31/10/2010 - 11:02

كارثة الارتجالية وتغييب البرنامج الوطني/ ناصر السهلي

.

كارثة الارتجالية وتغييب البرنامج الوطني/ ناصر السهلي
نشرت صحيفة "القدس" المقدسية يوم السبت 22 تشرين الثاني نوفمبر نقلا عن "الحياة" الصادرة في لندن، ما أسمته "مسلسل مذكراته عن الثورة الفلسطينية".. المقدمة المعرفة بياسر عبدربه ليست هي الأهم، ولا الجواب الذي اختارته الصحيفة لتوضيح لماذا تحديدا "اليساري العرفاتي"( وهو تقديم عائد للجريدة وليس لي، وإن كنت لا أختلف معه).. فأنا أعتقد بأن الاشهر القادمة ستحمل لنا الكثير من المذكرات.. ليس بسبب التخمة الفكرية ولا لسبب الانتهاء من مرحلة التحرر الوطني وبناء المؤسسات والانسان ونشر الديمقراطية والعدل.. وبين تعريف الثورة والسلطة سنقرأ الكثير الكثير عن علاقات "الكل" بالرئيس الراحل ياسر عرفات.. فلكل منهم "بطولات " وقصص وحكايات.. وأنا لا أتهكم ولا أصدر أحكاما مسبقة.. تم اختياره إذا على أساس أنه "يقيم في اللجنة التنفيذية منذ 1971" وعلى اطلاع بما كان يدور في الكواليس مع الاربعة الباقون الذين جرى التطرق إليهم لاحقا.. والاشارة الى الاقامة الطويلة في اللجنة التنفيذية تعني أيضا ما ذهب إليه بنفسه عن تقليد النظام الرسمي العربي في اعتلاء السلطة والكرسي وعدم التنازل أو النزول عنهما إلا على طريقة بورقيبة أو في الاستثناء الرفيق الراحل جورج حبش.. وحتى سوار الذهب.. ولن تكون قراءتي سجالا مع ما نُشر بشكل له علاقة بخيارات السيد عبد ربه بل بما تحمله شهادته من قيمة علمية وعملاتية على الواقع والمستقبل الفلسطينيين.. فالقضية لا تتوقف لا ببقاء ولا برحيل هذا أو ذاك..

المهم، في الحلقة الأولى مما أُطلق عليه "مُذكرات" وجدت نفسي أقرأ حوارا يجريه شخص ما مع عبدربه.. بطريقة "شاهد على العصر".. وأي عصر..وعلى طريقة اللقاء الصحفي يجيب ياسر عبد ربه على مفاصل معينة من التاريخ الفلسطيني.. مبتدءا بالواقع الحالي للقضية الفلسطينية..

مع كل الاحترام "للرفيق" ياسر عبد ربه الذي عرفناه عن قرب، أنا والكثير من أبناء جيلي ، محاضرا ومنظرا"ثوريا" ضد الامبريالية والكومبرادور والبرجوازية واليسارية الطفولية والصراع الطبقي و.. و.. والكثير مما سمعه القارئ وقرأه في مرحلة من مراحل الثورة قبل لعق وابتلاع كل النظريات وبالتالي الارتداد الى منطق الانقسام الذي طفا على السطح الساخن "لليسارية" التي انقلبت الى موجة من "القبلية" المطعمة بـ"النقاء الوطني" لمناكفة التوجه الاوسع والأشمل للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.. وكما للسيد عبد ربه ذاكرة، فلنا نحن البسطاء بدون مناصب بعضا من الذاكرة.. وإن لم تكن كتلك الذاكرة القابضة على مقاليد السلطة بالرغم من إعترافات الفشل الذي رده السيد عبد ربه في جله الى شخصية الزعيم الراحل عرفات، وهو الذي لازم الرجل منذ أن قرر مغادرة صفوف الجبهة الديمقراطية.. وربما التوجه اليساري الذي أثبت مع الايام أنه يسار يعاني أيضا من أزمات حقيقية تحتاج إلى كثير من الجرأة والمصارحة وإعادة صياغة علاقتها بنفسها والجماهير لتأخذ دورها الحقيقي..

