31/10/2010 - 11:02

السلاح الفلسطيني في لبنان.. مرّة أخرى!../ يسار أيوب*

السلاح الفلسطيني في لبنان.. مرّة أخرى!../ يسار أيوب*
حديث سمير جعجع لمحطة L.B.C اللبنانية بعد انتهاء الأعمال العسكرية في مخيم نهر البارد، فتح السجال مرة أخرى على موضوع السلاح الفلسطيني في لبنان، حين رأى أن «دور الجيش بعد اليوم هو ما قام به في مخيم نهر البارد».

وقد «حث الدولة (في هذا الحديث) على القيام بعمل مشابه لما قامت به في المخيم المذكور في معسكرات الناعمة وقوسايا وحلوى»، واضعاً السلاح الفلسطيني كله في سلة واحدة.
مرَّ السلاح الفلسطيني في لبنان بمراحل عديدة، بدأ غريباً وسينتهي غريباً. فبعيد بداية العمل العسكري الفلسطيني في لبنان منتصف الستينيات، جرت محاولات لبنانية عديدة لمنعه والسيطرة عليه. وقد تعرّض لمضايقات شديدة بلغت ذروتها نهاية الستينيات في اشتباكات دامية وقعت بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية. بيد أن التضامن والتعاطف الشعبي والرسمي العربي مع الفلسطينيين دفع قائد الجيش اللبناني آنذاك لتوقيع اتفاقية القاهرة في عام 1969 مع منظمة التحرير الفلسطينية (بعد سيطرة الفصائل المسلحة عليها) برعاية مصرية مباشرة لتنظيم العمل العسكري الفلسطيني في لبنان وحصره في قطاعات في الجنوب اللبناني في ما عرف باسم «فتح لاند».

شهدت بداية السبعينيات، بعد الخروج الكبير من الأردن وانتقال الجهد العسكري الفلسطيني إلى لبنان، اشتباكات ومعارك مسلّحة بين الطرفين (الدولة اللبنانية والأحزاب المعارضة للوجود الفلسطيني من جهة، والمقاومة الفلسطينية من جهة أخرى) بقيت متفرقة ومحصورة إلى حين اندلاع الحرب اللبنانية التي يؤرخ لبدايتها في حادثة بوسطة عين الرمانة الشهيرة.

آنذاك لم يتغلب «صوت العقل» المنادي بالحل عبر «عزل الكتائب سياسياً»، على صوت البداوة العربية للأخذ بالثأر.
دخل الصراع مرحلة جديدة في هذه الحرب التي تكشفت عن عمليات تسليحية هائلة لجميع القوى الموجودة على الساحة اللبنانية شاركت فيها أطراف عربية ودولية متعددة المصالح.

في هذه المرحلة بالذات بدأت المقاومة الفلسطينية وفصائل العمل الفلسطيني المسلح الحصول على أسلحة من النوع الثقيل من مصادر عديدة، وأحياناً متعادية، ودخل الفلسطينيون بكل سلاحهم في هذه الحرب جنباً إلى جنب مع ما كان يعرف بالقوى الوطنية اللبنانية لمواجهة «الانعزاليين والقوى اليمينية». وحتى ما بعد الخروج من بيروت إثر الاجتياح الإسرائيلي 1982 كان السلاح الفلسطيني سلاحاً متمتعاً بشرعية الاعتراف الرسمي طبقاً لاتفاقيات القاهرة، واعتراف شرائح واسعة من القوى اللبنانية، التي طلبت هي ذاتها من الراحل عرفات في خضم المواجهة الموافقة على الخروج لأن «بيروت لن تحتمل أكثر».

بعد التغريبة الثانية، اشترك ما بقي من السلاح الفلسطيني في معارك تحرير الجبل وبيروت، كما دخل في معارك بينية فلسطينية طاحنة (انشقاق فتح وحصار طرابلس) كذلك شارك في معارك لبنانية - لبنانية (معارك إعادة وليد جنبلاط إلى الجبل) وفي معارك فلسطينية لبنانية (حرب المخيمات).

