31/10/2010 - 11:02

صفقة التبادل.. والعودة إلى التاريخ../ عبد الناصر النجار

صفقة التبادل.. والعودة إلى التاريخ../ عبد الناصر النجار
ربما كنّا بحاجة ماسة إلى ما يصدم ذاكرتنا؛ لنصحو ــ ولو قليلاً ــ من مرض الفقدان الذي نعيشه منذ أكثر من عقدين من الزمن ... ونكتشف زمن الرجال الضائع، أو الذي يحاول البعض اليوم دثره في غياهب النسيان.

إن جثامين عشرات الشهداء ــ الفلسطينيين واللبنانيين، العائدة من مقابر الأرقام الإسرائيلية، رغم ما أثارته في النفس من حزن ــ أعادتنا إلى زمن الفخر والـمقاومة ... إلى زمن كانت فيه فلسطين هي فلسطين ... كانت فيه هذه الأرض هي الـمقدّس ودونها لا شيء.

ولكن، هل عودة الذاكرة الـمؤقتة ستمنحنا فرصة لإعادة التفكير الجدي بأسباب ما نعانيه اليوم من هزيمة داخلية وروح معنوية مهلهلة واقتتال قبلي، أم أننا تعدينا مرحلة العودة وأُصبنا بمرض النسيان الـمزمن؟ ولـماذا ساهمنا جميعاً وبأيدينا في تحويل فلسطين الرمز والتضحية والـمقاومة والإباء إلى فلسطين الحزبية والفئوية والتناحرية ... إلى فلسطين الشبيهة بالصومال؟

نحن اليوم بحاجة إلى العودة إلى التاريخ؛ فلربما نجد في هذا التاريخ ما يشفي روحنا الـمريضة، ويخلصنا ــ ولو قليلاً ــ من مرض "الزهايمر" الذي نعيشه زعماء وشعباً، فقبل ثلاثين عاماً، وبالتحديد في 11 آذار 1978، كنـّا، فلسطينيين وعرباً، ملتصقين إلى جانب أجهزة الـمذياع، نتنقـّل من محطة إلى أخرى من (بي. بي. سي) بصوت مذيعها الجهور "هنا لندن" إلى (مونت كارلو) ... وننتظر على أحر من الجمر (صوت فلسطين) "صوت العاصفة" لنستمع إلى الأخبار ... ونحصل على الـمعلومات عن هذه البطلة الشهيدة دلال الـمغربي ورفاقها ... عن دماء روّت تراب فلسطين فأنبتت زهور الفخر في نفوسنا جميعاً.

عودة إلى التاريخ، أيضاً، فعندما ذهبنا في اليوم التالي إلى مدارسنا الثانوية ووجدنا الجدران وقد امتلأت بشعارات تمجّد الشهداء الأبرار وتـُشيد بالعملية البطولية وقائدتها الـمغربي ... يومها خرجنا في مسيرة جماهيرية ونحن نهتف لفلسطين، لـم نهتف لغزة أو رام الله ... لـم نهتف لـ"حماس" التي لـم تكن مولودة ولـم تقدّم للـمقاومة شيئاً في حينه ... وأيضاً لـم نهتف لـ"فتح" التي قدّمت على مذبح التاريخ آلاف الشهداء، ولكن كانت فلسطين هي التي تجمعنا ... والثورة هي الأساس.

عودة إلى التاريخ، فعندما لـم تكن هناك فضائيات التهريج والشعوذة والعري الفج والغانيات الـمعتمدات على الجسد لا أكثر ... كنـّا نحفظ عن ظهر قلب أغاني الثورة من "كلاشنكوف خلي رصاصك بالعالي" إلى "جر الـمدفع فدائي" إلى "نعم لن نموت ولكن سنقتلع الـموت من أرضنا" إلى ما يثير فينا عِزة الـمقاومة ... إلى أغاني الشيخ إمام التي كانت تجمعنا فتية وشباناً لنرددها في رحلاتنا الـمدرسية.

عودة إلى التاريخ، أيضاً، إلى تلك الحركة العملاقة ... حركة "فتح" الشهداء ... إلى كل الذين يزايدون عليها اليوم بالـمقاومة ... ويتناسون، عمداً، ما قدمته هذه الحركة الـمؤسسة للثورة الفلسطينية ... وإلى كل الذين تخونهم ذاكرتهم، نقول لهم: 164 جثماناً من جثامين الشهداء هم من أبناء "الفتح"، وأبناء الثورة وأبناء منظمة التحرير ... هم مِمَّن أحبوا فلسطين ... هم مِمَّن تركوا أرواحهم خلفهم؛ لأنهم كانوا على علـم بالثمن الذي سيدفعونه مقابل أن تطأ أقدامهم الأرض الـمقدسة.

الجثامين الـمسجاة في بيروت، تسببت لنا بصدمة قوية في الذاكرة ... ماذا حل بحركة "فتح" ولـماذا هذا الانهيار ... أين هي "فتح" "أبو جهاد" و"أبو إياد" و"أبو الهول" و"سعد صايل" وعلى رأسهم الشهيد الرمز "أبو عمار".

نحن نعيش في أزمة كبيرة، ولا شك في أن أزمتنا بدأت عندما اقتنع بعضنا أننا أصبحنا دولة ونحن لسنا بدولة ... وأننا حصلنا على استقلالنا وما زالت فوهات بنادق الاحتلال مصوّبة حتى إلى غرف نومنا ... أزمتنا لـم تنتهِ إلا بصحوة جماعية ... وحبنا الـمجرد لفلسطين وأن تكون تضحياتنا من أجلها فقط.

أزمتنا ستنتهي عندما نتعلّـم أن الحزبية والفئوية أصغر بكثير من الوطن ... عندما نتعلـم أن الـمواطن هو أهم من أي زعيم في هذا البلد ... عندما لا يصبح همّنا مقتصراً على وظيفة أو أن نعتقد بأن الطريق إلى الجنة تمر عبر هذه الحركة أو تلك ... عندما نتأكد أن لا صكوك غفران من الذين يدعون تمثيل الله في الأرض.

أعادتنا الشهيدة دلال الـمغربي ورفاقها إلى ثلاثين عاماً مضت ... تركت العنان لأرواحنا لتتمتـّع بالتنقل بحرية في سراديب قضيتنا الـمقدسة ... وجمعت فينا رغبة في أن نظل أسرى للتاريخ أفضل ألف مرة من واقع لا يوصف إلا بأمر من الـمرارة.
"الأيام"

التعليقات