31/10/2010 - 11:02

قراءة نقدية في الذكرى الأربعين لانطلاقة الجبهة الشعبية../ راسم عبيدات

قراءة نقدية في الذكرى الأربعين لانطلاقة الجبهة الشعبية../ راسم عبيدات
... تأتي الذكرى الأربعين لانطلاقة الجبهة الشعبية في ظل تطورات ومتغيرات نوعية تطال بمجملها أسس ومرتكزات البرنامج الوطني الفلسطيني. وهذه التطورات والمتغيرات، ولأول مرة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، تتحول وتصبح خطرا داهما وجديا على القضية الفلسطينية، أرضا وشعبا وهوية ومصيرا ومستقبلا ومنجزات ومكتسبات، فالوضع الداخلي الفلسطيني، يشهد حالة غير مسبوقة من الانقسام السياسي والجغرافي، ومسألة توحده سياسياً، بل وحتى جغرافياً، أصبحت مرتهنة لأجندات واشتراطات غير فلسطينية، فحتى لو تراجعت حماس عن نتائج حسمها العسكري في قطاع غزه، والتي شكلت تعدياً صارخاً على الديمقراطية الفلسطينية، من خلال حل الخلافات والتعارضات الداخلية بالوسائل العسكرية، والطرف المقابل في المعادلة السياسية الفلسطينية (فتح)، أيضاً له نفس العقلية والمنهج الإقصائي الحمساوي، فكلاهما لا يرى نفسه إلا مستأثراً بالقرار والسلطة، ولا ينظر للشراكة السياسية، إلا في الإطار الشكلي والديكوري، وهناك عشرات الشواهد والأمثلة على ذلك، فتيار السلطة لا يرى في مؤسسات م.ت.ف المجوفة، وهياكلها المفرغة من المضامين، والفاقدة لشرعيتها القانونية والدستورية منذ زمن، خادمة لمصالحه وأهدافه ومشاريعه في تمرير هذا القرار أو ذاك، أو تبرير هذه السياسة أو تلك.

إذا نحن أمام عقليتين ونهجين يتقاطعان حد التماهي في الكثير الكثير من المسائل، حيث الفئوية المفرطة، والعقلية الإستزلامية المليشياتيه القامعة. ولعل الجميع لا يغيب عن ذهنه، ما تعرضت له جماهير غزة من قمع وتنكيل على أيدي القوة التنفيذية، في مهرجان إحياء الذكرى السنوية للرئيس الراحل أبو عمار، والقمع الذي تعرضت له الجماهير في الضفة الغربية في تظاهراتها المناهضة والرافضة لمؤتمر أنابوليس، وكذلك محاصرة مخيم العين واقتحامه لاعتقال المقاومين وتجريدهم من أسلحتهم، ناهيك عن القمع لقوى المقاومة والاعتقالات السياسية في الضفة والقطاع من قبل فتح وحماس.

... ما تشهده وتعيشه الساحة الفلسطينية من أصحاب هذه العقليات والرؤى، والتي أغلقت وصدت الأبواب في وجه كل المبادرات الإنقاذية والوحدوية التي أطلقتها الكثير من القوى ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، مثل مبادرات الشعبية والديمقراطية والجهاد والمبادرة الوطنية منفردة ومجتمعة وغيرها، تدلل وتبرهن على أن القوى الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني ومعها كل القوى الحية والشريفة، تنتصب أمامها مهام كبرى، وعليها أن لا تكتفي بالشعارات والمبادرات للجم وصد عنجهية وغطرسة هذه القوى التي لا تفكر إلا في ذاتها ومصالحها، وتلبسها ثوب المصالح العليا للشعب الفلسطيني.

..... ومن هنا فإن الجبهة الشعبية، كحزب عريق له تاريخه وتراثه وجذوره وتواجده وانتشاره على طول مساحات الوطن وعرضه، وفي مخيمات اللجوء والشتات، وكون الجبهة الشعبية تشكل المرتكز الأساسي والعصب الرئيسي للقوى الديمقراطية، أو ما يسمى بالتيار الثالث، تنتصب أمامها الكثير من المهام الوطنية التحررية والاجتماعية الديمقراطية.