واشترك طوال الثمانينيات، بالطبع، في الجهد العسكري اللبناني المقاوم للاحتلال الاسرائيلي في الجنوب. وبعد اتفاق الطائف الذي أعلن نهاية للحرب الأهلية، وبضغط عربي ودولي كبير، قامت فصائل فلسطينية عديدة بتسليم سلاحها الثقيل «هدية» إلى «الدولة اللبنانية والشعب اللبناني» ثم تبع ذلك إلغاء اتفاق القاهرة.

حافظ الفلسطينيون على سلاحهم المتوسط والخفيف في مخيماتهم الممتدة على طول لبنان وعرضه، كما حافظ فصيلان على الأقل بمواقع عسكرية خارج المخيمات هما فتح الانتفاضة والقيادة العامة. يتمتع هذان الفصيلان بعلاقات مميزة مع سوريا، حيث تقيم قيادتا التنظيمين، ولهما فيها مواقع ومراكز إعلامية، ويمارسان عملاً تنظيمياً في مخيمات الفلسطينيين في سوريا. هذه العلاقة القوية أتاحت لهما الاحتفاظ بالعديد من المواقع العسكرية في لبنان، بعيداً عن الحدود الجنوبية مع فلسطين، إضافة إلى وجودهما في المخيمات الفلسطينية. ويسوق هذان التنظيمان مجموعة أسباب للاحتفاظ بالسلاح خارج المخيمات ورفض تسليمه يمكن تلخيصها بما يلي:
إن وجود هذه المواقع العسكرية خارج المخيمات في مناطق شمال الليطاني، وصولاً إلى الناعمة قرب بيروت، تجعل منها مواقع إسناد للمواقع الأمامية على الجبهة، وبالتالي فإن أسلحتها تتركز على مضادات الطيران، بالإضافة إلى مستودعات الذخيرة والمؤونة العسكرية اللازمة لإمداد الجبهة الأمامية. وهي مواقع موجودة منذ وجود المقاومة الفلسطينية على أرض لبنان نهاية الستينيات.

غير أنه منذ اجتياح 1982 لم يعد هناك مواقع فلسطينية أمامية، ولا جبهة فلسطينية - إسرائيلية ساخنة في جنوب لبنان ليكون هناك حاجة لإسناد خلفي من خلال المواقع. وبهذه الحالة فإن ربط السلاح الفلسطيني خارج المخيمات بعملية الصراع العسكري العربي (أو الفلسطيني) - الإسرائيلي، هو مبرر غير مقنع للعديد من مناهضي وجوده، وخصوصاً بانتفاء الحاجة إليه، وهو ما بدا واضحاً خلال حرب تموز من العام الماضي، حيث لم تشترك هذه المواقع (أو لم يأت ذكر على مشاركتها) في الأعمال الحربية، وإن استشهاد أربعة من عناصر الجبهة الشعبية - القيادة العامة خلال الحرب كان نتيجة لقصف جوي إسرائيلي، وليس خلال معارك مباشرة.

بعبارة أخرى، تحولت هذه المواقع إلى أهداف سهلة وثابتة للطيران الاسرائيلي، وهي بذلك صارت عبئاً عسكرياً، أكثر منها حاجة أساسية في مجريات الصراع.

وقد نستطيع الاستدلال من تجربة حزب الله على أنه، في ظل التفوق الجوي الإسرائيلي، لا حاجة عسكرية فعلية لوجود قواعد ثابتة ميزتها الأساسية هي البعد عن الحدود، حيث لم يعمد الحزب إلى بناء مواقع ثابتة ظاهرة للعيان، ومع ذلك حقق إنجازات مهمة في مسيرة المقاومة عموماً، وصد العدوان الأخير بشكل خاص.
يربط بعض الفلسطينيين وجود سلاحهم خارج المخيمات وداخلها بمهمة حماية الفلسطينيين فيها، ويذكِّرون دوماً بما تعرضت له هذه المخيمات من «مجازر» أدت أحياناً إلى مسح مخيمات بكاملها عن سطح الأرض.

