31/10/2010 - 11:02

الحرية أم المساواة؟../ سونيا بولص

الحرية أم المساواة؟../ سونيا بولص
ما الأهم، الحرية أم المساواة؟ شغل هذا السؤال ولا زال يشغل العديد من الفلاسفة حتى يومنا هذا. وبغض النظر عن الإجابة عليه، هنالك حقائق لا يمكننا إلا أن نجمع عليها: مجتمع يتمتع أفراده بحيّز كبير من الحرية، لكنه لا يكفل لهم المساواة هو مجتمع غير سوي. كذلك هو الأمر في مجتمع يساوي بين أفراده لكنّه يترك لهم هامشًا صغيرًا من الحرية.

الطامّة الكبرى تكمن في المجتمعات التي تعاني من غياب المساواة والحرية معًا كالمجتمعات العربية، التي تعاني من هذه الأزمة المزدوجة ليس فقط على مستوى الأنظمة الحاكمة بل على مستوى الثقافة السائدة أيضا.

إنّ انعدام منظومة قانونية وثقافة مجتمعية تحترمان حرية الفرد ينعكس سلبًا على أفراد المجتمع رجالاً ونساءً. فقد شهدت السنوات الأخيرة ملاحقات مؤسساتية شرسة وحملات تكفيرية شعبوية لكتاب ومثقفين ومبدعين رجالا كانوا أم نساءً فقط لأنّهم سخرّوا أقلامهم ومواهبهم للدفاع عن الحرية بمفهومها الجوهري، رافضين استعمالها بانتهازية كما يفعل هؤلاء الذين يتغنون بالحرية فقط عندما يخدم الأمر مصالحهم الشخصية، في الوقت الذي ينكرونها على غيرهم.

لكنّ الثمن الأكبر لانعدام ثقافة داعمة للحريات الشخصية تدفعه النساء. كم مرة سمعنا عن جرائم شرف تستهدف الرجال؟ هذا يعود لأسباب عديدة منها انتشار ثقافة النفاق في المجتمع وظاهرة انفصام الشخصية لدى أفراده. فنرى نفس الأهل الذين يتحفوننا „بقيمهم الأخلاقية” بكل ما يتعلق بسلوكيات بناتهم يتسامحون أو حتى يتباهون بمخالفة أبنائهم الذكور للقيم ذاتها، والتي من المفترض بأنها سارية على الجميع. كما أن الرجال يتمتعون بحيز أكبر من حرية الحركة مقارنة مع النساء، مما يحد من قدرة المجتمع على فرض رقابة تامة على سلوكياتهم وبالتالي السيطرة عليها.

في هذا الواقع لا يمكن للحركات النسوية بأن تدير ظهرها لمعركة الحرية وبأن تختار المساواة فقط عنوانًا لمعركتها. ما معنى المساواة بين الرجل والمرأة في مجتمع لا يعترف بحرية كليهما؟ هذا بالطبع لا يتناقض مع أن تضع الحركات النسوية سلم أولويات لمعاركها بناء على حاجات النساء في المجتمعات التي تنشط بها. ففي المجتمعات التي تعاني فيها النساء من التمييز في فرص التعليم وانعدام الحماية القانونية لأبسط حقوقهن الإنسانية كالحق في الحياة والمسكن لا يمكن للحركات النسوية بأن تركز على جوانب من قمع المرأة تعتبر من وجهة نظر النساء أنفسهن كنوع من „الرفاهيات” في ظل واقع تحرم فية الفتيات من الذهاب إلى المدرسة أو واقع لا تجدن به مدرسة.

لكن إذا نظرنا إلى تجربة العمل النسوي الفلسطيني في الداخل وإنجازاته التراكمية يمكن القول إنّ الأرض أصبحت أكثر خصوبة لخوض معركة الدفاع عن الحريات الفردية.

بداية يجب أن نميّز بين قمع الحريات الفردية الذي تمارسه إسرائيل ضد أبناء شعبنا في الداخل، مقابل قمع الحريات الشخصية الناتج عن ثقافة مجتمعية رافضة لحق الفرد في تقرير مصيره. إنَّ القمع المؤسساتي يواجه وبقوة من قبل جميع الأحزاب والحركات السياسية الفلسطينية في الداخل. أضف الى ذلك الدور الريادي لبعض الجمعيات القانونية التي تعمل لحماية الحقوق الجماعية للفلسطينيين مقابل الدولة.