ونحن ندرك ثقل وجسامة هذه المهام في ظل حالة القمع المتواصلة والاستهداف الذي تتعرض له الجبهة الشعبية، حيث دفعت وما زالت تدفع ثمناً نضالياً باهظاً، تمثل جزء منه في اغتيال أمينها العام السابق الرفيق القائد أبو على مصطفى، واعتقال أمينها العام الحالي القائد أحمد سعدات، ناهيك عن مئات الأعضاء المعتقلين بما فيهم أعضاء قياديون..

هذه الضربات والاعتقالات لو طالت أحزاب أخرى لكانت كافية لتفككها وتحللها، بل وحتى اندثارها، وطبعا ًهذا يترافق مع حصار مالي وسياسي للجبهة الشعبية. ولكن كل ذلك لا يعفينا من القول إن الجبهة الشعبية حتى اللحظة الراهنة، لم تغادر الأزمات التي تعصف بها. هذه الأزمات إذا ما وجدت طريقها للحل، فإنه يمكن للجبهة الشعبية أن تغرس حضورها ووجودها في عمق الوجدان الشعبي، وتتحول إلى حزب جماهيري واسع.

والمهمة هنا ليست فكرية ووطنية من الدرجة الأولى فحسب، بل إنها تتحايث مع ذلك النوع من المهام التي من شان النجاح في حلها، تأسيس شروط نشل المجتمع الفلسطيني من محنته وتقويته على الصمود في ظروف الهزيمة، مما يستدعي عقول وإرادات دون تردد على مغادرة خط وعيها، وسيرها التقليدي السابق إلى وعي خط سير جديد، في تحليل الأزمة الجبهاوية واليسارية.

وقد تكون بدايات التغير الجدي مشروطة بالقدرة على تقديم إجابات غير مألوفة على السؤال المحوري، لماذا أخفقنا؟؟ وأين الإخفاق؟، بدلاً من الإجابة نفسها على أسئلة الأزمة والتي تراوح مكانها من طراز الظروف الموضوعية المجافية، قلة وشحة الموارد المالية، تخلف البنى التنظيمية القائمة،أزمة الديمقراطية الحزبية، ضعف الخطاب الإجتماعي الديمقراطي... إلخ، باختصار مقاربات تأملية نتجه فيها لعوامل الضعف والركود، وليس عوامل الأزمة، أي للعوامل الحاملة للضعف والتي تتطور لتصبح عوامل إدامة وتعميق للأزمة.

وفي معرض إجابتنا عن لماذا أخفقنا؟؟ وأين الإخفاق؟؟، فإننا أمام احتمالين لا ثالث لهما، إما تشريح نقدي جريء وبلا حدود، يقودنا إلى نتائج جذرية وحاسمة، أو استمرار التهميش والتفكك وصولاً إلى الاندثار.

إذاً الجبهة الشعبية بحاجة إلى خلوة"ستالينية"مع الذات تطال كل شيء البرامج والرؤى والآليات والهوية الفكرية والهيئات والأفراد والهيكل التنظيمي. ولا مجال للحديث عن فكفكة حلقات الأزمة المركبة والمتداخلة دون حل المعضلة التنظيمية، والتي تشكل العصب المركزي لوحدة الحزب وصوغ أهدافه وبرامجه، وغياب هذه الحلقة الهامة من شأنه إضعاف الحزب، وتسلل الأمراض إلى أعماق الحزب من طراز الإشاعات والتشكيك والإرباكات وغياب المحاسبة والمساءلة..إلخ.. والمهمة هنا تتطلب طرائق عمل وآليات جديدة، وقادة وكادرات مبدعة في العمل، بعيداً عن النمطية والتكلس والتحجر والجمود.

وفي الجانب السياسي، على الجبهة الشعبية أن تخرج عن دائرة ممارسة السياسة في الغرف المغلقة إلى ساحة الجماهير، وعليها أن لا تتهيب من خلق وتربية ملاكات وقيادات دعاوية وتحريضيه، وعليها أن تتعلم من قوى اليمين والإسلام السياسي في هذا الجانب، ملاكات وكادرات تمارس دورها السياسي والجماهيري في كل مناطق الوطن، بدلاً من رهن هذه المهمة بسين أو صاد من الرفاق، والأمر هنا لا يقتصر قط على القيادات والكادرات السياسية والجماهيرية، بل الحاجة هنا ملحة لقيادات تمارس دورها وفعلها في الميدان بين الرفاق والجماهير..

