاحتواء على افتراض إنه يمكن هضم هذه المجموعة ودمجها داخل الكيان الاسرائيلي بشروطه.

والاستراتيجيتان تستهدفان الضََبْط والتحكّم على اعتبار إن هذه المجموعة خطر أمني في أساسها ينبغي تحييده الأمر الذي ترجمته المؤسسة الاسرائيلية إلى سلسلة تدابير متفاوتة الحدة بدأتها بفرض حكم عسكري على القرى والمدن الفلسطينية التي بقيت في حدود إسرائيل استمرّ حتى العام 1966 . هذا في مستوى الإقصاء والضبط. أما في مستوى الاحتواء فقد عمدت الدولة العبرية إلى قطع حبال الوصل بين المجموعة الفلسطينية الباقية وبين المركز الفلسطيني الجديد (في الجبل في القدس ونابلس ورام الله)، بين هذه المجموعة الخارجة لتوّها من النكبة وبين مركزها الثقافي التاريخي في العواصم المحيطة مثل الشام وبيروت والقاهرة .

وقد عملت السلطة الاسرائيلية ساعات إضافية على حصر المجموعة الفلسطينية داخل حدودها ليس في مستوى التنقل والحركة وفرص العمل فحسب وإنما، أيضا، في مستوى الفضاء الثقافي الوجودي الذي حُرمت منه هذه المجموعة التي بقيت بدون مركز مديني. أما ما تبعها من تطورات ففتح ثغرات واسعة في جدران الحصار الأمر الذي استثمره الفلسطينيون في إسٍرائيل بأقصى حدوده . هذا البحث الطبيعي المبرر عن مجموعة الانتماء وعما توفّره من فضاء ثقافي وجودي لجماعة تضاعف عددها عدة مرات وزادت حاجاتها في هذا الباب مع تبلور هويتها على وقع تحولات العالم العربي السياسية والفكرية لا سيما تلك المتأتية من زهوّ القضية الفلسطينية والمشروع السياسي الفلسطيني وفي خلفيتها «الثورة العالمية» . وقد شهدنا ونشهد حجيجا إلى كل بلد عربي ينفتح أمامهم. القاهرة وعمان وما توفّراه من فرص ليس للسياحة فحسب بل للاستفادة مما يوفّرانه من أنشطة ثقافية وروحية . أدباء ومبدعون تحركوا شرقا أو جنوبا بحثا عن منابرهم وليسوا بوصفهم من هنا ، من الداخل الفلسطيني، بل من خلال رؤية أنفسهم جزءا من الفضاء الثقافي العربي وسعيا إلى الانخراط فيه كعرب وكفلسطينيين وكمن نشأوا وأبدعوا على وقع ما فيه وبالاتصال مع تلك التيارات المستترة المارة عبر آلاف الكتب والمطبوعات العربية وعلى متن الثقافة العربية الوافدة بكل الطرق بما فيها الفضائيات وبرامجها .

الغريب إن هذا البحث المدفوع بقوّة إنسانية ووعي سياسي قوبل أحيانا بالتفهّم والترحاب، وأحيانا أخرى، بالنفور والاستبعاد إلى حدّ أن يتهمنا البعضن وهم ليسوا قلّة، بـ»التطبيع» ! أي إننا نتحرك على خط السعي الاسرائيلي إلى التطبيع مع العالم العربي دون أن يحدث أي تغيير في الشرط السياسي العام ودون أن تنخفض دالة الصراع إلى مصالحة تاريخية او ما شابه . كأننا نحن الوافدين من الناصرة وأم الفحم، من حي وادي النسناس في حيفا أو حيّ الجبلية في يافا، نقوم بمهمة «تطبيعية» مشبوهة في خدمة السياسة الاسرائيلية الأمر الذي يؤدّي بالبعض إلى استبعادنا عن أنشطته أو مواقعه . وكأن هذا لا يكفي فإذ ببعض هذا البعض يذهب في خطاب المزايدة وفي مركزه إصرار المتحدّث على القطيعة والمقاطعة مع كل من يفد من الدولة العبرية . هكذا يسدّون الأبواب في وجهنا ، كأننا عندما ننشد العيش بثقافتنا ولغتنا لأسبوع أو أقلّ، عندما تسنح لنا فرصة أن ننتمي للفضاء الثقافي العربي الكبير بعيدا عن تأثيرات المركز الإسرائيلي وانفكاكا من حصاره نجد أشقاءنا في الجهة العربية مستنفرين لمنعنا من تحقيق هذا الأمنية . التواصل المأمول من ناحيتنا ضروري لرد الاعتبار لأنفسنا المغتربة في ظل السيادة الاسرائيلية، لاستعادة العافية الوجودية بالاتصال بمركز عربي يمنحنا رعايته وحميميته ليس بوصفنا من إسرائيل بل بوصفنا عربا مغرّبين عن عروبتهم، بوصفنا مجموعة حرمت من مركزها المديني ولا تريد أن تنتمي للمركز الاسرائيلي . نأتيكم هاربين من هذا المركز، نأتيكم كالمستجيرين طالبين الانتماء لثقافتنا وعروبتنا فلماذا يواجهنا البعض بهذه الجدران وهذه الحدود؟

