31/10/2010 - 11:02

عن "شعرة بركة".. وفن الشد بين الحركة الوطنية والمؤسسة الإسرائيلية../ د.عمر سعيد

عن
من السابق لأوانه تحديد حجم ومدى الأذى السياسي والثقافي والوطني الذي قد تلحقه مشاركة عضو الكنيست محمد بركة بوفد إسرائيلي- صهيوني رسمي لإحياء ذكرى المحرقة، بساحتنا المحلية وتأثيرها في تهافت أنماط وضوابط السلوك السياسي إلى حضيض غير مألوف، كونها تمثل اختراقا مؤلما لسياج إجماعنا الوطني في تعاملنا مع المؤسسة الحاكمة ورموزها. لذا فان إدانة تلك الخطوة وتقويض مرتكزاتها يشكل إجراء ضروريا لحماية وتحصين وعي مجتمعنا لهويته ولسلم أولوياته وثوابته، خاصة وأنها صادرة عن شخصية قيادية مؤثرة في نطاقنا الوطني.

تواصلا مع ما ذكرت، فإن نقاشنا هذا، إذا كانت هناك حاجة للتوضيح، ليس مدفوعا بحوافز حزبية أو عصبية فكرية، وإنما هو مساهمة في إعادة تثبيت قواعدنا المشتركة وعقدنا النضالي، دون مواربة أو مجاملة. نقول، ليس من الحكمة بشيء، أن يتم التعامل مع مشاركته تلك بمعزل كامل عن الثوابت والقناعات السياسية التي تميز مواقف حزبه تجاه شرعية إسرائيل وحضور فكرة اندماج فلسطينيي الداخل بالدولة ومؤسساتها بقوة في مشروعه. ذلك لأن هذا هو حصرا السياق السياسي الإيديولوجي الذي يبررها أخلاقيا في حسابهم، ويجعل من المناقشة حول هذه المسألة، من ناحيته ومن ناحية غالبية أعضاء حزبه، مجرد قضية فنية تتمحور حول حسن أو سوء توقيتها، وليس أكثر. والى هذه الساحة المريحة لهم استدرج وانجذب غالب المتناقشين تأييدا أو معارضة.

عليه، فان رسائل العتاب والنقد الناعم التي وجهت إليه عبر الصحف من قبل بعض نشطاء الحركات الوطنية، لا تنطوي على أي معنى مفيد أو جدوى حقيقية، طالما أنها لا تراعي منطلقاته المتخالفة جذريا مع رؤية الحركة الوطنية لهويتها ولتاريخ الصراع، ولطبيعة دورها ومشروعها ومستقبلها في المنطقة. وهنا بالذات يصدق قول الشاعر: "رب امرئ حتفه فيما تمناه"، فلولا طبقات الشعاراتية التي اهتم السيد بركة نفسه في مراكمتها وبثها في فضائنا السياسي لتغطية تلك الثغرات، ولمنافسة خطاب الحركة الوطنية، والتي تلقفها وتبناها قطاع هام في دوائره الحزبية والجبهوية والجماهيرية معتبرا إياها تحولا جديا عن خطابه التقليدي، وتعميقا للتوجهات الوطنية والقومية، لكان أمر المشاركة تلك حدثا عاديا منسجما حتى النخاع مع قناعات حزبه ولما احتاج إلى "فزعة" قوية من شعراء وكتاب ومبدعين، ولا إلى استكتاب العشرات لاستصدار فتاوى تحللها وتزين لنا وجهها القبيح.

نقول هذا استنادا لمعرفتنا الأكيدة أن قسما كبيرا من حملة التبرير التي صدرت عن بعض الشخصيات الحزبية العريقة، إنما كانت موجهة أساسا لداخل الحزب والجبهة، وذاك لضبط ردود أفعال الكوادر الشابة ذات التوجهات الوطنية الفلسطينية الراديكالية، والتي لا ولم تستسغ هذه الخطوة، تماما مثلما أبدت نقدها الواضح لكثير من المواقف السياسية لقيادتها المهرولة والمنحازة لتيار أوسلو دون تحفظ.

شخصيا، لا استطيع إقامة منطقة عازلة بين قراره هذا وبين مواقفه العجيبة في دعم سياسات السلطة الفلسطينية المتخاذلة والمتطابقة في أغلب نقاطها مع المشروع الأمني الإسرائيلي والأمريكي، والتي نصب السيد بركة نفسه حارسا عنيدا لبوابتها الشمالية – بوابة الداخل- بحجة الدفاع عن الشرعية ومواجهة الظلامية. لهذا فليس صدفة أن تجد تماثلا يكاد أن يكون كاملا بين من يدعم سلطة أبو مازن في ساحتنا المحلية ومن يؤيد قرار بركة إياه.

