31/10/2010 - 11:02

بين السلفية العلمانية والسلفية الدينية../ د.عمر سعيد

بين السلفية العلمانية والسلفية الدينية../ د.عمر سعيد
تحت عنوان "هل هنالك حلول أخرى"، كتب رفيقي سليمان أبو ارشيد (جريدة العنوان الرئيسي- 28/12/2007) نقداً لاذعاً، بل صرخة مدوية في وجه التغافل والتساهل المجتمعي مع ظاهرة " الشرطة الجماهيرية" وبدائلها، وعزوف شبابنا عن الانخراط في العمل السياسي وتبنيهم أنماطا سلوكية بعيدة عن ثقافتنا. ورغم كوني قارئاً شغوفاً بما يكتبه أبو ارشيد إلا انه استوقفني باستنتاجه العشوائي حينما يحدد "أن الحركة الإسلامية هي الوحيدة التي من الممكن أن تشكل عامل جذب مضاد للشباب، بصفتها نقيض المشروع الغربي الإسرائيلي المطروح أمام شبابنا، في وقت تقع فيه الأحزاب العلمانية في فخ الغربنة من جهة، ورفض الأسرلة من جهة ثانية، متناسية إن الغربنة والأسرلة في زمن الأسرلة هي واحد.. الخ".

لا شك أن هذا التعليل القطعي مشحون بكثير من النزعة الشعبوية ومتعارض مع الأبجديات المنهجية لأي تحليل علمي يسعى إلى إثراء الساحة الثقافية بأدوات مقارعة ذلك التحدي المذكور. كاتبنا، وعلى ما يبدو، يبني استنتاجه المستغرب استناداً إلى قاعدة تناقض الفعل وشكل رد الفعل، منشداً إلى منطق شكلاني لا يعير الفعالية الواقعية لرد الفعل المقصود اهتماماً مناسباً. فهو يفترض ضمنا أن الانحراف الواقع في اهتمامات شبابنا هو أخلاقي بالدرجة الأولى، وما دامت الحركة الإسلامية تحتكر لنفسها هذا المجال وتنصب نفسها حارسا عليه، فهي أولى به، تساوقا مع مبادئ الطب القديم القاضية بعلاج الضد بالضد. غير أن الأحرى بكاتبنا أن يرد الظاهرة السقيمة تلك إلى عوامل تشتيت وتفكيك متواصلة لعناصر ثقافية وعرفانية مصدرية هي حاسمة في تصليب الهوية والانتماء. لقد أفضت عقلية الإقصاء والتنكر التي مارسها بعض أقطاب العلمانية ضد موروثنا الثقافي من جهة وعملية الوصاية بالوكالة للحركة الإسلامية على كافة أوجهه من الناحية الأخرى، إلى إهدار دوره الهام في بلورة الوعي العام والشبابي منه على جناح التخصيص، والى فوضى فكرية شاملة تعززها حرب ضروس من التلاسن الأجوف. ليس بمزيد من التدين أو بكثير من التغريب نحصن أجيالنا من لوثة الضياع، وإنما باعتماد منزلة ما بين المنزلتين (وفقا للتعبير المعتزلي الشهير) بحيث نعزز انتماءهم لذاكرتهم التاريخية وقيمهم، مثلما نرسخ ثقافة الانفتاح والنقد والإبداع. بهذا النهج سنسهم في تشكيل وعي تحليلي متوازن لا يخشى "الغزو الثقافي" ولا ينحني أمام الإغراءات الوافدة على ذاك النحو المقلق، وهذا ما سأحاول مناقشة جذوره لاحقا.

لكن بداية دعنا نؤكد حقيقة معروفة لكاتبنا قبل الجميع وهي أن التيار العلماني، كما هو الإسلامي، ليس نطاقاً اجتماعيا فكرياً منسجماً، إذ تعصف بمكوناته اختلافات جوهرية قد تطال المبادئ الأساسية التي عليها يشيد مخياله الوجداني بما في ذلك رؤيته لنفسه وطبيعة مهامه. فضلاً عن ذلك فان هذين التيارين في ساحة الداخل يتسمان بخصوصية بارزة تتعلق بكونهما عملا وتطورا في فضاء غريب ومسدود يعود بنا إلى بداية اغتصاب فلسطين وتدمير مجتمعها وانكشاف المتبقين من أبنائها إلى سلسلة إجراءات قمعية منظمة ومتعددة المستويات سعت أساسا إلى إحداث قطيعة تاريخية وثقافية شاملة، من خلال فرض مسوغات الرواية الصهيونية في الذهن العربي. من هنا يمكن أن نفهم خطل المشهدية الثقافية وبهلوانية السياسة والصحافة المحلية حينما نكتشف عجزها عن التموضع الفاعل في تيار حركة الثقافة العربية والمساهمة في عملية انبناء وتبلور مشروعه النهضوي، حتى في بعده المتخيل. هذه المسألة الخطيرة لم تعر، لحد اللحظة، الأهمية اللائقة وليس بمقدور غرور أحزابنا الوطنية، ومهما تغنت بأمجاد وهمية، أن تلغي هذه الحقيقة المؤلمة والتي مسخت روح الخطاب الفكري المحلي حتى صار يتوسل الفتات على رصيف الثقافة الجدية، وتهتز خاصرته لأي إيقاع طارئ كشأن المخمورين على أبواب الحانات. وقد يكون عزمي بشارة أبرز استثناء في مشهدنا الثقافي لما له من ثقل فكري وتنظيري بالغ الأهمية محليا عربيا وخصوصا مساهماته المميزة في هذا النطاق. عبر هذه الغفلة المستطابة، تمكن" أوصياء الفكر" من انجاز حالة من الاغتراب بين الفكر والسياسة والتاريخ، وإليهم يعود "الفضل" في انفصام شخصية الخطاب السياسي وإنطاقه بلسانين وفقا لحاجات اللحظة السياسية والجمهور المخاطب.