غير أن المواقع التي يسيطر عليها التنظيمان المسلحان بعيدة عن المخيمات، ولا يمكن أن تؤدي دور الحماية، فضلاً عن كون السلاح الموجود داخل هذه المخيمات بمعظمه سلاحاً فردياً خفيفاً أو متوسطاً، وبالتالي لا يمكن أن يصد أي هجوم قوي عليها.

السؤال الأساسي هنا: ممن يريد السلاح الفلسطيني حماية المخيمات؟ لا يمكن أن تكون موجهة لردع الإسرائيلي الذي لا يتورط بمهاجمتها براً، والذي يفضل تحديد أهدافه وقصفها جواً دون الحاجة إلى النزول إلى الأرض، هذا إذا افترضنا أن الإسرائيلي مهتم فعلاً بالتخلص من هذا السلاح، وخصوصاً بعد انتشار الجيش اللبناني والقوة الدولية على الحدود المقفلة أساساً في وجه النشاط الفلسطيني منذ زمن.

أما الاحتمال الآخر فهو حماية المخيمات من المحيط اللبناني. ويبدو أن معمعة الاتهامات المتبادلة في لبنان بإنشاء ميليشيات مسلحة قد تعطي مشروعية لهذا الاحتمال. غير أن واقعيته ما زالت قيد الاختبار. فبعد تجريد الميليشيات من سلاحها إثر اتفاق الطائف، حافظ حزب الله وحيداً على سلاحه، وهو الحزب الذي لا خوف منه كما يقول أصحاب السلاح الفلسطيني في لبنان. أما الميليشيات الأخرى فهي ما زالت قيد إعادة التكوين (إذا صدقنا الاتهامات)، وإمكان نموها بشكل كبير شبه معدوم، ثم لا يمكنها أن تقوم بمهاجمة المخيمات إلا في إطار حرب أهلية شاملة وتغييرات جوهرية في خرائط التحالفات القائمة حالياً في لبنان وفي الواقع السياسي الإقليمي والدولي.

ويبقى الهاجس بنظر أصحاب السلاح الفلسطيني في لبنان هو قيام الجيش اللبناني بمهاجمة المخيمات تحت ذريعة قانونية، كأن يقوم بتنفيذ قرار تصدره الحكومة اللبنانية بتجريد الفلسطينيين من سلاحهم، أو أن يقوم بتنفيذ حكم قضائي ما، وبالنهاية سيستطيع هذا الجيش تنفيذ المهمة، إذ إن أحداث نهر البارد دلَّت على قوته، وبرغم الأشهر الأربعة التي استغرقها لإنهاء المعارك، إلا أنه أثبت مقدرة على القيام بذلك، برغم هذا الزمن الطويل نسبياً، الذي كان يمكن أن يختصر كثيراً لو لم يكن هناك مدنيون في المخيم كما أوحى الجيش نفسه.
لم تربط المذكرة الطويلة التي قدمتها الجبهة الشعبية ـــــ القيادة العامة إلى زعيم الغالبية النيابية في لبنان سعد الحريري بين السلاح وتحسين الشروط الإنسانية والمعيشية للفلسطينيين في لبنان، وإن اعتبرته (أي التحسين) شرطاً أساسياً قبل الدخول في حوار يستهدف مستقبل هذا السلاح.