حينما نسجل نقدنا لمثل تلك التوجهات الانتهازية، فإن وجه المقارنة الماثل أمامنا، والذي نحتكم إليه هو عين النهج والإرث النضالي للأحزاب الشيوعية العربية الجدية والحركات الثورية الماركسية في منطقتنا، والتي تكاد تتعارض ممارساتها ورؤاها مع كافة التوجهات التي يعبر عنها السيد بركة وطنيا وسياسيا، وأولها ما يتصل بعقلية الاندماج والتأسرل، وحيث ذروة سنامها تتمثل في قضية نقاشنا هذه، مرورا بالموقف الملتبس والتعيس حيال تيار الممانعة والمقاومة، ووصولا لسخاء دعمه للسلطة الفلسطينية في مغامراتها الانهزامية.

تأسيسا عليه، فلا مكان بعد ذلك لتقولات مستهترة بعقول الناس، وكأن قراره السابق ذكره مشتق من ثقافته الشيوعية الأممية وقيمها التي تربى عليها كما يدعي. فالمسألة لا تتعلق بالموقف المبدئي القاطع من جرائم النازية وفظائعهم ضد اليهود وغيرهم، فهي أمور محسومة ولا يختلف في رفضها حتى جاهلان، ولن يسعف أصحابها الاختباء وراء العبارات الإنسانية المؤثرة التي نتشاطرها ألما جميعا، لأننا نتحدث أصلا عن ما اسماه المؤرخ اليهودي نورمان فنكلشطاين بـ"صناعة المحرقة"، أي التوظيف السياسي الرخيص لتلك المأساة، والتي أضحت "الممر الآمن" لتمرير جرائم إسرائيل وموبقاتها.

بالتالي، فنحن نتساءل عن معنى المشاركة بوفد صهيوني رسمي برئاسة بنيامين نتنياهو ودلالتها، وإمكانيات توظيفها وتوقيتها، وحدود المحظور لقيادة الجماهير العربية، والرسائل التي تحملها، وفعلها في تآكل وتخريب الثقافة الوطنية في وعي أجيالنا الصاعدة... ولو ابتغينا "ملاحقة العيار لباب الدار" في ادعائه بالتزامه بتقاليد حزبه لوجدنا أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي – قبل وحتى بعد التعريب الأول والثاني، والذي ينسب غالبا لتيار بركة، قد امتنع بقيادته اليهودية والعربية على حد سواء، عن المشاركة بهكذا نشاطات رسمية. ثم من قال إن التقاليد الحزبية ينبغي أن تقدس على هذا النحو الغريب؟ فهذا المنطق الأجوف يدفعنا لتذكيره أن تقاليد الحزب الشيوعي قد حرصت على رفع أعلام الدولة العبرية في كافة نشاطاته، حتى إلى زمن ليس ببعيد، فهل يتعين علينا أن نفهم "حجته" تلك كدعوة لإعادة ممارسة ذاك التقليد؟ ومن تقاليد حزبه أيضا تعرية "وشرشحة" كل من اشترك في الوفود الرسمية المتعلقة بهذه المناسبة، فبم ينصحنا الآن؟؟

بصرف النظر عن قصائد الغزل والمديح التي أبدعتها قريحة المدافعين عن "بطولة صاحب القرار وشجاعة خيار المشاركة في مسيرة اوشفيتس"، وتجاهلا منا لاكتشاف أحد شعرائنا المعروفين أن "منسوب وطنيته" قد ازداد بعد زيارته لنفس الموقع....الخ.. غير أن أغرب الادعاءات كان ذاك الذي استله احد المدافعين قائلا: "إن بركة حر في قراره، وهو بهذا إنما يمارس دوره الطبيعي في قيادة حزبه الذي منحه ثقة القيادة". عبثا تحاول التسلل إلى قلب هذا الفقرة من خلال مدخل طبيعي فلا تنجح، لأنه غير موجود أصلا، فهي من صنف "النصوص الصماء العمياء" (إذا جاز التعبير) المنغلقة على ذاتها بإحكام وتأبى أن تتفاعل حتى مع السياق.

