31/10/2010 - 11:02

نحو نظام أمن إقليمي خليجي - إيراني مشترك../ د.خالد الحروب*

نحو نظام أمن إقليمي خليجي - إيراني مشترك../  د.خالد الحروب*
على غير ما يقع من أمور وقدرات في دوائر إرادتها، لا تستطيع الدول الهرب من الجغرافيا. تستطيع الدول أن تبدل سياساتها، وأيديولوجياتها، ونظمها الاقتصادية. تستطيع أن تهرب من تاريخها، إن كان فيه ما يدعو للهرب، لكن الجغرافيا هي واحدة من الأقدار العنيدة مستحيلة التغيير. والجغرافيا أيضاً كانت مستنبت حروب وصراعات طاحنة، فعلى عكس ما تقرره وجدانيات القيم والأعراف الإنسانية من أفضلية الجار على غيره، فإن حروب الجيران هي أكثر ما ميّز النزاعات بين البلدان والأمبراطوريات. ففي أول الـمطاف ونهايته فإن أعراف الدول وأخلاقها لا تنتظم، وفق ما تسير عليه أعراف الأفراد وأخلاقياتهم.

وعندما تدرك الدول استحالة زحزحة الجغرافيا واستحكام منطق حتمية الجوار وتأهبه الدائم لفرض صراعات وتنافسات، فإنها أمام خيارين: إما الوقوع في أسر ذلك الـمنطق والانجرار إلى سيرورة لا تنتهي من العداء والتنافس والحروب، لأن حتمية التجاور مع مَن هم وراء الحدود القريبة لا مناص منها، أو، الخيار الثاني، أن تضرب بسيف الإسكندر قلب ذلك الـمنطق، وتقفز أمامه. ما معنى ذلك وكيف؟

معناه وكيفيته، وبعيداً عن التنظير، ماثل في تجربة القارة الأوروبية، حيث تحكّم منطق حروب الجيران قروناً عدة، فولّد كل أنواع الحروب: الترابية، الـمصلحية، الثرواتية، والدينية، وكان تتويجها حربين عالـميتين طاحنتين، سقط بسببهما مئات الـملايين.

كان الدرس القاسي والدموي بليغاً ومفاده أن على الدول أن تستوعب منطق الجغرافيا والجوار حتى مع الأعداء، وتتصالح معه ومعهم وإلا فإن دوامة الحروب والصراعات لن تنتهي. وعندما تـم استيعاب ذلك الدرس قفزت أوروبا أمام منطق الانجرار الدائم لحروبها مع الجيران، وعوض ذلك تصالحت معهم ومع نفسها. وطوت العداوات الألـمانية، الفرنسية، البريطانية، الروسية، البولندية تواريخها، وتطلعت إلى صيغة أخرى من التعايش.

انضوت تلك البلدان في منظومات اقتصادية وأمنية إقليمية ناغمت بين مصالح البلدان الـمتناقضة، وشذبت تصادماتها، وعززت ما هو مشترك بينها من تجارة واقتصاد وتبادلات بينية أخرى، وبالـمجمل طرقت بمطرقة الـمصالح الـمشتركة على نتوءات الصراعات التاريخية فسوتها بالأرض، أو كادت.

جغرافيا إيران ودول الخليج تتحكم بالاثنتين، ولا مهرب لهما إلا إليها. وهناك في ضوء تجربة التاريخ خياران: الأول استمرار منطق الخوف والترقب وربما الصراعات الـمستقبلية وتدخل القوى الكبرى في حروب قد تحدث وقد تجر دماراً لا يستثني أحداً، والخيار الثاني اختصار الطريق والتعلـم من درس التاريخ لتوفير كلفته الغالية، والاحتواء الوقائي لأي تدهور مستقبلي ومحتمل جداً. وهذا الاحتواء الـمتبادل يُترجَم على شكل نظام إقليمي يجمع دول الخليج وإيران والعراق، على أقل تقدير، يكون جوهره الحفاظ على أمن واستقرار هذه الدول وتفادي الحروب، وعلى قاعدة أن أية حرب قادمة ستكون كلفتها كبيرة على الجميع، ونزيفها سيستنزف ما تبقى من قدرات الدول، ويعطل تنميتها واقتصادها.