هناك أوساط وطنية هامة ومؤثرة في التيار العلماني، الناشط بين ظهرانينا، ما زالت تتبنى موقفاً عدمياً تجاه العروبة والإسلام وتراثه الفكري والاجتماعي، هذا ناهيكً عن رموزه، بل وقد يتعداه إلى حدود السطحية النزقة في التنكر له حينما يقيمون علاقة سببية أو شرطية بين حضور تراثنا الفاعل وانتفاء الحداثة والتقدم من مجتمعنا. وما يحزننا أكثر أنه وبمجرد طرح فكرة اعتيادية مثل "المشروع القومي العربي" فذاك من شأنه أن يستدعي على الفور أوصافا ساخطة جاهزة ومخزنة في وعيهم مثل " الشوفينية"، والقومجية والبرجوازيه والتسلط ... وما إلى ذلك.

أصحاب هذه المدرسة لا يقيمون أهمية تذكر لأثر التراكم والتواصل الثقافي مع تاريخهم العريق في صقل وتكوين شخصية وعقل أجيالنا الصاعدة وتثبيت عقدنا الاجتماعي على قاعدة اقتران الأصالة بالحداثة، لدرجة يصح معها أن يوصفوا "بالسلفية العلمانية". اللافت للانتباه أن هناك مسافة واسعة تفصل وتميز هذا التيار المحلي عن مواقف وعقلية الأحزاب الموازية له في الحيز العربي والإسلامي، وقد يفسر ذلك الاختلاف كاستحقاق تأتى من خصوصية الموقع بما ترافق مع انقطاع ثقافي، أو بارتضائه لنفسه خيارات سياسية تاريخية متعارضة مع التوجه العربي والثوري العام تستوجب تبرير حدوثها باستمرار.

بالمقابل فإن التيار الإسلامي المحلي، ورغم اتساع خطواته وتسارعها في الخروج من الانعزالية الثقافية والسياسية وانطوائه على الذات، غير أنه ما زال، على مستوى الفكر النظري، يترنح في ذيل قافلة التجدد والتنوير، وينأى بنفسه عن المبادرات الفقهية التي يستوجبها حضوره الوازن في ساحتنا المتعطشة لمعالجة إشكاليات ملحة نابعة من موقعها الفريد. حتى هذه اللحظة، فإن "العلمانية"، كما تظهر في أدبيات هذه الحركة، هي مجرد غزو ثقافي تآمري يهدف إلى تحطيم الركائز الأخلاقية لدين الإسلام، وتسعى لحرف أبنائنا وبناتنا عن أمور دينهم وتشغلهم بما لا يفيد الأمة، وبالتالي فهي، من الوجهة المفهومية، مرادفة للرذيلة والانحراف وانهيار القيم. الأنكى من ذلك هو أن الخطاب الإيديولوجي لهذا التيار ما زال مجرد صدىً صاخب "للصدام الكبير" مع التيار القومي، ومتبنياً على نحو مزمن لمواقف التيار السلفي الرافض للمصالحة بين التيارين القومي والإسلامي، كما تشهد على ذلك مقالات قياداته المتواترة.


