31/10/2010 - 11:02

ثلاثة مسارات فلسطينية متعثرة../ د. بشير موسى نافع*

ثلاثة مسارات فلسطينية متعثرة../ د. بشير موسى نافع*
ثمة ثلاثة مسارات، متوازية ومتداخلة في الآن نفسه، تشغل الفلسطينيين وتساهم مساهمة كبيرة في تحديد الاتجاه الذي ستأخذه القضية الفلسطينية في الأمد المنظور: الأول، هو المسار التفاوضي بين القيادة الوطنية الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية. الثاني، هو المسار الخاص بالاستعدادات لعقد مؤتمر عام لحركة فتح. والمسار الثالث هو ذلك الخاص بجهود إطلاق حوار وطني فلسطيني، يعمل على حل الإشكالات التي تقف في طريق مصالحة وطنية.

المشكلة في هذه المسارات الثلاثة أنها تعاني جميعاً من التعثر، ولا تسير كما يأمل لها متعهدوها أو الشعب الفلسطيني ككل.

يبدو المسار التفاوضي الحالي وكأنه امتداد لأوسلو، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك تماماً. فكرة أن يمضي التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين على مراحل، تصل إلى التفاوض حول قضايا الحل النهائي، تعود بالطبع إلى اتفاق أوسلو. ولكن الجدول الزمني الذي وضعه اتفاق أوسلو للوصول إلى التفاوض حول الحل النهائي قد انقضى منذ زمن طويل، وجاء انفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية وحصار واغتيال الرئيس عرفات ليضعا نهاية لمسار أوسلو. لم تعد الحياة بالفعل إلى عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية إلا بعد التصاعد المفاجئ للاهتمام الأمريكي وانعقاد مؤتمر أنابوليس في خريف العام الماضي. أطلق أنابوليس المفاوضات من جديد، ولكن بدون المرجعيات السابقة، لا قرارات الأمم المتحدة، لا المبادرة العربية، ولا حتى إطار أوسلو بكل مساوئه.

المرجعية الوحيدة للمفاوضات الحالية هي الوسيط الأمريكي. وهذا ما يجعل الدور الأمريكي ليس مهماً وأساسياً وحسب، بل وبالغ الأهمية. بدون تحديد وجهة النظر الأمريكية في قضايا الخلاف، وهي كثيرة بلا شك، وفرض وجهة النظر هذه على الطرفين، فإن تقدماً ملموساً وجاداً في عملية التفاوض يبدو مستبعداً.

طبقاً لتصريحات المسؤولين الفلسطينيين والإسرائيليين، ناقش الطرفان كل القضايا محل البحث خلال عشرات الجلسات التي عقدها المفاوضون خلال الشهور الماضية. ولكن، وكما أشار الرئيس عباس قبل أسابيع، لم تبدأ مرحلة الكتابة بعد؛ بمعنى أن الطرفين لم يبدآ كتابة نصوص محددة للاتفاق. ولما كانت المفاوضات أطلقت في أنابوليس مع وعد أمريكي بالتوصل إلى اتفاق قبل نهاية العام الحالي، أي قبل نهاية ولاية إدارة الرئيس بوش، فقد سادت أجواء تشاؤم في المنطقة وطغت التصريحات المتحفظة والمستهدفة خفض مستوى التوقعات.

بدأ الفلسطينيون يتحدثون عن عدم جدية إسرائيلية، بينما أخذ الإسرائيليون يدعون إلى عدم الاستعجال، وأن نهاية العام ليس موعداً مقدساً. ولأن الإدارة الأمريكية تريد أن تترك البيت الأبيض بإنجاز ما في الشرق الأوسط، تحول الهدف الأمريكي من التوصل إلى اتفاق إلى اتفاق إطار، ومن إطار اتفاق شامل إلى إطار يقتصر على المسائل التى أمكن التفاهم عليها، وليس جميع قضايا الحل النهائي. والفرق بين هذه الأهداف بالضرورة ليس لغوياً؛ بل كالفرق بين أن يبدأ الطرفان مباشرة بعد التوقيع على الاتفاق في تنفيذه، أو العودة إلى التفاوض من جديد، كما كان الأمر بعد أوسلو، لتحويل الإطار إلى اتفاقات جزئية، قد يستمر الجدل حولها لسنوات لا حد لها.