والجبهة ليست بحاجة لقيادات مؤسساتية محكومة بالهم الشخصي والمؤسساتي، وهذه المؤسسات يجب أن تكون حاضنات أساسية للحزب والجماهير، وليس إقطاعيات لهذا أو ذاك، وعلى الجبهة أن تستفيد وتتعلم جيداً في هذا الجانب، فكم مؤسسة بنيت وخسرتها بخروج أو فصل هذا الرفيق أو ذاك.

وفي الجانب الإعلامي هناك أهمية قصوى في ظل التطورات التكنولوجية والمعلوماتية والإعلام العصري لوجود جهاز إعلامي متخصص، فلا يعقل أن يكون حزب عريق، كالجبهة، بدون وسيلة إعلام مثل جريدة أو موقع الكتروني متطور أو إذاعة، يوصل وينقل من خلالها الحزب إلى الجماهير، ويرسخ في ذهنها ووجدانها، آراءه وأفكاره ومواقفه وتصوراته ومعتقداته ، بدلاً من ترك الجماهير لقمة صائغة وفريسة للأفكار السلفية والرجعية واليمينية.

وإزاء كل ذلك يجب أن لا يغيب عن بال الجبهة الشعبية، أنها أمام مهمة مركزية وهي الشروع في تشكيل تيار أو إطار ديمقراطي واسع وبمن يلتحق، يكون قادراً على التصدي ومواجهة ما يجري على الساحة الفلسطينية من قبل (حماس وفتح)، أي إعادة التوازن للمجتمع الفلسطيني، حيث يتعرض المشروع الوطني لتدمير وتبديد كل منجزاته ومكتسباته في سبيل المصالح الفئوية والامتيازات والمراكز، ووقف حالة الانهيار والتدهور الداخلي الفلسطيني. وأول ما تتطلب العمل الجاد على إعادة اللحمة للبيت الداخلي الفلسطيني من خلال خلق قناعات عند الأخوة في حماس بالتراجع عن خطئهم، أي التراجع عن الحسم العسكري في القطاع، وكذلك أن تشرع وتلتزم فتح بالمباشرة في حوار وطني شامل غير مشروط يحكمه ما جرى الاتفاق عليه في وثيقة الوفاق الوطني – وثيقة الأسرى- واتفاق القاهرة/ آذار2005، المتعلق بإعادة هيكلة مؤسسات وبنى وهياكل م.ت.ف من خلال الانتخابات الديمقراطية.

وهناك مهمة أخرى على غاية الأهمية، وهي عدم رهن الجبهة لقراراتها ومواقفها السياسية وإخضاعها لهذه الجهة أو تلك، وعلى الجبهة الشعبية أن تخط نهجها ورؤيتها على أرض الواقع وبين الجماهير من خلال التركيز على الهموم المباشرة للمواطن، الهموم الاقتصادية والاجتماعية، وعلى أن يترافق ذلك مع فعل كفاحي ونضالي مقاوم، وعدم الانشداد إلى الإستراتيجي على حساب التكتيكي، وكذلك العمل على ترجمة وتطبيق شعار وما ورد في النظام الداخلي للجبهة الشعبية، حول العلاقة مع الجماهير إلى فعل على أرض الواقع من خلال الحرص على إقامة وإشاعة العلاقات الديمقراطية مع الجماهير، وضرورة التعلم منها، والاستفادة من طاقاتها وخبراتها. وأيضاً على الجبهة العمل على جسر الهوة بين القول والفعل، وبين الشعار والممارسة.

وبعد فإن ما يمكن لنا قوله إن الجبهة الشعبية، بفكرها وتاريخها وتراثها وتضحياتها ونضالاتها، ما زالت حاجة موضوعية للشعب الفلسطيني، وهي تعبر عن أماني وتطلعات قطاعات واسعة من الجماهير، وخصوصاً المسحوقة منها، وأنا أعتقد أن حزباً أسسه الحكيم وقاده هو ووديع وغسان وأبو علي، يستحق الحياة والوجود اللائق بين الجماهير، وهذا رهن بمدى قدرة العديد من قياداته على مغادرة نهج التكلس والتحجر والنمطية في العمل، والقدرة على الإبداع واستدخال واستنباط أشكال وطرائق عمل جديدة، وبنى وهياكل جديدة تتماشى وتواكب التطورات الحاصلة.

التعليقات