الارتجالية التي تتكرس.. فتولد كارثة!

بعض النقاط الواردة في الحلقة الاولى المشار إليها تستحق التوقف عندها لما تحمله من تشخيص وإعتراف مأساوي، ومتأخر في ذات الوقت، لما آلت إليه القضية الوطنية الفلسطينية..بدأ عبد ربه بالحديث من نهاية عهد بوش دون قيام الدولة ( جوابا على سؤال ما هي العقدة في المفاوضات) ليشرح رأيه بأنه هناك ثلاث عقد رئيسة، وهي الارض والقدس واللاجئين.

في المسألة المتعلقة بالأرض يقول عبد ربه بأن المفاوض الفلسطيني رفض مقترحات الضم الاسرائيلية وأضاف "ونحن نرفض ذلك ونريد في أحسن الحالات اختصارها الى أضيق مساحة ممكنة بحيث لا تتجاوز 2 في المئة ليتمّ تبادلها بأرض مقابلة من حيث الحجم والنوعية. الاسرائيليون يريدون ما يوازي 7 في المئة من الأرض على الأقل في الضفة، مع استثناء القدس ومناطق أخرى من هذه العملية، الأمر الذي يرفع النسبة أكثر"

ما يستوقفنا هنا هو قول السيد ياسر عبد ربه عن "أحسن الحالات".. وليتحملنا أبو بشار، فهل القبول بـ2% يتماشى مع المشروع الوطني الذي قبل بدولة في حدود الرابع من حزيران.. بل ماهي علاقة فتح تفاوض على نسب مئوية مع فتح شهية الاحتلال للاستمرار بتهويد الارض المحتلة.. ثم ألا يمكننا العودة إلى عنوان مادتنا هذه عن الارتجالية بعملية إقصاء للشرعية والقانون الدولي فيما يتعلق بالاحتلال؟.. بعبارة أخرى، ما الضير في أن يتمسك منذ البداية بقرارات الأمم المتحدة التي طُلب من القيادة الفلسطينية الاعتراف بها "لفتح الابواب التفاوضية معها" منذ السبعينات..
وفي المسألة المتعلقة بالقدس، لا أجد مرجعية، كما في بقية القضايا مثار التفاوض، لا دولية ولا وطنية.. ولا يكفي أن يقول لنا الرفيق عبد ربه بأن الاسرائيليون "...يحاولون التخفيف من المسألة بأنها منطقة لا تتجاوز مساحتها 2 كلم، لكن البيت الأبيض وقصر الاليزيه أيضاً لا تتجاوز مساحتهما كيلومتراً أو اثنين، إذاً ليست المساحة هي المهمة"

القضية الثالثة هي المتعلقة بموضوع اللاجئين، وعنها يقول عبد ربه "حتى الآن لم يبدوا أي مرونة ذات معنى في هذا الموضوع. آخر عروضهم كان استعدادهم لقبول أعداد محدودة من اللاجئين في إطار لمّ الشمل أو لدوافع إنسانية. وهذا بالنسبة إلينا لا يحل المشكلة. حتى العدد أقل من عشرات الألوف..

لغويا أفهم "حتى الآن" بأن المقصود منذ مدريد.. أو ربما منذ أوسلو 1993.. وكامب دافيد 2000.. والمرحلة الأخيرة يوليها عبد ربه الكثير من الاهتمام، وهو ما سنتطرق إليه لاحقا..
وإذا كان الأمر كذلك، فأنا أسأل مرة أخرى عن المرجعية الوطنية والدولية.. فهل استمرار التفاوض على المشروع الاسرائيلي واطروحاته منذ شامير إلى أولمرت وما بينهما كان بناءا على القرار 194 أم على ما أقره المجلس الوطني المنعقد في الجزائر قبيل الذهاب الى مؤتمر مدريد بالتمسك بالحد الادنى لمشروع القاسم المشترك؟

