31/10/2010 - 11:02

ثورة يوليو 52 .. رؤية للمستقبل../ جلال عارف*

ثورة يوليو 52 .. رؤية للمستقبل../ جلال عارف*
خمسة وخمسون عاماً على ثورة يوليو 52 ومازالت هدفاً لسهام الأعداء حتى الآن. وقد يتساءل البعض ـ وسط حالة التردي الشاملة التي يعيشها عالمنا العربي ـ وماذا بقي من الثورة حتى تكون محلاً لهجوم أعداء الأمة؟

وهو سؤال ينطلق من نفس المنطلق الذي تصور من خلاله البعض قبل أربعين سنة أن هزيمة يونيو ستضع كلمة النهاية لكل الطموح العربي للحرية والاستقلال والتقدم، متناسين يومها أن خمسة عشر عاماً من عمر الثورة العربية الرائدة لم تكن حرثاً في البحر، وأن الملايين التي عرفت طعم الحرية لن تفرط فيها، والذين تحولوا من عبيد للأرض إلى آدميين لن يقبلوا العودة للعبودية، وأن الذين وفرت لهم الثورة التعليم المجاني سيردون الجميل للوطن وسيكونون عماد جيش المليون الذي ثأر للهزيمة وانتصر في أول حرب إلكترونية عرفها العالم، وأن مصر لن تكون وحدها، فالثورة التي قامت والدول العربية المستقلة تعد على أصابع اليد الواحدة، والتي ضحت وجاهدت وتعرضت للعدوان بسبب دعمها لحروب الاستقلال العربية من الخليج إلى المحيط، تخوض حرب أكتوبر والموقف تغير والاستعمار قد رحل، والقوة العربية قد أصبحت أشد وأكبر، والشعوب العربية كلها تعرف أن مصر تستهدف لكي لا تواصل دورها في قيادة المسيرة العربية نحو التقدم والوحدة والعدل والحرية.

بنفس هذا المنطق العاجز الذي طالبنا بالاستسلام للهزيمة في 67 والذي طالبنا قبل ذلك بأن نستسلم للعدوان الثلاثي في عام 56، يسأل البعض الآن عما تبقى من ثورة يوليو لنحتفل به؟ ويمضي البعض في حفلة ثأر لا تنتهي مع الثورة وما زرعته في الأرض العربية، ويخضع البعض لعمليات غسيل المخ التي مازالت تجري خوفاً من أن تستعيد الأمة ذاكرتها وتتذكر أياماً كانت فيها قادرة على الفعل في أصعب الظروف، ثم يفاجأ كل هؤلاء بالملايين وهي تخرج في الشوارع العربية ـ كما حدث في العام الماضي مع الحرب الإسرائيلية على لبنان ـ فإذا بها تحمل صور عبد الناصر بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماً من رحيله وكأنها تقول إنها تخوض نفس المعركة لنفس الأهداف التي قاتلت من أجلها الأمة تحت قيادته: حرية الوطن وكرامة الإنسان على أرضه العربية.

كان أهم ما في ثورة يوليو أنها لم «تخترع» شيئاً من العدم، ولم تفرض على الواقع العربي أمراً غريباً عنه، ولم يكن قرارها قادماً من الخارج. وإنما كان فضلها أنها استوعبت جيداً مسيرة النضال الوطني والقومي، واستطاعت أن تضع مشروعها القومي ليكون هو نفسه مشروع الأمة الذي تلتف حوله الملايين لأنها رأت فيه الأهداف التي ناضلت من اجلها طويلاً ولم تستطع أن تنجزها لأنها كانت تفتقد ما وفرته ثورة يوليو للأمة..

النظام الذي لا يدين بالولاء إلا للشعب، والإرادة المستقلة الواعية بمتطلبات الصراع المالكة لأدواته. وما أن تحقق ذلك حتى توالت الخطوات التي لم يكن أحد يتصور أن تتم بهذه السرعة وبهذا الحسم، وبالصورة التي أعادت للأمة شعورها بالثقة في أنها قادرة على أن تخوض معارك الاستقلال والتقدم، وأن تحقق ما كان يعتبر حتى قيام الثورة من قبيل المعجزات.

