31/10/2010 - 11:02

فلسطين: المطلوب وقف عسكرة المجتمع/ راوية الشوا

فلسطين: المطلوب وقف عسكرة المجتمع/ راوية الشوا
تحت شعار وقف عسكرة الانتفاضة خاض السيد محمود عباس معركة الانتخابات الرئاسية بعد هزّة رحيل ياسر عرفات الذي ساند الانتفاضة، وانتقلت في ظل إدارته من انتفاضة شعبية إلي انتفاضة مسلّحة، شاركت فيها معظم القوي السياسية القادرة علي ذلك وبعض قوات الأمن، مما أكسبه شعبية علي شعبيته.

كان شعار عباس بمثابة قنبلة، رأي فيها البعض أنها مساس بالحق المقدس (المقاومة) وترك آثاراً جانبية حول برنامجه السياسي وحوارات حادة اجتاحت شرائح مسيّسة في المجتمع، في حين تسلل شيء من راحة البال إلي نفوس من تضورت مصالحهم المادية، من ممتلكات بأنواعها، مصادر رزق، بيوت، مزارع، مرافق عامة.. الخ، الأمر الذي قضي علي مجمل مدّخرات شريحة واسعة من الشعب المقاوم.

في تلك الأثناء استطاعت إسرائيل فكفكة الأجهزة الأمنية بشكل منهجي وشلّت حركتها وقدراتها إلي درجة كبيرة وتقوقعت داخل ما تبقي من مراكزها وأماكن أخري، ممّا حدّ من تأثيرها علي حياة وأمن المواطن.

وبعودة سريعة إلي مرحلة ما قبل الانتفاضة، لم تكن تلك الأجهزة قد تمّت هيكلتها علي أسس قانونية سليمة، بل تحكمت في تشكيلها ووظائفها ودورها اعتبارات لم تصب في مصلحة الوطن والمواطن، وأحجمت في الكثير من الأحيان عن القيام بدورها الحقيقي الذي يجب أن تقوم به مثل التدخل في فضّ مشاكل المجتمع ونزاعاته المتعددة: العائلية، الجرائم المدنية، الإرث، الثأر.. الخ، وكان الكثير من هذه التجاوزات يتم فيه استخدام السلاح. وكثيرة هي المرات التي حذّرنا فيها من خلال المجلس التشريعي ومن خلال بيانات صحافية من ظاهـرة استخدام السلاح بشكـل غير قانوني من قبل المواطنين (أفراد أمن وعاديين) سواءً كان ذلك في النزاعات أم في المناسبات المختلفة كالأفراح. وهنا أتذكر أنني كنائب استنجدت وطلبت من أحد قيادات الأجهزة التدخل في إحدي المناطق لفضّ نزاع بين أسرتين اشتبكتا إلي حد القتل، فكانت إجابة المسؤول بشكل واضح: هل تريدينني أن أُقتل أنا ورجالي في حالة التدخل (عام 1998م)؟

البناء الهيكلي للمؤسسات الحكومية والوزارات الحديثة تمّ بمنهجية واعية! بحيث تنقسم المؤسسة أو الوزارة إلي محورين أو ثلاثة ليسهل السيطرة عليها دون عناء كثير، وتواصل البناء تحت هذه المنظومة المدمرة (بفتح وكسر الميم معاً)، محور الوزير ومحور الوكيل ومحور....، وهكذا تمكّن الجالس في غرفة التحكم الآلي من إدارة المؤسسة حسب رغباته بحيث يستخدم هذا المحور ضد الآخر، ونجح في خلق أجواء من المؤامرات والمراقبة والعبث لإضعاف هذا الموقع علي حساب ذاك، وفي النهاية وصلت المؤسسة إلي مجموعة من المتصارعين من أجل مصالحهم الشخصية، وبات الجمهور في أواخر اهتمام المؤسسة التنفيذية التي أُسست لخدمته.
هذا النظام المتناقض والمبني علي التوازنات المتضادة، كان يبرز حين تشتد الأزمة في إحدي الوزارات، فتظـــــهر فرق التدخل السريع لحفظ التوازن باسم رئيس السلطــــــة المرحوم أبو عمار فيفعل التدخل فعل السحر وتهــــــدأ المعــــارك ويلزم الجميع حدوده، ويتنازل صاحب الحق عن حقه دون مشقّـــــة الخوض في محاكم الفصل، فيطل الصباح وردياً وكأنها كانت زوبـعة في فنجان.