ليس كافيا الشرح الذي يقدمه السيد ياسر عبد ربه تاليا " وعلى مدى خمس سنوات ونحن نطالب بأعداد أكثر بكثير لكن من دون تحديد الرقم، الى حين الاتفاق على المبدأ. وهناك نقاط أخرى الموقف الإسرائيلي غير واضح منها، لكن الأميركيين طمأنونا بالنسبة الى موقف الاسرائيليين"..ببساطة الاقتباس الذي نقرأة هنا يزيد من القناعة بأن قضية المفاوضات لم تجري كما كان يردد المدافعون عنها وهي تجري بالطريقة المذكورة.. فقضية اللاجئين ليست " ..ونحن نطالب بأعداد أكثر بكثير لكن دون تحديد الرقم..".. وللقارئ والمتخصص أن يستنتجا ما يريدان من تغييب القرار الخاص بمسألة اللاجئين مثل بقية القرارت الاخرى لمصلحة "الاميركيين طمأنونا"..

فيما بعد يذهب عبد ربه ليحدثنا عن أن الأمر ينطبق حتى على اللحظات الأخيرة من عهد أولمرت الذي قدم للرئيس أبو مازن، وحسب شهادة عبد ربه، خارطة ما تشمل ضم نسبة 7 % من الاراضي الفلسطينية.. ولم يستطع الرئيس ابو مازن الحصول على تلك الخارطة!! فرسمها بيده ليعرضها "علينا" دائما حسب السيد ياسر عبد ربه..
ينهي عبد ربه كلامه عن تلك النقاط العالقة بالقول المتناقض تماما مع عرضه بالقول " وأهم شيئ هو أن الاسرائيليين اعترفوا بحدود العام 1967 كأساس للتفاوض".. حقيقة لم أفهم ولم أقرأ يوما هذا الاعتراف المتناقض مع العروض والنسب والحسم الذي ينقله عبد ربه بنفسه عن تجربة التفاوض بالنسبة للمواضيع المطروحة على طاولة التفاوض..

كامب دافيد واستمرار الكارثة

لم يتردد ياسر عبد ربه، الذي شارك عرفات كل مراحل التفاوض، أن يعرض علينا رؤيته لأداء الرئيس أبو عمار في كامب دافيد على أنه أضاع فرصة تاريخية، وهو قول واتهام رماه الاميركيون والاسرائيليون حتى يومنا هذا، مقدما ياسر عرفات بأنه شخص لا يجيد التفاوض وكل ما كان يهتم به هو هاجس تعزيز سلطته وليس الجغرافيا.. بل يذهب ياسر عبد ربه الى حد القول بأن ياسر عرفات "عمل نظاما عربيا" بعيدا عن مضمون الدولة..

لست في مجال تقييم ما ذكره عبد ربه عن مرحلة كامب دافيد وواي ريفر، ولا ما ذكره عن عرفات، فهناك من شارك في الاعداد والمضي في هذه المفاوضات يستطيع أن يقدم لنا بقية الصورة الضبابية التي تصلنا عن الطرق التي تدعو الى الشفقة بل والاشمئزاز من الطريقة التي تُدار فيها عملية تفاوض باسم الشعب الفلسطيني وتاريخه الكفاحي ومعاناته المستمرة..
فإذا كان المفاوض الفلسطيني في كامب دافيد وحسب عبد ربه نفسه لم يكن يملك خطة ولا مقترحا بديلا للمقترح الاسرائيلي بضم 20% من الضفة.. فإن ذلك يثبت مدى خطورة ما يجري حين تعم الارتجالية وتغيب المرجعيات الوطنية والدولية والذهاب الى مفاوضات مبنية على تصديق الطمأنة الاميركية و"حسن النية عند باراك" وغيره.. وهذا المنطق الذي يعرضه عبد ربه في مسار التفاوض الفلسطيني- الاسرائيلي في كامب دافيد لا تختلف كثيرا عما يجري الان.. فهل جرى الاستفادة من التجارب السابقة؟ بالدليل الذي يقدمه العرض الاسرائيلي حتى في عهد أولمرت لم يجري المفاوض الفلسطيني على مايبدو مراجعة حقيقية لطرق ومسارات ومرجعية التفاوض..

فما زلنا أمام مساومات تأخذ نسبا مئوية تحت بند التبادلية، وأرقام "لم شمل" عوضا عن حق العودة والقدس مسألة تقبل التفاوض على "ممرات" وسيطرات تحت وفوق الارض.. وبالمعنى الدقيق، مجمل ما جرى على مدى 17 سنة هو تحقيق لرؤية شامير في مدريد ليس إلا..