في هذه الثنائية المحبطة تتناطح أصوليتان وطنيتان متناقضتان، لكنهما، على المستوى المنهجي المجرد، تتشابهان في اعتماد أدوات التبرير التاريخي والثقافي لوجودهما. من الممكن وصف التيار "السلفي العلماني" باستخدام تعبير المفكر الشيوعي الشهيد مهدي عامل، بصاحب "الفكر اليومي"، وهو فكر يؤسطر حتى ماضيه القريب، ويتبسط القواعد الثابتة ويكره التعقيد، لذا فهو عاجز عن الخروج من قوالبه والتشامل بنظرياته مع الجديد، مما يجعله فكراً عاقراً لا ينتج معرفة بذاته، ويتحرك فقط حينما ينظر بعين النقيض إلى فعل الآخر. لم يطور مشروعا خاصا مرضيا لمحيطه المباشر، فيسعى ليوهم نفسه والغير بعكس ذلك عبر السجال اللفظي ونفي الآخر. هي غيبوبة ثقافية بجوهرها استحالت، بتأثير من لذة معاشرة الذات، إلى معارف هامدة تعيد تطريز أثوابها كلما تحولت، بفعل التقادم، إلى مجرد أسمال بالية لا تستر العورات. العلمانية (بصرف النظر عما يدعيه لنفسه) تبدو في ممارساته وكأنها مقولة اجتماعية جوهرانية ثابتة لا تاريخانية وتصل حد التقديس، وتحاط بجملة من الإجراءات الطقوسية والسلوكية تذكرنا بممارسات "حماة النص" المقدس أو شرطة الآداب. بحكم منطقها هذا نجدها تندفع بقوة لدعم محمود عباس وسلطته دون تردد، وفقط لكونه "محسوباً" على التيار العلماني، وليس مهماً درجة انغماسه في المشروع الأمريكي واشتراطاته، وعلى أساس ذلك تستنفر المثقفين ورموز الثقافة في معركة مفتعلة ليصبح عنوانها الدفاع عن الفكر العلماني النير في مواجهة الظلامية، بدلا من حماية فكر الممانعة والمقاومة في زمن العدوان والانهيار العربي، مع الإبقاء على نقدها وإدانتها لحماس.

من الناحية المعاكسة فإن الخطاب الإسلاموي الفكري يمارس من جهته خداعاً معرفيا هو ضروري في مهمة تلميع حضوره وعقلنة حججه التي سترفع في وجه خصومه، فضلاً عن ضرورة التجاوب مع احتياجات التطور وضغط المتغيرات. فهو من ناحية يتقبل "الحقائق العلمية" مع عالمه العرفاني شريطة ألا تتعارض مع ظاهر النص أو جوهر الأحكام الفقهية المتوارثة وبضمنها إجماع أهل الرأي. هذا النسق النفعي في التعامل مع الحقائق العلمية يجعل من عملية تحديث الفكر الديني مجرد إجراء تلفيقي انتفاعي لا يسمن ولا يغني عن جوع.

وعودة بنا لما كتبه "أبو ارشيد"، فباعتقادي أن ليس بمقدور نموذج الحركة الإسلامية، حتى هذه اللحظة، أن يكون جاذبا لجيل الشباب، ودليلنا على ذلك مستمد من الوقائع المعاشة يومياً، وذلك للأسباب التي عرضت قسماً منها، ولكون هذا النموذج لا يواكب ولا يراعي الحاجات الأساسية التي تفرضها تحديات العصرنة، من خلال اعتماد أصول فقهية أكثر مرونة وتجاوباً مع روح هذا الجيل وخاصة في ظل تأثيرات العولمة الثقافية. إن الاستمرار في التغافل عن هذه المفارقة من شأنه إما أن يزيد في تهميش الدور الشبابي في حياتنا، أو يفضي إلى نتائج متعاكسة مع الأهداف التي يسعون لنيلها وإلى مزيد من التدهور. إن مهمة تحصين شبابنا أخلاقيا وثقافيا ووطنياً تبدأ بالتربية المتوازنة على قيم الأصالة والوطنية في سياق حوار خلاق مع قيم الحداثة والتنور على مبدأ تذويت الفكر العلمي والنقدي لدى أجيالنا وإطلاق حرياتهم وليس بتسييج تحركاتهم بمنظومة معقدة من أنفاق التحريم والمنع حتى في صغائر الأمور.

وأخيرا إليك أيها الصديق أقول انه ينبغي على أمثالك من المثقفين الوطنيين خوض غمار هذا الحوار النقدي المضني وعدم الاكتفاء بالمجاملات اللطيفة المشوبة أحيانا بنوع من النفاق المستهجن مع أقطاب هذين التيارين، بينما نراك تتشدد وتتفنن في ابتداع النقد العبثي، وفي حالات كثيرة دون مبرر مقنع، لتشهره في وجه التيار القومي. إن نقد عقلية وممارسات هذه الأطراف وخطابها لا يطمح إلى تقريعها ولا يطمع إلى نفيها، لأنه نقد يتم على قاعدة الوحدة والتناقض، وأنت خير من يعلم أننا، خلافا لهما، كنا ولم نزل نعتبر هذين الطرفين مركبات أساسية لحركتنا الوطنية في الداخل.

التعليقات