بعد شهور فقط كان قانون الإصلاح الزراعي الذي لم يكن مجرد إعادة توزيع للثروة، بل كان تحريراً لتسعين في المئة من شعب مصر العاملين في الزراعة في ظل أوضاع تقترب من الرق. كانت الفكرة مطروحة منذ ما قبل الثورة، وكان هناك أكثر من مشروع قانون يعكس رؤى مختلفة، ولكن سيطرة الإقطاع على الحكم منعت صدور القانون حتى جاءت الثورة، فكان هذا القانون هو الخطوة الأولى على طريق العدل وتحرير الإنسان.

وخلال عامين كان الاحتلال الذي استمر لأكثر من سبعين عاماً يستسلم، وكانت أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة تتم تصفيتها بعد أن كانت تضم ثمانين ألف جندي وترسانة من الأسلحة التقليدية وحتى النووية. وبينما كان الاحتلال البريطاني يستعد للرحيل من مدن قناة السويس، كانت يد الثورة تمتد لمساعدة الثوار في شمال إفريقيا لإنهاء الاحتلال الفرنسي، وكانت رياح التحرر تصل إلى الخليج، وكانت مصر تكسر الحصار الذي يمنع السلاح الغربي عن جيشها ويمنعها في نفس الوقت أن تحاول شراء السلاح من الكتلة الشرقية لتظل تحت رحمة التفوق العسكري الإسرائيلي إلى الأبد.

وقبل مرور أربعة أعوام كانت ثورة يوليو تعيد صياغة العلاقات الدولية من جديد بالقرار التاريخي بتأميم قناة السويس. وربما لا تشعر أجيال جديدة طال تغييبها عن تاريخ الوطن بقيمة هذا القرار الآن، ولكن دعونا نتذكر أنه قبل ثورة يوليو بعامين كانت هناك حركة وطنية في إيران استطاعت بانتخابات ديمقراطية أن تصل للحكم، ليصدر رئيس الوزراء يومها الدكتور محمد مصدق قرارات بتأميم شركات النفط التي كانت تنهب ثروة البلاد بأبخس الأثمان، فماذا كانت النتيجة؟ دبرت المخابرات الأميركية انقلاباً عسكرياً قضى على الحكومة الوطنية وألغى قرارات التأميم وأعطى درساً لكل من تسول نفسه أن يفكر في استعادة ثروات الوطن المنهوبة.

وقارنوا ذلك بما حدث بعد عشرين سنة حين استعادت كل الدول العربية (وغيرها من دول العالم الثالث) سيطرتها على ثروتها البترولية، ولم يكن أمام الناهبين السابقين إلا أن يرضخوا. والفارق بين الحالتين شرارة أطلقتها ثورة يوليو بتأميم قناة السويس، وحرب تعرضت لها، وشهداء قدمتهم، وانتصار حققته الأمة العربية حين استعادت القناة وفتحت لشعوب العالم كله الطريق لاستعادة ثرواتها المنهوبة.

وعقب حرب 56 تنطلق ثورة يوليو في مسيرة ضخمة لتغيير وجه الحياة في مصر والعالم العربي. في الداخل كانت ملايين من المحرومين لعقود طويلة يجدون السبيل لتعويض سنوات الحرمان بالتعليم والرعاية الصحية والخروج من دائرة الفقر والتحول إلى ثروة بشرية أقامت اكبر قاعدة صناعية في المنطقة في ذلك الوقت، وعندما أقرأ قبل أيام فقط عن مشروع مشترك بين الهند وإسرائيل لإنتاج صاروخ جديد متطور، تنتابني الحسرة على ما حدث لنا، ففي الستينات كانت الهند واحدة من أقوى حلفاء مصر واكبر مناصري الحق العربي، وكان أحد المشروعات المشتركة بين القاهرة ونيودلهي والتي توقفت بعد حرب 67 هو الإنتاج المشترك للطائرة الميج بالاتفاق مع الاتحاد السوفييتي وقتها، وكانت الهند ستقوم بإنتاج هيكل الطائرة بينما تقوم مصر بإنتاج المحرك.