"الحياة مفاوضات"

ما جاء في كلام وشهادة ياسر عبدربه في حلقتها الاولى لا تبشر بالخير أبدا.. بل تزيد قناعة الكثيرين بأننا ما زلنا في المربع الأول المفتقد للرؤية الواضحة والحازمة في استخدام عوامل القوة الذاتية والمشروع الوطني الفلسطيني الذي أُصيب بمقتله نتيجة هذا الانقسام الفلسطيني المدمر والموقف العربي الذي لم يختلف في جوهره عن الموقف الذي بدأ في مدريد وزاد وضوحا مع تعمق الأزمة الفلسطينية الداخلية..

يقول الدكتور صائب عريقات في كتابه "الحياة مفاوضات" عن الاستراتيجية التفاوضية الاسرائيلية في الصفحتين 38 و39 " فتح قنوات خلفية دون علم فريق المفاوضات بهدف الحصول على التنازلات... طلب تغيير المفاوض بشكل رسمي أو غير رسمي.. توظيف المؤتمرات والدعوات الى واشنطن ولندن وغيرها وطلب أشخاص بالاسم، وذلك لإتمام بناء الطرق الالتفافية...استخدام التهديد والوعيد وتصدير الخوف... محاولة القول: إن الطرف الاسرائيلي( رئيس الوزراء) ضعيف وبحاجة الى مساعدات، وأنه لا يستطيع تقديم التنازلات.. استخدام وسائل الاعلام والتسريب بالاخبار الملفقة حول المفاوضات.. التهديد بانهيار المفاوضات، واستمرارها تراوح مكانها.. استخدام دول عربية للشكوى والتذمر.. توظيف الخلافات الداخلية الفلسطينية بإحداث المحاور والاستقطاب.. كل ذلك كان يحدث على الجانب الفلسطيني، في حين كان الجانب الاسرائيلي محصنا لتعزيز ركائز أهداف طوياة الأمد من خلال تحقيق المكاسب قصيرة المدى.."

جيد، هنا يطرح الدكتور صائب عريقات النقاط الأساسية تحت بند " المفاوضات والشطارة".. بل ويستشهد عريقات بجيراد نيرنبيرغ عن ايجابية التركم في المفاوضات التي يمكن ان تتحول الى كارثة اذا لم يحدث ذلك التراكم.. ولست هنا بصدد عرض قراءة لكتاب الدكتور عريقات، بل لطرح سؤال غير أكاديمي ولا نخبوي، كيف يمكن الجمع بين المعرفة التي يقدمها كبير المفاوضين الفلسطينيين بالاستراتيجية الاسرائيلية وما يعرضه السيد ياسر عبد ربه دون أن نكتشف ولو لمرة واحدة ما هو مضاد لتلك الاستراتيجية؟

حتى في الفصل الثاني من كتابه يذهب الدكتور صائب عريقات الى التركيز على المصالح وليس على المواقف باعتبار ان التفاوض هو قائم على اختلاف المواقف(ص 58)..

أين هي المصالح الفلسطينية في القبول بتنفيذ الاستراتيجية التفاوضية الاسرائيلية، واستبعاد شبه كلي للمرجعيات المتفق عليها فلسطينيا؟ ولماذا تستمر ذات المنهجية التي عرفناها منذ أن انطلقت المفاوضات؟ ومن الذي يسمح للاسرائيلي بتنفيذ خططه اللاعبة على الانقسام الفلسطيني الذي يضع تحته عريقات خطا لأهميته.. ومن في الجانب الفلسطيني يقرر فتح القنوات الالتفافية والتساوق مع حسن النيات ؟

هناك الكثير من الكوارث نتيجة احتفاظ حفنة من السياسيين بالمصير الفلسطيني كله،أذكر أن بعض الفصائل الفلسطينية شاركت بشخص أو إثنين في بعض مراحل المفاوضات وبالرغم من ذلك لم يُسمح لها الاقتراب أو تقديم الرأي في مسألة المصالح التي جرى التوافق على سقفها المحدد بالقرارات الاممية..

