31/10/2010 - 11:02

على هامش مؤتمر حركة فتح: لا بدّ من وقف مخطـّط تدجين النخب والمجتمع../ عوض عبد الفتاح

على هامش مؤتمر حركة فتح: لا بدّ من وقف مخطـّط تدجين النخب والمجتمع../ عوض عبد الفتاح
لا يدرك المرء حقيقة وعمق تأثير الحركات السياسية الكبرى القائدة على حياته ومصيره، كفرد وكمجموع، إلا عند الإنتصارات وعند الإنهيارات.

لقد عرفت الشعوب، والتي التفت حول حركاتها وأحزابها وفصائلها الكبرى سواء تلك التي قادت تحرير شعوبها من الكولونيالية والعنصرية، أو تلك التي قادت ثورات اجتماعية وسياسية في أوطانها، هذه الظاهرة.
وأيضًا شهدت هذه الشعوب أفول أو تراجع هذه الحركات عن الصفوف الأمامية لأسباب متنوعة، منها العنف الموجة من العدوّ الكولونيالي أو من النظام القمعي، ومنها (وإضافة إليها) عدم قدرة قيادات هذه الحركات على تكييف نفسها مع مقتضيات التغيير وتجديد فكرها وشبابها.

وفي مجال تجارب التحرير الوطني، رأينا قيادات حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، في جنوب أفريقيا، تثابر على رؤية واضحة، وطنية، وديمقراطية وإنسانية منذ انطلاق هذا المؤتمر في أوائل القرن الماضي، رغم الإعتراضات وظهور جماعات تصدّت لذلك، في مواجهة نظام السيطرة الكولونيالية البيضاء ونظام الأبارتهايد العنصري الذي سقط عام 1994 بعد 350 عاما، تحت ضغط وضربات المقاومة، الشعبية في الأساس.

لقد رفضت قيادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، مبدأ تقسيم الوطن بين البيض والسود على أساس إثني ورفضت نظام البانتوستانات – (كيانات يسكنها السود تدار ذاتيًا وخاضعة مركزيًا للنظام العنصري – وبدون حق التصويت والمشاركة في إدارة هذا النظام).

نقول ذلك وفي الذهن حاضرة الإختلافات بين تفاصيل القضية الجنوب أفريقية والتجربة الفلسطينية، ولكن أيضاً، حاضرٌ في الذهن أهمية وضرورة أن ننظر، نحن الفلسطينيين، إلى تلك التجربة في جنوب أفريقيا لما فيها من دروس في غاية الأهمية للتعلم منها.

وقد قالت لنا بعض قيادات المؤتمر الوطني الإفريقي أثناء زيارتنا، نحن وفد عرب الداخل، أواخر العام الماضي لجنوب أفريقيا، أنهم نصحوا القيادة الفلسطينية، وقيادة فتح بالتحديد، بعدم إبرام صفقة أوسلو، لأنها ستقود إلى نظام البانتوستونات وتكرس السيطرة الإسرائيلية. تلك النصيحة جاءت في أوج المفاوضات بين قيادات المؤتمر الوطني الإفريقي وبين حكومة نظام الأبارتهايد. هكذا أصرّت قيادة حزب المؤتمر على تحرير البلد من السيطرة السياسية للبيض وتحقيق تقاسم السلطة، وإن كانت السيطرة الإقتصادية لا تزال بيد البيض. وهذا الأمر بطبيعة الحال سيحتاج إلى نضال من نوع آخر طويل للتخلص من الأبارتهايد الإقتصادي و لتحقيق العدالة الإجتماعية.

نستحضر تجربة جنوب أفريقيا، كأحدث نموذج للتحرر الوطني والديمقراطي، وكتجربة ملهمة للشعوب للتحرر من العنصرية والقهر والكولونيالية، ونحن مشغولون بالمحنة التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية. هذه الحركة التي أيضًا ألهمت بكفاحهة وتضحياتها الجسيمة شعوب كثيرة مناضلة في العالم حتى أوائل الثمانينيات.