السؤال الآنف الذكر يطرحه كل الذين واجهوا الصدّ العربي وكانوا راهنوا أن يمنحهم فرصة الانتماء والتحوّّل إلى «جزء من»، «جزء من شيء»، أو إلى الشيء نفسه: عرب بالتمام والكمال . ويحدث أن يعود الواحد منا مجروحا من الأخوة العرب عبر الحدود وكان يأمل أن يجد لديهم علاجا لجرحه اآتي معه من الوطن . نهرب من الغربة في الوطن في ظل سيادة الآخر اليهودي إلى ملاذ في ندوة أو مؤتمر أو منبر من منابر العرب، نهرب من عيش أخروية الآخر اليهودي ومعانيها عودة إلى الجذور الوجودية لثقافتنا التي حال بيننا وبينها الشرط السياسي القاسي . إننا في نهاية الأمر نفرّ من قبضة الزمن الاسرائيلي إلى المكان العربي. وعليه، من غير المنصف أن يتهمنا البعض بـ»التطبيع» أو بغيره . صحيح إننا إذا أتينا نأتي في شرط سياسي محدد أبرزه رفض إسرائيل التوصّل إلى مصالحة مع العالم العربي وإصرارها على إخضاعه، لكننا نأتي إليكم رافضين لهذا الشرط ونسعى بما أمكننا إلى أن يتغيّر . وعليه، ليس صدفة أن ترانا نخب إسرائيلية على إننا «طابور خامس» ينبغي تشديد القبضة في التعامل معه أو التخلّص منه عندما تحين الساعة!

نأتي إليكم بأوراق ثبوتية إسرائيلية وهي أوراق القانون الوضعي الذي تفرضه السيادة الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية . وربما في هذا مصدر اللبس الذي يفتح باب التأويل فيصير السعي منا إلى الانتماء «تطبيعا» . هذه الأوراق لا تعكس هويتنا ولا مواقفنا السياسية وإنما معطى قانوني لا يستطيع أن يأخذنا معه في رحلة الهوية اليهودية أو الاسرائيلية لأننا في تناقض وجودي مع الوضع ونسعى إلى إحداث توازن ما بالذهاب مع عالمنا العربي . جواز السفر في إسرئيل لا يشبه ذاك الفرنسي أو الأمريكي لأن الهوية الإسرائيلية ليست مشتقّة من جواز السفر وإنما من يهودية الدولة . جواز السفر لا يشفع للعرب الخارجين من إسرائيل أما عملية التفتيش الانتقائية على مواقع العبور . حتى وإن كانوا من الذين خدموا الدولة العبرية في قوات جيشها او غيره فإنهم يتعرّضون للتفتيش الخاص وللحجز لساعة أو ساعتين أو غير ذلك من إجراءات . نأتي إليكم بأوراق ثبوتبة إسرائيلية تثبت من أين أتينا لكن ليس ماذا نحن! تثبت هوية الجهة التي أصدرتها وليس هويتنا نحن . وأنا من الذين يعتقدون بأن سؤال الهوية هو ليس من أين أتيت بل إلى أين أنت ذاهب !

يقينا إننا لا نريد أن نكون ضحية مرتين: مرة بأيدي السلطة الاسرائيلية وسياساتها في الاقصاء والاحتواء ومرّة بأيدي العالم الذي نريد أن ننتمي إليه . مرّة بأيدي دولة لا تريدنا أصلا ومرة بأيدي مجموعة انتمائنا الكبيرة التي نريد أن نبقي على صلة الرحم بها. فنحن في نهاية الأمر نبحث عن تواصل مع عالمنا العربي. يحدث أن ندافع أمام السلطة الاسرائيلية عن حقنا في الانتماء لتاريخ وثقافة وعالم عربي، ويحدث أن نواجهها في مسيرتنا هذه . وسيكون من العبث أن نناضل من أجل حقنا هذا أمام أمتنا العربية، أيضا ! إننا في كثير من مؤسساتنا الوطنية في الداخل الفلسطيني ننشد تفهم عالمنا العربي لرغبتنا في التواصل معه ممثلين لأنفسنا ورغبتنا الوجودية الإنسانية وليس لإسرائيل . وننشد دعم فضاءاتنا العربية لنا بكل شيء، بفتح الأبواب والمنابر، بإشراكنا في أنشطتها، بالمقدرات والموارد إذا أمكن . قطع فرع من شجرة ليست مسؤولية الفرع فحسب بل مسؤولية الشجرة، أيضا، وهنا العرب عموما . في حينه هتف الشاعر محمود درويش موضحا راجيا: «أنقذونا من هذا الحب» ، وها نحن نهتف هنا « أنقذونا من هذه القسوة» ! نأتي إليكم بغير شروط نشدانا لفسحة من ذات مؤجّلة، لفضاء يتحدث إلينا بالعربية، فلا تكونوا بهذه القسوة !

التعليقات