عشرة أعوام من التجربة ومطالبات لم تتوقف برفع شأن القضاء وإعلاء كلمة القانون، وتراكمت في غيابٍ ممنهجٍ لسلطة القانون مئات قضايا الثأر، وانشلّت آلية العقاب والثواب، وأصبح من يمتلك السلاح هو سيد الموقف، فسعي الجميع إلي محاولة امتلاكه والتفوق علي الغير بحجم الذخيرة وعدد القطع وأنواعها، فأصبحنا شيئاً فشيئاً أمام مجتمع معسكر، وانبري هذا المجتمع يعبر ويرسل إشارات قوية تؤكد أنّ أمن المجتمع الفلسطينـي بات في خطـر، وبقيت قيادات الأجهـزة تتمركـز علي أعلي الشجـرة، لا تتصدي للجرائم، ولا تحمي المواطن والحق العام، ولا هي تعترف بفشلها وتستقيل. وطالبنا بإقامة المحاكم لمجمل القابعين خلف القضبان علي خلفيات مختلفة، جنائية، مدنية، عمالة، غير الموقوفين تحت حجج لم ترتقِ إلي تهمة بعينها، فكان ذلك انعكاسا لحالة الفوضي الإدارية المعاشة.

في هذه الأجواء استوعبت أجهزة الأمن قطاعاً كبيراً من الشباب الفلسطيني الذين تمكنوا من الحصول علي السلاح في ظل انعدام الأسس السليمة لحيازته ووظيفته ومواطن استخدامه، وشعر المواطن بأنّ أمنــــه مهدد، فانتقلت حمّي اقتناء السلاح من شخص لآخر ومن أسرةٍ لأخري خوفاً علي الأرواح والممــــتلكات من أطـــــراف عديدة، بعضها يتـــعلق بالصراع الدائر مع الاحتلال والآخر يتعلق بنزاعات داخلية والخوف من الثأر.

وهنا تبرز تساؤلات من قبيل: كيف يصبح للقانون قوة لجمع السلاح، وما هي الضمانة لحماية أرواح وممتلكات العائلات التي أصبــــح بينها وبــــين عائلات أخري دم ومشــاحنات وترصد وتربص؟ ومن يحمــي المواطن من إسرائيل؟

من هي السلطة التي تتجرأ علي الدخول إلي مخازن الحمولة لجمع الأسلحة؟ وكيف نوقف تجار السلاح ـ الشريحة التي صعدت في العشرة أعوام بدعم من عدة أطراف فلسطينية وغيرها؟ كيف ستتم مواجهة مراكز القوي المستفيدة من حالة الفوضي والتي تمتلك العتاد والمال والرجال والسلاح ومواقع سلطوية؟

من المدهش أن نسمع غضب رئيس الوزراء اليوم وجهات مجتمعية أهلية منادية بوقف التدهور الأمني الذي يجتاح حياة كل مواطن منا، من رفح حتي جنين، مروراً بأبو ديس وكل مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، والذي يزيدنا دهشةً هبّات المنادين بالإصلاح وهم جزء لا يتجزأ من حالة الانفلات الأمني، سواءً في مرحلة نشوئها المبكرة أم من خلال انتشارها في المجتمع حتي أصبحت ظاهرة تقض المضاجع، وهؤلاء كانوا دائماً يعبرون عن غياب سلطة القانون في حياة المجتمع الفلسطيني، فهل استيقظت ضمائرهم الآن بعد كل ما فعلوه بالوطن والمواطن طيلة عشر سنوات عجاف كانوا خلالها الأبطال الحقيقيين الذين أسسوا للحالة المخيفة التي يعيشها المجتمع؟

إنّ ما هو قائم اليوم هو حرب أهلية يخشي الكثيرون تسميتها باسمها الحقيقي، فليس شرطاً أن تكون الحرب الأهلية علي نمط واحد معين شاهدناه أو سمعنا عنه في إحدي الدول، فهناك العديد من أشكالها ومظاهرها، ولكن الجوهر واحد والنتيجة واحدة.

إنّ المطلوب اليوم من حكومة السيد أبو علاء قريع وبوضوح وقف عسكرة المجتمع ونزع سلاحه غير القانوني ليكون مجتمعاً مدنياً، وتفعيل القانون وتنفيذ القرارات وفرض النظام بالقوة داخل المدن والقري والمخيمات في كل المجالات، صغيرها وكبيرها، حتي في مجال السير وتنظيم الأسواق ونظافة المدن، ونشر شرطة قوية لا تتنازل عن دورها لأي قاطع طريق يحمل علي كتفه قطعة سلاح ليس للدفاع عن الوطن ولكن لأغراض شخصية. إنّ تقاعس الحكومة عن أداء هذا الواجب وترك مصير الوطن والمواطنين يعبث به أفراد ومجموعات وشرائح مسلحة من أجل مصلحة الحمولة بمعانيها المختلفة: العشائري، السياسي، الجهوري.. الخ، يثير علامة استفهام كبيرة علي جدّية الحكومة في وضع حدّ لحالة الفوضي والانفلات التي يعيشها المجتمع الفلسطيني. وفي هذه الحالة نطالب الرئيس أبو مازن بموقف واضح، فإذا كان شعاره بوقف عسكرة الانتفاضة أثار جدلاً ونقاشاً وخلافاً في المجتمع، فإنّ وقف عسكرة المجتمع مطلبٌ يحظي بالإجماع، ولا يعارضه سوي الذين ارتبطت مصالحهم باستمرار حالة الفوضي. فهل نتركهم ينتصرون؟


نائب في المجلس التشريعي الفلسطيني

التعليقات