وهذه المحنة ليست نتاج عوامل الطبيعة، بل هي نتاج فعل بشر، هي نتاج سوء إدارة وفساد وترهل وقصر نظر أدى كل ذلك إلى حالة الإنقسام والإقتتال الداخلي والتطاحن من أجل سلطة قبل أن تنجز مهمة التحرير. بطبيعة الحال ليس استثنائيًا أن تحصل منازعات داخل صفوف الحركة الوطنية الواحدة، فقد حصل داخل العديد من هذه الحركات، بما فيها حركة التحرر في جنوب أفريقيا – ولكن كانت هناك سيطرة على هذه النزاعات وكانت هناك قيادة استطاعت أن تحدّ منها وأن تمنعها من التحول إلى شرخ عميق ومدمّر. والأهم أن لا يتحول طرف داخل الحركة الوطنية إلى طرف متحالف مع المحتل أو النظام المعادي يُنسق معه لضرب الطرف الآخر كما هو حاصل داخل الساحة الفلسطينية وهو أمر يصعب على العقل استيعابه، وعلى الضمير قبوله.


ليس ما يجري داخل حركة فتح شأنًا فتحاويًا داخليًا. فهو شأن فلسطيني عام. هي العمود الفقري وصاحبة الدور الريادي في الحركة الوطنية الفلسطينية وهي حزب السلطة غير المنازع بعد اتفاقية أوسلو.

كان هدف الطرف الإسرائيلي من التوقيع على إتفاقية أوسلو من التوقيع على اتفاقية أوسلو احتواء الحركة الوطنية الفلسطينية وتفريغها من مضمونها ودفعها إلى اختزال مشروعها – مشروع الدولة – أو المشروع التحريري، إلى حكم ذاتي، بعد المأزق الذي سببته الإنتفاضة الأولى لإسرائيل عام 1987. وكان هدف القيادة الفلسطينية وبالتحديد قيادة حركة فتح برئاسة الراحل ياسر عرفات، إنقاذ المنظمة من الإندثار بعد سلسلة الإنهيارات في ما يسمى الكتلة الشيوعية وفي العالم العربي، وبعد أن فقدت حركة المقاومة الفلسطينية قاعدة لبنان على أثر الغزو الإسرائيلي عام 1982. ولكنه، وبتشجيع من الرئيس الحالي للسلطة وللمنظمة، محمود عباس، كان يطمح أن يشكل السماح له بالعودة إلى أريحا وغزة ظروف مستقبلية لتحقيق الإنسحاب الإسرائيلي.. وهو الأمر الذي لم يتحقق لأن إسرائيل لم يكن هدفها إلا إعادة الإنتشار وتكريس السيطرة على أراضي عام 67، إضافة إلى منطقة 48 بغطاء فلسطيني رسمي.

وإذا أوجزنا حصيلة القبول الإسرائيلي بنظام فلسطيني تحت سيطرة الإحتلال، فهو السيطرة على المزيد من الأرض والمياه وتوسيع الإستيطان، وتمزيق الضفة الفلسطينية وتوسيع مخططات التهويد في القدس، وفصلها عن باقي الأراضي الفلسطينية. هذا ناهيك عن الأعداد الهائلة من الشهداء والجرحى والمعتقلين. والأخطر من ذلك هو خلق نخب فلسطينية وأوساط مقربة إلى الحكم الفلسطيني، مرتبطة بمصالح مباشرة مع الإحتلال مما أحدث تغيرًا خطيرًا في الذهنية السياسية؛ من ذهنية المقاومة والقتال إلى ذهنية القبول والخضوع والتصالح المبني على اختلال ميزان القوى لصالح الطرف الكولونيالي. هكذا مثلاً، تحولت قيادات مقاتلة في فتح إلى أشبه بوكلاء أمن إسرائيل، وهكذا غادرت كوادر أساسية من فصائل يسارية إلى المنظمات الأهلية إلى أطر مموّلة أجنبيًا توجه لقولبة وإعادة هندسة الوعي الشبابي الفلسطيني ليكون قابلاً بالتصالح تحت شعار التربية للديمقراطية والحوار.