مثل هذا "النقاش المنفتح" لا بد له أن يثير لدى سامعيه نفس التداعيات العبثية التي "يتحفنا" بها الخطاب الإعلامي المصري الرسمي وماكينته الدعائية، حول حق مصر في ممارسة سيادتها على أرضها، وحماية أمنها الإقليمي....الخ خلال تبريرهم لبناء الجدار الفولاذي على حدودها مع غزة الجريحة المحاصرة. ينسى هؤلاء أن معنى القيادة الوطنية الحكيمة والسيادة الصادقة يتحدد وفقا لمعايير يعرفها الجميع، وفي طليعتها الانسجام الحقيقي مع المصالح الجذرية والمشروع المتبنى والقيم الأساسية للجهة التي يمثلانها. فلو أراد الإخوة "المحروقون" على المشاركة بهذا الوفد "لأهميته الوطنية"، أن يخدموه حقا، فلينصحوا صاحبهم، مثلا، أن يشارك بقوافل "شريان الحياة" للمساهمة بفك الحصار عن غزة، أو أن يذهب ويتواصل فعليا "مع الألم العربي" الساخن في الضاحية الجنوبية لبيروت ومخيمات صبرا وشاتيلا، أو على الأقل أن "يوسع قلبه" ويترفع عن الاعتبارات الحزبية (التي لا يساوم عليها عندما تكون بالذات مع الحركات الوطنية) ويتضامن مع زميل له في محنته وملاحقته كما واجه الدكتور عزمي بشارة، بدلا من المشاركة بجنازة سيدة يهودية من الضحايا النادرين لقصف المقاومة الفلسطينية..وباقي القصة معروف.

إن حقيقة كون السيد محمد بركة "لاجئا وابنا للاجئ"، كما يصف هو نفسه، لا يعطيه أي حق أخلاقي للإقدام على فعل لا يسوغ لغيره، ولا يمنحه أفضلية أو امتيازا في المضمار الوطني إلا بقدر ما استحقه بعمله المخلص في أرض الواقع. فها هو الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مثلا، ليس فقط مولودا لأب لاجئ، بل هو حتى ممن شهد بعينيه نكبة شعبنا وتدمير مجتمعنا، وذاق مرارة اللجوء لخارج الوطن على يد أبناء ضحايا المحرقة، فلينظر لأفعاله ويعتبر. من هنا، فان استخدام تلك الصفة العزيزة على وجداننا لتعزيز حجة المشاركة، هو أمر مستفز لنا نحن، ولا وزن ولا تأثير لها في تدعيم خياره، وان أحدثت فعلا، فهو قطعا سيجيء على عكس ما يرجوه.

ومنعا للاستطراد والتكرار، فإننا نجمل تحفظنا المبدئي على قرار السيد بركة بالإشارة إلى أنه يعكس، بنظرنا، اختلالا بيّنا في بوصلته السياسية، وانعطافا مجانيا لجهة مداهنة الدولة العنصرية ومؤسساتها، مثلما يمثل اختراقا غير مسبوق لسياج مسلماتنا الوطنية الجامعة، كونه يصدر عن أحد الوجوه التمثيلية والسياسية البارزة لمجتمعنا الفلسطيني في الداخل.

إن الغياب الصارخ لأبسط المبررات المقنعة لفعلته تلك، حتى ولو من منظور تراثه الحزبي، قد يحملنا على الاعتقاد أنه ممعن في مهمة فرز ساحة الداخل عموديا وعرضيا على أساس رفض وإحباط مشروع تنظيم الأقلية العربية الفلسطينية وبناء مؤسساتها القيادية، والذي تتوسع دوائر أنصاره تباعا، مقابل المغالاة في وهم استمالة الشارع اليهودي والعودة إلى مربع العقلية الاندماجية الأول، أو ربما يعزى إلى اعتبارات تتعلق بالتوازنات الداخلية في حزبه وسعيه لاستقطاب فئات "محافظة" أو يهودية انفضت من حوله إما بدعوى جنوحه عن الخط التقليدي أو بدافع تخوفهم من إجراءات التعريب الأخيرة التي مارسها.

ونهاية، لا بد من الاستدراك أن خطوة كتلك كانت حتما ستقابل بتفهم من جهة شارعنا العربي الوطني، لو أنها تمت، على الأقل، في مرحلة ما بعد إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إلى جانب إسرائيل –انسجاما مع برنامج حزبه الشيوعي-، لكن الأمر في حالته الراهنة مختلف، بل ومناقض لصميم تلك الحالة المنشودة، لهذا وأيا تكن دوافع تلك الخطوة، فإن رائحتها الكريهة ستظل تزكم أنوفنا وأنوف رفاقه الغيورين لزمن طويل.

التعليقات