31/10/2010 - 11:02

الإعتقالات الجديدة، والإجراءات القمعية؛ سياسة استباقية تواجه تحديًا حقيقيًا!../ عوض عبد الفتاح

الإعتقالات الجديدة، والإجراءات القمعية؛ سياسة استباقية تواجه تحديًا حقيقيًا!../ عوض عبد الفتاح
لا بد أولاً من تبديد غبار التضليل الإعلامي الذي تنشره وسائل الإعلام الإسرائيلية بعد كل إعلان عن اعتقال مواطنين عرب من داخل الخط الأخضر بحجة التعاون مع جهات أجنبية ضد أمن الدولة، والحملة التحريضية السافرة المرافقة ضد ما أصبح يسمى بالخطر العربي المتزايد داخل الخط الأخضر. وتتعالى الأصوات لاتخاذ المزيد من إجراءات قاسية ليس فقط ضد المتهمين، بل ضد العرب ونشاطهم السياسي المشروع.

والمقصود سواء ثبتت التهم الموجهة إلى المعتقلين، بالمعايير الأمنية الإسرائيلية طبعًا، أو لم تثبت، فإن بيت القصيد ليس هنا، بل في النوايا الإسرائيلية أساسًا.

هكذا يجري التضليل وكأن جلّ السياسات الإسرائيلية القمعية والمعادية للوجود العربي في الداخل مردها لجوء أفراد إلى التعاون مع جهات عربية معادية لإسرائيل. صحيح أنه منذ سنوات النكبة لجأ المئات فقط من عرب الداخل إلى العمل المسلح، أو الإنتماء لمنظمات فلسطينية محظورة في القانون الإسرائيلي واعتبرها ويعتبرها مسؤولون إسرائيليون (على سبيل المثال؛ شموئيل توليدانو، مستشار خمسة رؤساء لحكومات إسرائيل) نسبة قليلة جدًا مقارنة مع حجم الظلم الواقع على عرب الداخل. ولكن المئات من النشطاء السياسيين العرب لوحقوا سياسيًا واتخذت إجراءات إدارية ضدهم رغم التزامهم بقوانين اللعبة السياسية في إسرائيل. ولا تزال الملاحقة على أشدها، والدليل أن عشرات من كوادر حزب التجمع حقـّق معهم لساعات طويلة في العامين الماضيين فقط. وهناك من لـُفقت ضدهم تهم كاذبة، أو ضخمت ودفعوا الثمن.

وهذا ما يجعل القلائل من الإسرائيليين الذين يسألون عن سبب وخلفيات لجوء بعض المواطنين العرب إلى وسائل أخرى في التعبير عن رفضهم لواقع القهر.

إن مظاهر الرفض هذه، هي نتاج الصراع الذي فرضته الحركة الصهيونية على المنطقة، وهي نتاج إستراتيجية الدولة العبرية في حصار الأقلية الفلسطينية في إسرائيل واحتجاز تطورها الطبيعي؛ عبر النهب المستمرّ لوطنها ولموارده، وعبر القمع المباشر وغير المباشر.

إذًا النهب، ومن ثم القمع ضد من يقف ضد هذا النهب ويواجه القمع، ليس جديدًا. الجديد هو تجريم العمل السياسي وتحريم التواصل مع أبناء الأمة العربية وتبادل الهموم المشتركة معهم.

إن إسرائيل، على ما يبدو، تسعى إلى استباق ما يمكن أن ينجزه هذا الوعي القومي والديمقراطي لعرب الداخل، وما يمكن أن يحققوه على صعيد سيرورة القضم في صورة إسرائيل المزيفة – يهودية وديمقراطية.

لن ينتظر أحد منا نهاية التحقيق مع الدكتور عمر سعيد ومع أمير مخول من عرب 48 المعتقلين بتهمة التخابر مع "جهة معادية".. حتى نعرف الحقيقة أو لكي نغيّر موقفنا، أي لا نعوّل على حكم المخابرات الإسرائيلية الذي يصبح في أكثر من 99% من القضايا المصنفة أمنيًا والمطروحة على القضاء الإسرائيلي هو الحكم النهائي على المناضلين.