لقد فقدت فتح هيمنتها على السلطة لهذه الأسباب.. لأنها فشلت في إدارة مهنية للنظام السياسي الذي يجب أن يقوم على الشفافية والإنصاف، وبسبب تهميش قيادات متنفذة لدور الكوادر من الصف الثاني والثالث والتسبب في خلق مناخ للترهل والإبتعاد عن النضال. ومع كل ما يمكن أن يقال من ملاحظات على برنامج وأيدلوجية حماس، وممارسات حماس، فإن الشعب انتخبها لأنها لم تمارس هذه الممارسات قبل تسلمها للسلطة، ولأنها طرحت نهجًا مختلفاً في التعامل مع إسرائيل، ألا وهو نهج المقاومة ورفض نهج التفاوض القائم على الإستجداء. هذا بطبيعة الحال، لا يُعفي حماس من واجب ممارسة النقد الذاتي خاصة بعد تسلمها السلطة. فهي أيضًا تعيش اليوم مأزقًا جديًا، لأسباب خارجية وذاتية.

ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنه على الرغم من موبقات النظام الفلسطيني السابق التي ذكرت آنفًا فإن انفجار الإنتفاضة الفلسطينية الثانية بعد صمود القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في كامب ديفيد في صيف 2000، كشفت عن أن الطاقات الكفاحية لكوادر وأعضاء حركة فتح لم تنضب. فقد كان نصيب الشهادة والإصابة والإعتقال عاليًا في صفوفها، إلى جانب الشهداء من حماس والجهاد والجبهة الشعبية وعموم أبناء شعبنا، بما فيهم قيادات من الصف الأول والثاني.

لا شك أنه كان لوجود ياسر عرفات، كقائد تاريخي لفتح وللحركة الوطنية الفلسطينية دور هام في الإبقاء على جذوة الروح الكفاحية لأنه على خلاف قيادة السلطة الحالية، فهو وبخبرة وروح المقاتل الثوري، لم يُجرّد نفسه من ورقة المقاومة عندما كان يفاوض. ولكن تبقى الكثير من الملاحظات النقدية على النهج الذي أداره الراحل الحركة الوطنية الفلسطينية، والسلطة أيضًا.

أما قيادة السلطة الحالية، سواء في تعاملها مع ملف الحوار، إو في العلاقة مع المحتل الإسرائيلي، أو إدارة السلطة، أو في كيفية التصرف أزاء مشروع عقد مؤتمر حركة فتح فإنه أقل ما يقال عنه أنه كارثي بل متواطئ مع المشروع الغربي-الإسرائيلي تجاه فتح المكافحة وتجاه القضية الفلسطينية.

يتكشف كل يوم مدى حجم المؤامرة على حركة فتح، وتواطؤ بعض قياداتها التاريخية مع هذه المؤامرة. وما أسرّه القنصل الأمريكي في القدس لشخصية أكاديمية معروفة – فتحاوية. والذي نشر بعض وسائل الإعلام، من أن أمريكا لا ترغب في عقد مؤتمر فتح خوفًا من صعود القيادة الراديكالية في فتح، يؤكد حقيقة المؤامرة والمشروع الأمريكي ضد الحركة الوطنية الفلسطينية. هذا يأتي ضمن مشروع متكامل، شهدنا معالمه في التآمر على حركة المقاومة حماس وعدم الإعتراف بفوزها والتحريض عليها وحصارها، والتخطيط لضربها عبر دايتون – دحلان. لقد بادرت وساهمت الإدارة الأمريكية بالتعاون مع أوساط فلسطينية إلى ضرب حماس، مما دفع بالأخيرة لارتكاب خطئها الإستراتيجي، ألا وهو الحسم العسكري. فتحول ذلك إلى فخ كبير.

لماذا يصرّ رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، وفريقه، ياسر عبد ربه، وسلام فياض وغيرهم والمتهمون من قبل كوادر فتحاوية عديدة أنهم خطفوا حركة فتح، على عقد مؤتمر للحركة في الأراضي الفلسطينية، تحت الإحتلال الإسرائيلي، بما يتعارض مع قرارات اللجنة المركزية لفتح ولقرارات اللجنة التحضيرية للمؤتمر. هم يعرفون أن عددًا كبيرًا من الأعضاء والقادة لا يستطيعون القدوم إلى الأراضي المحتلة.