غير أن سيلاً من التصريحات الفلسطينية تربط بين الأمرين، وهو ما لا يمكن أن يكون مفيداً لمشروعية وجود هذا السلاح الذي قد يتحول من «رمزية» مقاومة لانتزاع حق فلسطيني اغتصبته إسرائيل، إلى «مقاومة» لانتزاع «حقوق» الفلسطينيين في لبنان، ذلك أن هذا الربط يعني دخول السلاح بتفاصيل لبنانية داخلية تتعلق بتنظيم الحياة بين الدولة والقاطنين على أرضها (لبنانيون أو فلسطينيون). وبالتالي قد يتحوّل بنتيجة هذا الربط إلى سلاح «فئة خارجة» تسعى لتحقيق مطالب إنسانية واجتماعية واقتصادية لا علاقة لها بالمطالب الوطنية والقومية، وستدفع باتجاه أن تكون المعالجة اللبنانية في إطار أمني بحت يساعد على تحقيقه عاملان مهمان: الأول، أن هذا بالضبط ما يريده فريق أساسي من قوى 14 آذار (جعجع وجنبلاط). والعامل الثاني هو الدعم السياسي اللامحدود الذي قدّمه ويقدمه محمود عباس مباشرة أو عبر ممثله في لبنان عباس زكي للحكومة اللبنانية في ملف السلاح الفلسطيني.
إن الدعم السلطوي الفلسطيني للجهد السلطوي اللبناني في هذا الملف ترجم مراراً عبر تصريحات ورغبات ومواقف قادمة من رام الله إلى لبنان.

وقد نفهم بسهولة هذا التوجه في شأن السلاح خارج المخيمات، حيث لا يمكن محمود عباس تغطية سلاح أشد المعادين له على الساحة الفلسطينية، وهما القيادة العامة وفتح الانتفاضة. غير أن الموضوع سيكون أكثر تعقيداً من ذلك في شأن السلاح داخل المخيمات، الذي تتوزعه جميع الفصائل بدون استثناء فضلاً عن مجموعات مستجدة على حياة المخيم الفلسطيني.

فالمشكلة هنا أن عباس لا يستطيع إلزام هذه التنظيمات بتسليم سلاحها، وهو ما رفضته هذه الفصائل مراراً، بينما حركة فتح التي يتزعمها هو نفسه، لن تقبل بتسليم سلاحها ووضع المخيمات تحت سيطرة الفصائل الأخرى، ذلك أن الأمن الداخلي للمخيمات تتولاه الفصائل الفلسطينية المسلحة من خلال لجانها الأمنية المشتركة، أو ما يعرف بالكفاح المسلح.

إن ارتباط السلاح الفلسطيني عضوياً بملفات أخرى في لبنان والمنطقة، لا يُمكِّننا بأي حال من الأحوال من تجاهل الدور الذي يمكن أن يؤديه في الصراع الدائر داخلياً أو إقليمياً. فالتحالف الذي يربط سوريا بقوى فلسطينية مسلحة في لبنان يجعلها موضع ريبة، ويجعل من الفصائل وسلاحها موضع شك في أن لها دوراً سورياً وفق أجندة خاصة بالعلاقات السورية اللبنانية، وليس لفلسطين علاقة بها. بيد أن المسألة أكثر تعقيداً من ذلك، فالعلاقة السورية - اللبنانية تتأثر حكماً بمجريات الصراع العربي الإسرائيلي أولاً، وبالتوازنات الإقليمية والدولية ثانياً، وأيضاً بالعلاقات الداخلية اللبنانية المعقدة، الأمر الذي يجعل من محمود عباس أضعف من أن يفرض سياسياً إرادته على فصائل فلسطينية مسلحة على أرض لبنان وتتمتع بعلاقات واسعة مع سوريا ومع عدد غير قليل من القوى اللبنانية.

يبدو أن السلاح الفلسطيني في لبنان دخل مرة أخرى في دائرة الضوء بعد انتهاء المعارك في نهر البارد. والتساؤلات التي يمكن طرحها هي: هل باستطاعة الحكومة اللبنانية حل سلسلة الترابطات بينه وبين الملفات الأخرى؟ هل يمكنها أن تتجاوز التعقيدات التي تحيط بهذا السلاح لتدخل من زاوية أمنية بحتة؟ أم أن عليها البدء بمعالجة شاملة للملف الفلسطيني في لبنان واعتبار السلاح الفلسطيني تفصيلاً في هذا الملف؟ وهل سيقبل الفلسطيني أن يلقي بسلاح حمله منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وقدّم كثيراً في سبيل الحفاظ عليه؟ لا يبدو، وإن فُتِح الموضوع مرة أخرى، أنها ستكون الأخيرة.
"الأخبار"

التعليقات