في واحدة من لحظات التفاؤل النادرة، صرح الرئيس عباس مؤخراً، وبعد زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس للمنطقة، أن الأمريكيين قد حسموا أخيراً قضية التفاوض الأساسية: على ماذا يجري التفاوض. والمقصود أن الجانب الأمريكي تدخل ليؤكد على أن التفاوض يشمل كل منطقتي الضفة الغربية وقطاع غزة، اللتين احتلتا عشية حرب حزيران (يونيو) 1967، بغض النظر عن النتيجة التي يمكن أن يصل إليها الطرفان المتفاوضان حول حدود الدولة الفلسطينية المنشودة.

ما يعنيه هذا أن الإسرائيليين، وبعد زهاء عام من التفاوض، لم يكونوا قد أقروا بعد أن المفاوضات تدور حول الضفة والقطاع بحدودها المعروفة. ثمة أدلة متزايدة على أن الطرف الفلسطيني، وبالرغم من الرفض الأولي والمعلن والمتكرر، قد قبل بأن المفاوضات تستهدف التوصل إلى اتفاق إطار وليس إلى اتفاق نهائي. الخلاف بين الطرفين حول قضايا القدس واللاجئين كبير بالفعل؛ كما أن المفاوضات تواجه عقبات من نوع آخر، تعود إلى المتغيرات المتسارعة في الوضع السياسي الإسرائيلي. فرئيس الوزراء أولمرت في طريقه لمغادرة موقعه، ومن سيخلفه في قيادة حزب كاديما قد لا يستطيع تشكيل حكومة إئتلافية، ومن ثم فإن الدولة العبرية ستذهب إلى انتخابات مبكرة، لا يعرف من سيكون الفائز فيها على وجه اليقين. أما إن شكلت حكومة إئتلافية بديلة، فليس من الواضح طبيعة الشروط التي ستفرضها أحزاب الإئتلاف المختلفة على رئيس الوزراء الجديد. في الجانب الفلسطيني، هناك عقبات أخرى.

المسار الثاني المتعثر هو مسار مؤتمر فتح العام، الذي لم يتوقف الحديث عنه، والاستعداد له، منذ وفاة الرئيس عرفات. فتح، القوة الكبرى في الحركة الوطنية الفلسطينية طوال عقود مضت، والتي تمسك بمقاليد السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها، لم تعقد مؤتمراً عاماً منذ أكثر من ربع قرن. وقد عانت فتح بعد تأسيس سلطة الحكم الذاتي من حالة تشرذم وشللية وفقدان بوصلة، أصلها ربما العجز عن التوفيق بين مهمات التحرر الوطني، الذي لم ينجز بعد، ومهمات الحكم، الذي لم ير البعض أنه حكم منقوص، يفتقد الشروط الأساسية للاستقلال والسيادة.

وبعد أن كانت فتح تقود الحركة الوطنية وتفرض برنامجها، لم يعد من الواضح أي برنامج وأهداف تسعى فتح إلى تحقيقها. في جسم السلطة الفلسطينية، تحولت فتح إلى قوة أمنية، قمعية، يتخلل صفوفها فساد وانهيار أخلاقي لم تعرف حركة وطنية مثيلاً له. وخارج جسم السلطة، تتوزع فتح توجهات مقاومة، وبحث عن دور، وعصبية تنظيمية صغيرة، وصراعات مع القوى السياسية الفلسطينية الأخرى.

بيد أن عقد مؤتمر فتح العام ما يزال محل خلافات وتوقعات وحسابات مختلفة. الرئيس عباس، الذي أعرب في مناسبات متكررة عن رغبته التخلي عن مسؤوليات السلطة، يصر كما يبدو على عقد المؤتمر في رام الله وليس في عمان؛ وهو ما سيؤدي إلى استبعاد قيادات فتح 'التاريخية' المنافسة التي رفضت العودة أصلاً إلى رام الله لمعارضتها اتفاق اوسلو وعواقبه.

ثمة خلافات تعلو وتهبط وتيرتها بين عباس وعدد من أعضاء اللجنة المركزية لفتح، وعلى رأس هؤلاء فاروق القدومي، الذي يفترض أنه الأمين العام للجنة فتح المركزية ومن عمل عباس على تجريده من معظم صلاحياته في السنوات القليلة الماضية.