وفي المحيط العربي كانت حركة التحرر والاستقلال تتواصل، وكانت الروح العربية تجمع الشعوب في درب واحد، وكانت وحدة مصر وسوريا إشارة للجميع بأن الأمر حقيقي وأن الوحدة ليست مجرد حلم بل واقع يمكن أن يستعيد للأمة مكانتها، ومن هنا كانت الحرب على الوحدة وكان الانفصال، ثم كانت محاولات حصار القاهرة واستنزافها في اليمن واستهدافها المستمر حتى وقعت هزيمة 67 والتي ثأرنا منها في 73 ولكن بعد رحيل القائد. ثم انطلاق قوى الردة على مدى ثلاثين عاماً لتشويه الثورة وإعادة الأمة إلى ما كانت عليه قبلها.. بلا مشروع قومي يجمعها، وبلا رؤية تدير الصراع للمصلحة العربية وحدها، وبلا مستقبل تتوافر كل الإمكانيات لكي يكون واعداً ولكن يتم تبديدها بكل إصرار.

مثل كل الثورات، كانت لثورة يوليو أخطاؤها، بل وخطاياها. ولكن ما سيبقى منها هو المسار الأساسي الذي استطاع أن يجسد آمال الأمة العربية في الحرية والاستقلال والعدل والوحدة، وأن يفجر في الأمة أعظم ما فيها من قوى الخير والإبداع، وأن يثبت أن تحقيق الأحلام ليس مستحيلاً إذا وضحت الرؤية وتوفرت القيادة وتمسكت الأمة بإرادتها المستقلة مهما كانت التضحيات.

الآن، وبعد أكثر من ثلاثين سنة من مسيرة التراجع عن ما مثلته ثورة يوليو، مازالت السهام توجه إليها، ومازالت الجهود تتواصل لتشويه مسيرتها، ومازالت الأجيال الجديدة بالذات تتعرض لحملات منظمة تستهدف إبعادها عن مرحلة الصعود القومي التي مثلتها يوليو.

ومن البديهي أن مثل هذا الهجوم لا يتوجه نحو الأموات، وأن سهام الأعداء لا تتوجه للجثث، بل تتوجه للفكرة التي استطاعت أن تفجر في الأمة الوعي والإرادة والقدرة على الفعل، وتتوجه للتجربة التي استطاعت أن تجسد الحلم العربي في النهضة والتقدم.

والفكرة ـ رغم الحصار والهزائم ـ مازالت باقية، والتجربة ـ رغم حملات التشويه ـ مازالت قادرة على إلهام الأمة، بل ومازالت قادرة على الهام حركات التحرر والاستقلال في العالم كما يحدث الآن في أميركا اللاتينية.

نعم.. في وجه الواقع الذي نعيشه وحروب الطوائف تمتد من العراق إلى غيره، ومخططات تقسيم الأوطان المقسمة أصلاً يمضي في طريقه، والنفوذ الأجنبي يقيد الإرادة الوطنية، والعرب غائبون بينما الأطراف الأخرى تقرر مصير المنطقة، والإسلام مختطف من جهلة يتصورون أنهم يملكون الحق في تكفير الأمة وقتل المسلمين. والعلم غائب في عالم يحكمه الأقوياء وتقاس فيه القوة بالعلم الذي يبني وينهض بالأمم..

في وجه هذا الواقع تجيء الذكري الخامسة والخمسون لثورة يوليو، فندرك ـ أكثر من أي وقت مضي ـ عمق المأساة التي صنعتها سنوات التراجع، ولكننا نؤمن ـ في نفس الوقت ـ أن ما زرعته يوليو في الأرض العربية لم يمت ولن يموت، لأنه الطريق الصحيح لنهضة الأمة.

سوف نختلف على التفاصيل، ولابد أن نحاكم الخطأ، ولكن سيبقى الأساس صحيحاً: مشروع قومي للنهضة، ورؤية صحيحة للنفس وللعالم، وإرادة حرة تفجر في الأمة من جديد قدرتها على الإنجاز. وسيقول الكثيرون ان هذا هو المستحيل. ولهؤلاء نقول: انظروا إلى العالم العربي قبل يوليو 52 وبعده، وستدركون كيف تستطيع الأمة - عندما يتهيأ لها الحد الأدنى من الظروف المواتية - أن تقهر المستحيل!.

التعليقات