هذه ليست القضية الأولى ولن تكون الأخيرة. ليست القضية أمنية حتى لو عُـرضت في نهاية التحقيق على هذا النحو؛ وحتى لو صادق عليها جهاز القضاء الإسرائيلي الذي هو في نهاية المطاف جزء من البنية الأيدلوجية للدولة العبرية وأداة من أدوات قمعها ليس فقط في مواجهة المشروع الوطني الفلسطيني الشامل، بل في مواجهة مشروع الحركة الوطنية الفلسطينية داخل إسرائيل أو في مواجهة توجههم المتمثل بالمساواة القومية والمدنية الكاملة (إما في إطار دولتين أو في إطار دولة ديمقراطية واحدة).

فخلال العقد الحالي، وبالتحديد بعد انفجار الإنتفاضة الثانية ووصول شرارتها إلى عرب الداخل، تكثـّف القمع الإسرائيلي ضد هذا الجزء من شعبنا، وعادت المفردات الصهيونية التي شاعت في الخمسينيات والستينيات، مثل: "العرب طابور خامس"، و "العرب خطر أمني" وغيرها إلى الواجهة بل اتخذت شكلاً سافرًا بصورة غير مسبوقة.

تجلت هذه المرحلة بالبدء بملاحقة عزمي بشارة السياسية وتقديمه للمحاكمة وصولاً الى تدبير مؤامرة كبيرة ضده أجبرته على ترك البلاد. كما تعرض حزب التجمع ولا يزال لحملات تحريض مستمرة تتصاعد يوميًا، ولمحاولات شطبه ومنعه من خوض انتخابات الكنيست. وبعد فترة قصيرة بدأت الحركة الإسلامية تتعرض لملاحقة وتضييق، بعد حملات تحريض مستمرة ودعوات لإخراجها عن القانون، وصولاً إلى سحب الشيخ رائد صلاح، رئيس الحركة.

ما الجديد إذن! لم يظهر هذا الجديد في الأسابيع الأخيرة، فقد بدأت إرهاصاته قبل الإنتفاضة الثانية وهبة القدس والأقصى، وقبل هزيمة الجيش الإسرائيلي في لبنان عام 2000 تحت وقع ضربات المقاومة اللبنانية وقبل فشله الذريع عام 2006. ولكن بفضل هذه الأحداث الجسام، اتخذ هذا الجديد زخمه الكبير واندفاعه الواسع. هذا التطور الجديد نما في مسارين متضادين ودخلا في صراع اتخذ أشكالاً ومضامين بعضها غير مسبوق.

المسار الأول هو المبادرة الخلاقة لعرب الداخل، وبالتحديد بروز وتبلور وانتشار الخطاب الذي أنتجه التيار القومي؛ المتمثل في تجاوز الشعارات التي تقادم عليها الزمن والذهاب مباشرة إلى الجذر، جذر المأساة، جذر الدولة العبرية أي أيدلوجيتها الصهيونية وقوانينها اليهودية التمييزية والنافية لكيان قومي عربي جماعي سواء في داخل الخط الأخضر أو في فلسطين والشتات عامة. وهذا الخطاب، وبالتحديد تشخيص تأثيراته واتساعه من جانب المخابرات الإسرائيلية، دفع الجهات الأمنية الإسرائيلية (أنظر كتاب عامي أيلون عن خطورة خطاب عزمي بشارة الصادر عام 2000) إلى القول أن عزمي بشارة والتجمع تجاوزا الخطوط الحمر، وهذا قبل تعمق عملية التواصل مع العالم العربي.

إن قوة الدفع الداخلية لهذه المبادرة المحلية أو الخطاب الجديد هي نتاج العقل الفردي والجماعي لأصحاب هذه المبادرة وهذا الخطاب - المشروع، ولكنها بلا شك تأثرت واستمدت زخمًا كبيرًا من المستجدات النوعية العربية (اللبنانية في هذه الحالة) والفلسطينية التي صادف حدوثها في أوقات متقاربة جدًا. فاندحار الجيش الإسرائيلي عن الأراضي اللبنانية حصل في أيار عام 2000، وانفجار الإنتفاضة الفلسطينية الثانية حصل في 28/09/2000 أي بعد أقل من ستة أشهر، ونتائج عدوان 2006.

وبالتالي فإن عرب الداخل الذين لم ينعزلوا وجدانيًا وعاطفيًا، حتى في ظل أصعب أيام الجيتو الذي فرض عيهم بعد عام 1948، عن انتصارات وهزائم وكوارث العرب.