هناك إضافة إلى ذلك صراع أجيال محتدم، وصراع لا يقل احتداماً حول برنامج الحركة السياسي. مؤتمر فتح العام، باختصار، في مهب الريح، سواء عقد أو لم يعقد، وعقد في عمان أو في رام الله. وفي مثل هذا الوضع سيصعب تصور نجاح فتح في حل مشاكلها التنظيمية والسياسية المتراكمة ومحاولة إعادة بناء موقعها ودورها في الساحة الوطنية. وبدون إعادة بناء فتح سيصعب تصور الكيفية التي يمكن بها عقد اتفاق حول القضايا الكبرى بين المفاوض الفلسطيني والإسرائيلي، كما سيصعب تصور الكيفية التي يمكن بها عقد مصالحة وطنية فلسطينية، يعرف الجميع أن عقدتيها تعودان إلى فتح وحماس وليس إلى القوى السياسية الأخرى.

المسار الثالث هو بالطبع مسار الحوار الوطني وإعادة توحيد الجسم السياسي والديمغرافي الفلسطيني في الضفة والقطاع. المشكلة، التي انفجرت في صيف العام الماضي، تعود في جذورها إلى أزمة التحول في الساحة السياسية الفلسطينية، والتي لا تخلف كثيراً عن أزمة التحول السياسي في أغلب السياقات العربية والإسلامية، من المغرب إلى أندونيسيا. ما يزيد الحالة الفلسطينية تعقيداً أن الأزمة ليست داخلية وحسب، بل وتتعلق بالدور العربي، وبالأمريكيين والإسرائيليين كذلك.

طوال العام الماضي، كانت الأطراف الخارجية تعمل على استبعاد الحوار الوطني، وتنتظر انهيار حكومة حماس في قطاع غزة. ولكن صمود القطاع، واستحقاقات الانتخابات الرئاسية الفلسطينية القادمة، والاستغلال الإسرائيلي التفاوضي لضعف إدارة عباس، جعل الحوار الوطني مسألة ملحة. لأسباب تاريخية واستراتيجية، كل الأطراف الفلسطينية متفقة على أن مصر هي الراعي المرشح للحوار والمصالحة؛ ولكن القاهرة لا تريد إطلاق العملية بدون التأكد من إمكانية إنجاح الحوار والتوصل بالفعل إلى حل للانقسام الفلسطيني. ومن هنا يأتي البطء المصري الكبير في العمل على إطلاق الحوار.

وبالنظر إلى تصاعد الدعوات لنشر قوات عربية في قطاع غزة، الدعوة التي تبناها في البداية رئيس الوزراء الفلسطيني فياض، ومن ثم وزارة الخارجية المصرية، فربما يمكن الاستنتاج أن الفكرة ذات أصول خارجية وأنها الشرط الذي وضعته كل من واشنطن والحكومة الإسرائيلية للموافقة على المصالحة بين رام الله وغزة.

ترفض حماس اقتراح نشر قوات عربية في القطاع لن تكون مهمتها أكثر من المحافظة على الأمن الإسرائيلي، ترفض عودة القطاع إلى ما كان عليه قبل أزمة حزيران (يونيو) 2007، وتطالب بفتح ملف إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس أكثر تمثيلية للشعب الفلسطيني وقواه السياسية.

أما قيادة السلطة في رام الله، فتطالب بعودة ما إلى الوضع السابق على سيطرة حماس على القطاع، تطالب باعتراف حماس بالاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير مع الإسرائيليين، تريد عقد انتخابات مبكرة بقانون انتخابي جديد، تأمل في أن تؤدي إلى تراجع سيطرة حماس على المجلس التشريعي الفلسطيني، ترفض (مدعومة من دول عربية رئيسية) إعادة بناء منظمة التحرير في أي شكل يمكن أن يؤدي إلى بروز حماس كقوة مسيطرة على المجلس الوطني ومؤسسات المنظمة القيادية، وتؤيد نشر قوات عربية في القطاع.

بكلمة أخرى، المسافة بين الطرفين ما تزال شاسعة، ولم تعد تتعلق فقط بسياسة انتظار التوصل إلى اتفاق سلام مع الإسرائيليين التي تبنتها رام الله من قبل. وإن تأخرت المصالحة الفلسطينية طويلاً، فلن يمكن ترويج اتفاق إطار ما، ولا عقد انتخابات رئاسية فلسطينية شرعية في كانون الثاني (يناير) القادم.

وضع فلسطيني يسر أو لا يسر، ليست هذه هي المشكلة، فما يسر البعض قد لا يسر آخرين. ولكنه وضع يدفع القضية الفلسطينية، داخلياً وعلى صعيد التسوية، إلى حالة من الغموض وفقدان اليقين والانتظار القلق.
"القدس العربي"

التعليقات