يشعر القارئ والانسان الفلسطيني بأن الثمن الذي دفعه في انتفاضتين متتاليتين والتضحيات الجسام في داخل وخارج الوطن المحتل لم تكن نتائجه كما كان يطمح إليها شعب قاوم وصمد بوجه أبشع أنواع الاحتلالات والممارسات العنصرية المتعارضة مع القانون الدولي..
ليس الوقت وقت تحميل عرفات مسؤولية ما جرى، وكأن المعروض حينها تنفيذا اسرائيليا لقرارات الامم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية بما فيها القدس واللاجئين والسيادة على الارض، بل هو الوقت الذي يحتاج فيه الشعب الفلسطيني في ظل الانقسام الحاد والمعاناة الانسانية في غزة بشكل وحشي وبشع على ايدي الاحتلال والامعان السياسي بذلك الانقسام الى عودة سريعة إلى المراجع الوطنية أولا وقبل التعويل على المراجع الدولية والعربية التي صدرت القضية الفلسطينية الى تحكم البعض وفق اتجاهات تحددها المصالح الاسرائيلية والاميركية بعيدا عن المصالح الفلسطينية..

قد نجد في السياسة الفلسطينية من يتعامل مع شعبه بطريقة ساذجة جدا، بل يعتبره شعبا بحاجة الى وصاية وبأنه لم يصل سن الرشد، هذا في الوقت الذي نستطيع ومن خلال الكثير من الشواهد أن ندعي بأن الكثير من "القيادات" الفلسطينية ومن كل الاتجاهات والتيارات تحتاج الى وقفة صادقة مع الذات لتتنحى جانبا وتترك من هو قادر على مواصلة المسيرة وتصحيحها بدل الامعان في تأزيمها والسير بها بارتجالية ساخرة نحو المزيد من الازمات التي يستفيد منها الاحتلال لتثبيت احتلاله..
الساحة الفلسطينية باتت اليوم بحاجة إلى وضوح في الرؤية والاستراتيجية بدل البكائيات والشكاوى والتعويل على الاخر، إنها ساحة مأزومة بحق ينخرها الفساد والمحسوبيات والاعتماد على المظاهر للدلالة على وجاهة وقوة المتسلطين..
لابد من الاعتراف بأن إعادة تقييم التجربة الفلسطينية تستدعي من بعض الشخوص الذين اسهموا في تعميق مآزق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة أن يستوعبوا المأزق الحقيقي الذي تاهت في أزقة "التشاطر" قدراتهم القيادية.. إن المنطق الوحيد الذي لا مناص من الاعتراف به، سواءا كان هناك تفاوض أم لم يكن، بأن الشعب الفلسطيني يعيش مرحلة حرجة من مراحل تحرره الوطني.. والحركة الوطنية الفلسطينية، نتيجة عوامل كثيرة وكبيرة، تعيش وهما من الخلط بين الكيانية السياسية ( كالتي ذهب اليها عبد ربه في وصف قيادة عرفات للتفاوض) وقضية التحرر الوطني الغير منجز والذي لا يمكن أن ينجز لا بنبذ العنف ولا بالغاندية ولا حتى باستيراد تجربة ايرلندة.. هنا إحتلال إحلالي يخالف القانون الدولي من المستعمرة الى الحاجز الى الجدار والحصار والتجويع وهنا أيضا يمارس السياسي طقوسه إياها وكأن شيئا لا يحدث حول العالم.. بل وكأن لا شعبا من شعوب الارض عاش مرحلة احتلال ولم يمارس مقاومة ضد هذا الاحتلال، بل ولكأن الشعب الفلسطيني دونا عن شعوب الأرض مطلوب منه الارتهان لفهلوة وشطارة البعض وتغليب العاطفة على المنطق في قراءة الحدث والتاريخ..