طالتهم تداعيات الموجات القادمة من تلك الأجزاء من الوطن الفلسطيني والعربي. وقد وجدت هذه التداعيات تعبيراتها ليس فقط على المستوى الشعبي والفردي، بل على مستوى الأطر الناشئة والمنظمة. والمقصود أن قيادة التجمع الوطني الديمقراطي في مقدمتهم الدكتور عزمي بشارة، عبّرت عن ذلك علنًا ولهذا كانت أولى القضايا ملاحقة بشارة – منذ عام 2000 أي قبل الإنتفاضة. وكل ما قاله هو تأييد حق الأمة العربية في الدفاع عن أرضها وشعبها وسيادتها في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية. والدليل على ذلك أن المحكمة الإسرائيلية لم تستطع استخراج أسانيد قانونية من جعبة قوانينها القمعية الكثيرة لإدانة بشارة آنذاك على هذه القضية أو القضايا الشبيهة.

وهنا كان التغيير عند المؤسسة الإسرائيلية. فقد اكتشفت أن قوانينها العنصرية والقمعية القائمة غير كافية لمنع تطور الوعي السياسي والأداء السياسي عند عرب الداخل. وهكذا بدأت مرحلة جديدة لسان حالها يقول إن البنية القائمة أخفقت في استشراف طاقات العرب الكامنة – وإمكانية أن ينهض فكرهم وتتجدد أحوالهم ويعيدوا اكتشاف أنفسهم كجماعة ومكانتهم في الصراع ضد البنى العنصرية لدولة الإحتلال. كما اكتشفوا وعبر الخطاب السياسي الجديد أنهم عاشوا لفترة طويلة في ظل وهم تحقيق المساواة وحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً دون تفكيك هذه البنى الأيديولوجية العنصرية.

بطبيعة الحال إن الوعي الجماعي الجديد، أي كمجموعة قومية، أدى منطقيًا إلى إعادة بناء مفهوم العلاقة مع الأمة العربية – كونها علاقة تاريخية وكفاحية وسياسية وبدونها لا تكتمل الهوية القومية لعرب الداخل ولا يمكن تحقيق حتى الحدّ الأدنى من حق تقرير المصير لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني – مثل المساواة القومية والمدنية والحكم الذاتي الثقافي.
وهذا، منطقيًا وعاطفيًا، يقود إلى التعاطف مع انتصارات الأمة على الأعداء. والإحتلال الإسرائيلي المدعوم من الإمبريالية الأمريكية هو العدو المركزي لشعب فلسطين والأمة العربية.

في مقابل هذه التطورات العاصفة التي حدثت في الذهنية السياسية والشعبية عند عرب الداخل، انتفض الجهاز الأمني الإسرائيلي وكل أجهزة الدولة العبرية ليُعيدوا رسم قواعد اللعبة، وإن كان ذلك لحساب الأمن على نقيض ما تعتبره دولة إسرائيل بضاعتها المصدّرة إلى الغرب أي الديمقراطية -التعددية وحرية الرأي واحترام حقوق الإنسان بغض النظر عن الدين والعرق والجنس. ويمكن وصفها بالسياسة الإستباقية، أي العمل على إستباق انتقال هذه التطورات إلى حالة فلسطينية نوعية تهدد الهيمنة الصهيونية المطلقة على الحيّز العام داخل الخط الأخضر فضلاً عن الحيّز الكلي لفلسطين وشعبها. إذًا لم تعد إسرائيل تكترث كما كانت تبدو للكثيرين في السابق خاصة في الغرب، بل انتقلت إلى التشديد أكثر على يهوديتها، بحيث أصبح الدفاع عنها – أي عن الإمتيازات اليهودية – السيطرة على الأرض وعلى الحكم وعلى الحدود والأجواء – مسألة وجودية تدخل في صلب المفهوم الأمني. فعرب الداخل الذين لا يملكون حتى البنادق والذين اختاروا النضال الجماهيري والقانوني أصبحوا في عرفها خطرا استراتيجيا. لماذا؟ ليس لأن بعض الأفراد ينتمون إلى تنظيمات المقاومة المسلحة، وليس فقط لأن وجودهم وتكاثرهم يهدد بتقاسم موارد البلاد، بل ولأن وعيهم السياسي ارتقى إلى أطر منظمة قادرة على خوض معارك سياسية وأيديولوجية وإعلامية داخل إسرائيل وخارج إسرائيل – في المحافل الدولية – لإزاحة ما تبقى من مساحيق عن وجه دولة الأبارتهايد الزاحف داخل الخط الأخضر. ولا تُخف إسرائيل امتعاضها وضيق صدرها مما يقوم به ممثلو عرب الداخل في هذا المجال. وأمير مخول أحد هؤلاء. ولكن كان عزمي بشارة المفجّر الرئيسي لهذه المعركة والذي يتابع خطه التجمع الوطني الديمقراطي وعموم الحركة الوطنية.