أما القمع الداخلي، وله أوجه كثيرة ومنها، للذكر لا للحصر، منع مغنية ملتزمة تستمد فنها من التراث الفلسطيني الأصيل من الغناء في قرية عربية لأنّ فنها „حرام”، أو حملات تشهير بصحفي تقدمي لأنّه تجرّأ على نقد بعض مظاهر النفاق الاجتماعي، أو المطالبة بمنع بيع منتوجات معينة في بلدة عربية. هذه الظواهر وغيرها لا تجد الا الصمت ردًا عليها. ولا نسمع صوتًا للحركات السياسسة ولا حتى للجمعيات الحقوقية اللهم إلا صوت النساء.

الجمعيات النسوية هي الوحيدة التي تسمع موقفًا واضحًا من مظاهر القمع الداخلي في سياقات محددة تتعلق بالنساء. على سبيل المثال، في تصديها لجرائم الشرف، لا تكتفي الجمعيات النسوية بترديد مقولات مقبولة على الجميع بأنّ الحق في الحياة هو حق مقدس، وإنّ القتل من غير حق مخالف للقيم اللإنسانية والدينية، بل هي اختارت الخيار الأصعب ودافعت عن حق المرأة على جسدها إيمانا منها بالحريات الشخصية.

هذه الخطوة هي خطوة مهمة لكنها تبقى محدودة، إذ حان الوقت لفتح باب معركة الحريات الشخصية على مصراعيه. وللانصاف يجدر بنا الاشادة بالموقف الاستثنائي لقائدة حزبية وهي النائبة حنين زعبي، الذي عبرّت عنه في مظاهرة الجمعيات والاحزاب ضد قتل النساء قائلة: „من الأسهل الدفاع عن حريات سياسية، من الدفاع عن حريات اجتماعية... مريح، بل ومربح سياسياً، وأخلاقياً، أن نقول إننا مع مساواة المرأة. لكن لا نحدد ما هي هذه المساواة ... حريتي الخاصة، هي شأني الخاص، وانتهاك حريتي الخاصة هي شأن عام. ما يحدث هو بالضبط العكس. نحن نرفض مجتمعاً، يعتبرني حيزاً خاصاً عندما أقتل، أو أهان، أو أظلم، ويعتبرني حيزاً عاماً، بل حيزاً منتهكاً، عندما أريد اختيار نهج حياتي، وحرياتي الخاصة، وتسمى الياء في حياتي ياء الملكية.”

بالرغم من التمييز المؤسساتي والمجتمعي الذي تعاني منه المرأة الفلسطينية في الداخل، هنالك بعض الإنجازات التي تم تحقيقها في السنوات الأخيرة كارتفاع نسبة النساء في التعليم العالي، والتقبل الواضح لفكرة عمل المرأة من قبل المجتمع، انتخاب عضوة برلمان ممثلة لحزب عربي لأول مرة، وجود تمثيل نسائي في لجنة المتابعة، خروج لجنة المتابعة لمظاهرة ضد قتل النساء، حراك أكبر للنساء داخل الأطر السياسية وغيرها.

الطريق لتحقيق المساواة ما زالت شائكة وطويلة لكن هذه الإنجازات التي قد تبدو متواضعة تفسح مجالا أوسع للحركات النسوية لخوض معركة الحريات الفردية. كم منا يعرف طبيبة لا يرغمها أهلها على الزواج بشخص معين لكنهم يحتفظون لأنفسهم “بحق الفيتو” فيما يتعلق باختيار شريك حياتها؟ أو معيدة واعدة مستقلة اقتصاديًا لكنها لا تملك حق التمتع بمدخراتها لقضاء العطلة الصيفية في الخارج؟ أو محامية ناجحة يمنعها زوجها من ارتداء الحجاب بالرغم من أنها اختارته عن قناعة؟

المعركة من أجل الدفاع عن الحريات الفردية هي معركة صعبة للغاية، وهي صادمة للقوى المحافظة في المجتمع. القبول بمبدأ المساواة على الصعيد التصريحي والعام أسهل بكثير لأنه يفسح المجال لاجتهادات عديدة حول تفصيله وتطبيقه في الحالات العينية. أما القبول بمقولة “للفرد حق في تقرير مصيره حتى لو تعارضت رؤيته لمصيرة ولسعادته مع المسلمات الإجتماعية والتعاليم الدينية” هو أمر مغاير تماما.

وبالرغم من صعوبة معركة الحرية وكثرة المتربصين بها، هذه معركة لا مناص منها. إنها معركة مصيرية للنساء لكنها ليست معركتهن وحدهن. من غير المجدي للحركات النسوية الخوض بها دون إقحام القوى التقدمية في المجتمع وبناء إستراتجيات عمل وتحالفات جديدة مع جمهور الرجال. قد نختلف حول الإستراتجيات وحول القرار في من يجب أن يتصدر هذه المعركة لكن هنالك أمر واحد لا يجوز أن نختلف عليه: حان الوقت لخوض هذه المعركة قبل فوات الأوان.

التعليقات