حسب قراءتنا للتطورات وللمعطيات المتوفرة، لا ينطلق ذلك من رؤيته الخاصة لإدارة الصراع مع إسرائيل فحسب، بل أيضًا نابع من البيئة الإقليمية والدولية الآخذة في التشكل أو الآخذة في إعادة إنتاج نفسها – شكلها لا جوهرها. ويجب الإشارة إلى أن المحاولات (التي تجري الآن) لعرقلة عقد المؤتمر هي في سياق مخطط إقليمي شامل تقوده الإدارة الأمريكية – وتتقاطع فيه المصالح بين أنظمة عربية وإسرائيل ضد إيران والمقاومة.

لا يستطيع هذا الفريق الإحتفاظ بنهجه، بدون الدعم المالي والسياسي للجنة الرباعية وبالتحديد (أمريكا وأوروبا) للسلطة الفلسطينية. لقد أصبحت السلطة منذ فترة طويلة رهينة الدعم المالي الغربي.. وبالتالي يصبح قرارها السياسي غير مستقل. وإذا أراد الفريق التحرر من ذلك ولو شكليًا واعتماد توجه آخر فإنه سيجد نفسه محاصرًا. وستنهار السلطة، حتى تشكيل حكومة وحدة وطنية تقوم على الثوابت الوطنية غير مسموح به أمريكيًا حتى في ظل الإدارة الحالية. وبالمناسبة هناك من ينادي بحل السلطة لأنها تـُشكـّل غطاء للاحتلال.

ولكن أيضًا هناك تغيرات عميقة تحصل داخل نظام السلطة الفلسطينية، بأجهزتها السياسية والأمنية والإقتصادية. تستند هذه التغييرات على أنه طالما لا يوجد أفق سياسي فلا بدّ من التشديد على الإقتصاد، ومواصلة بناء الأجهزة الأمنية وتضخيمها وتقوم على لون واحد، وعلى تغيير عقيدة هذه الأجهزة من مواجهة الإحتلال إلى مواجهة الشعب أو التصدي لمظاهر التمرد والمقاومة. وهذا ما شهدناه أثناء العدوان الإسرائيلية على غزة، عندما قمعت المظاهرات في مناطق الضفة الغربية. وقد حظيت ممارسة السلطة في الضفة بإشادة إسرائيلية رسمية.

إن جُلّ مشاريع الدعم المالي من الرباعية تنطلق من كون الدعم الإقتصادي هو الأداة الأنجع في السيطرة على النخب والمجتمع بعد فشل الخيار العسكري الذي إعتمدته إسرائيل ضد الفلسطينيين في انتزاع استسلام وتنازل عن الثوابت الوطنية.

في هذه المناخات والظروف يجري الحديث عن معيقات الحوار الداخلي وعن عقد مؤتمر حركة فتح. إن الفريق الذي يضع العراقيل أمام الحوار (بالمناسبة هناك أيضًا أوساط داخل حماس وداخل فتح غير معنية بالحوار). وأمام عقد مؤتمر حركة فتح في الخارج ووفق الأصول المتفق عليها يتصرف بانسجام مع توجهات إقليمية (أنظمة عربية) وتوجهات خارجية غربية التي جلّ هدفها هو كسب الوقت للتأسيس لبنية تحتية اقتصادية – إجتماعية ثقافية مناهضة لنهج المقاومة.

تُرى كيف يمكن عقد مؤتمر ناجح لحركة فتح وإعادة الحيوية إلى صفوفها ودورها، وإعادة التأكيد على برنامجها المقاوم الذي اتفقت عليه اللجنة التحضيرية، دون مواجهة الظروف الخارجية بصراحة ووضوح، وبدون التوجه إلى القواعد الشعبية، وعبر نسج التحالفات مع قوى اليسار ومع قوى المقاومة الإسلامية.وباختصار كيف يمكن القيام بذلك دون الخروج برؤية واضحة جريئة بخصوص الوحدة الوطنية التي بدونها لن تقوم قائمة الشعب الفلسطيني.

التعليقات