ليست التهم الموجهة إلى المناضلين الدكتور عمر سعيد وأمير مخول بحجم التهم الموجهة لعزمي بشارة الذي اتهم بتقديم المساعدة للعدو في زمن الحرب. ومع ذلك تقدم المخابرات الإسرائيلية التهم الموجهة إليهما بصورة مضخمة بل مفبركة، والتي أصبح واضحًا، وكما تقول هذه الأجهزة نفسها، أنها حُضـّرت على مدى فترة طويلة من المراقبة والترصد وتلفيق المعلومات.

أعرف الدكتور عمر سعيد منذ بواكير الشباب؛ شابًا لامعًا ومبدعًا، ميدانيًا وفكريًا، ونشطنا سوية في حركة أبناء البلد لحوالي عقدين من الزمن. وهو من المؤسسين للتجمع الوطني الديمقراطي. أعرف أنه دائمًا عرف حدود الممكن في العمل، وكان ولا زال شخصًا مسؤولاً ويحسب الأمور بدقة. والدليل أنه لم يدن مرة واحدة، وقد تعرض، أسوة بالعديد من كوادر حركة أبناء البلد، منذ الثمانينيات للعديد من الإجراءات القمعية بأوامر إدارية، بدون محاكمة، بموجب أنظمة الطوارئ سيئة الصيت، ما يؤكد أن ملاحقته هي سياسية.

لم يخفِ د. سعيد مواقفه لا الشفهية ولا المكتوبة – في مقالاته الرائعة – مواقف وطنية وقومية وإنسانية حادة. ومع أنه فضـّل دائمًا عدم الدخول إلى المؤسسات المركزية، إلا أنه بقي فاعلاً في السياسة ومجالات الحياة الأخرى. وحين اختار الطب كمهنة، أصرّ على أن يكون في ذلك رسالة أيضًا – رسالة عربية. أي اختار الطبّ الطبيعي – صناعة الأدوية من الأعشاب. وقبل الإعتقال كان على وشك إصدار مجلّد عن هذا الموضوع – مستعرضًا فيه جذور الطبّ الشعبي العربي ومكملاً له. في سياق عمله واتصالاته في الغرب وفي العالم العربي من الطبيعي أن يلتقي مع أبناء أمته ويتبادل الهموم معهم.

إن الجديد في التعامل الإسرائيلي هو جعل هذه اللقاءات مع شخصيات عربية تكون في عرف الدولة العبرية شخصيات من دولة عدوّ – مسألة محظورة أمنيًا. إسرائيل قامت بإعادة تصميم قوانينها وسياساتها لضرب القيادات العربية وردعها، ومنع تأثيرها ودورها الطبيعي في تعزيز الهوية العربية القومية لدى عرب الداخل، وفي الإرتقاء بهذه الهوية وترجمتها إلى مؤسسات وبنى مادية قادرة على الإستمرار وإعادة إنتاج نفسها.

لقد أصبح واضحًا، ومن خلال قراءة التحولات الجذرية التي حصلت داخل هذا الجزء من شعبنا الفلسطيني باعتبار أن قضيته جزء من القضية الوطنية العامة، وجزء من الصراع، أن كافة ممارسات الدولة العبرية، مهما وصلت درجة إيذائها، لن تستطيع إعادة هندسة الذهنية السياسية الفلسطينية المتشكلة في الداخل على صورة ذهنية الخمسينيات والستينيات. قد تستطيع إسقاط البعض ونجحت وفي ذلك، وقد تستطيع ترويض بعض ممثلي جمهور عربي الذين يلعبون على الحبلين، مثل عضو كنيست معروف أتقن فن اللعب والتواصل بين المخابرات الإسرائيلية وبعض المخابرات العربية ويمتاز بالمسرحيات والحركات البهلوانية في الكنيست وخارجها. وقد ظهر ذلك جليًا لمن كان غير متيقن من ذلك، أثناء الزيارة إلى ليبيا وبعدها. وقد نستطيع عرقلة النهوض أو هذا الصعود في الوعي الجماعي.

ولكن ما أصبح واضحًا وثابتًا هو الخط التصاعدي في هذا النهوض. وما يبقى هو قدرة عرب الداخل ونخبهم على تأطير هذا الوعي بمؤسسات أقوى وأصلب، تستطيع حماية الشعب والذود عنه، وعن مناضليه الكثر.

التعليقات