شهادة ياسر عبدربه في حلقتها الأولى حملت ما يمكن أن تحمله كل مذكرات الاخرين الذين عرفوا أنهم لم يصيبوا( إذا لم نستخدم تعبير الفشل)، فواصلوا وكأن شيئا لم يحدث.. حتى في المرات التي كتب فيها الراحل ادوارد سعيد وحيدر عبد الشافي والكثير الكثير من اصحاب الفكر والسياسة عن الارتجالية وأزمة ادارة الظهر للشعب الفلسطيني والرهان الدائم على وعود البيت الابيض وبعض العواصم العربية والغربية لم يعرهم الممسك بالقرار اي اهتمام، بل بالعكس تم تحويل كل من انتقد التجربة التفاوضية الى متهمين بتهم ترتد اليوم على من أمعن في ممارسة ذات الأخطاء مرة تلو مرة..

لا أعتقد شخصيا بأن الحالة الفلسطينية الراهنة والمستقبلية يمكن أن تتحمل المزيد من الكوارث التي مورست على مدى 17 عاما من التفاوض المراوح مكانه بوعود ورؤى غير الوعود الوطنية والبرامج المنطلقة من المصالح الوطنية الحقيقية.. ولا أعتقد أن الساحة الفلسطينية لم يعد فيها أحد قادر على إدارة الصراع والتفاوض غير هذا البعض الذي قال عنهم السيد نايف حواتمة "الاوسلويون" المنتفعون من أصحاب الامتيازات الذين لا يمكنهم التخلي ببساطة عما حصلوا عيله..

في عالم التفاوض المستند إلى إنكشاف الظهر أمام العدو الذي تفاوضه وإفتضاح أمر عدم مراهنتك على عوامل القوة الذاتية والقبول بمبدأ التفاوض على أساس بعيد عن النضال اليومي.. بل وتجريم هذا النضال على لسان بعض المسؤولين والطامحين الى مناصب جعل حتى أمر التهديد بوقف التفاوض مزحة سمجة لم تعد تعني الكثير للطرف العدو الذي أدرك عدم جدية أي تهديد.. بل الأنكى من ذلك قبولك التفاوض ضمن شروط وتحت سقف " إستمرار العملية" بناءا على رؤى اميركية مطعمة بتسميات لا تقدم شيئا الا المزيد من التأزم في الحالة الذاتية وفتح الباب أمام ما ذكره بنفسه "كبير المفاوضين" الدكتور صائب عريقات في كتابه آنف الذكر عن إطلاق الطرف العدو للكثير من الاشاعات التي كانت تفعل فعلها في مجمل المصداقية التي يدعيها من يفاوض باسم الشعب الفلسطيني..

وطالما أن السيد ياسر عبد ربه مدركا إلى هذا الحد ماهية العقلية الصهيونية وعدم جدية كل المرحلة التفاوضية وتحميله الطرف الفلسطيني، ولو بشكل مبطن، مسؤولية الاستمرار في التفاوض الغير مجدي.. فإن السؤال المهم: ماذا بعد؟
هل مجرد الاعتراف بأن الراحل ياسر عرفات في كامب دافيد كان "مفاوضا فاشلا" تكفي لتبرير ما وصلت اليه الحالة الفلسطينية من مأساوية لا تشبهها مأساوية أوضاع الأغلبية السمراء في جنوب افريقيا ابان حكم الفصل العنصري؟

إذا كانت الحلقة الاولى من "مذكرات" ياسر عبد ربه حملت الينا الى العلن ما كان يعرفه الشارع الفلسطيني وبعض فصائله وشخصياته، فإنه ثمة مطلب وطني بأن توضع كل المرحلة التي يذكرها عبد ربه في ميزان المحاسبة، على أقله للاستفادة للخروج من الدوران حول الذات في قصة التفاوض..
وحتى لا يلتبس الأمر على أحد.. فحتى تجربة التهدئة التي جرت في غزة تجربة تماثل الى حد بعيد التجربة التفاوضية.. فالضعف والاستفراد والتحكم بالقرارات وعدم الجدية أمام الخروقات الصهيونية يزيد المشهد ضبابية ومأساوية.. وكل فصول التجربة في الاقصاء والاحتكار فصول ارتجالية لا تستند الى قوة وارادة الشعب الفلسطيني وتمسكه بحقوقه الوطنية رغم كل الممارسات الوحشية لدولة الاحتلال..

التعليقات