ودول الخليج في هذا الصدد عليها الآن مسؤولية الـمبادرة، لأنها الخاسر الأكبر من أية حرب قد تقوم، حتى لو لـم تكن طرفاً فيها (مثلاً بين الولايات الـمتحدة وإيران). في الخليج الآن نهضة اقتصادية واستثمارية وتقنية وعمرانية واعـدة، وعلى دوله أن تحافظ عليها بكل السبل، وأُس الـمحافظة على وتائرها هو دوام الاستقرار وإبعاد شبح الحروب. وعلى دول الخليج أن تعي أن إيران الجارة تتبدل سياساتها وأيديولوجية الحكام فيها، وأن أية نظرة بعيدة الـمدى يجب أن تتجاوز تطرف الأدلجة والديماغوجية، التي يتصف بها نظام الحكم الحالي.

وعليه فإن مبادرة "هجومية" الآن مطلوبة من مجلس التعاون الخليجي، تكون مرتكزة على أسس واضحة وعملية وبراغماتية صرفة، يكون من ضمنها:

أولاً: ليس من مصلحة دول الخليج اندلاع أية حرب جديدة، وأنها ستعارض قيام مثل هذه الحرب، ولن توفر أراضيها لأية استخدامات عسكرية لأي طرف من الأطراف.

ثانياً: القيام بحملة دبلوماسية وقائية دولية تركز على الدول والأطراف الكبرى؛ بريطانيا، فرنسا، الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي، هدفها التأليب ضد قيام أية حرب.

ثالثاً: صياغة مسودة نظام أمن إقليمي يضم دول الـمجلس وإيران والعراق، وربما مصر، وفتح حوار مستمر ومتواصل مع إيران حوله لتحويله إلى واقع ومظلة أمنية تكون بوصلتها مصالح دول الـمنطقة الـمشتركة بالدرجة الأولى.

رابعاً: فتح حوار ومفاوضات متواصلة مع إيران حول الـموضوعات الخلافية، خاصة احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، والتصميم على الوصول إلى حل لها عبر التحكيم والقانون الدولي، للانتهاء من هذه العقبة، التي قد تقف في وجه التقدم نحو صياغة نظام أمن إقليمي.

خامساً: إيجاد آلية إقليمية، خليجية، إيرانية، سورية، أردنية لتنسيق الـمواقف إزاء الوضع في العراق، والـمساعدة في تسريع الوصول إلى حل إقليمي يخلّص العراق من الإحتلال الأميركي بأسرع وقت، ويحفظ مصالح الأطراف العراقية، ويجنبها الـمزيد من الصراع الداخلي والاحتراب.

سادساً: تعزيز التواصل الثقافي والإعلامي مع النخب والشرائح الإيرانية، من أجل حشد رأي عام إيراني ضاغط باتجاه الوصول إلى ترتيبات إقليمية مع دول الخليج حتى لو تضمنت "تنازلات" من قبل النظام بشأن القضايا التي يعتبرها فوق الـمساومة. وفي هذا السياق علينا أن نتذكر أنه في مقابل الجهود الإيرانية للتأثير في الرأي العام العربي، خاصة عن طريق الإعلام والبعثات الثقافية والـمحطات التلفزيونية الناطقة بالعربية والإنجليزية، ليس هناك جهد عربي يذكر باللغة الفارسية للتواصل مع الجمهور الإيراني العريض.

سابعاً: تعزيز التبادل الاقتصادي والاستثماري لبناء أرضية عريضة وعميقة من الـمصالح الـمشتركة تتحول مسألة الـمحافظة عليها إلى أولوية لدى الطرفين.

ويمكن إضافة مرتكزات أخرى هنا وهناك والاستطراد في بنود إضافية ليس هذا مجالها، إذ إن مقصد هذه السطور هو التركيز على جوهر الفكرة الاساسية: إيجاد نظام أمن إقليمي يجمع دول الخليج وإيران، والدفع نحو تطوير قناعات متراكمة وعاجلة بضرورة الـمبادرة بطرح مثل هذه الرؤية. ولدول الخليج الحق، بل من واجبها، أن تكون بالغة الحرص على الجغرافيا الحيوية لها، وإبعاد شبح الحرب عنها. وعليها ألاّ تقف موقف الـمتفرج وتترقب وقوع الأحداث الجسام، ثم أن تجد نفسها رغماً عنها طرفاً في مأزق لا علاقة لها به.

ولعله من الـمفيد هنا التذكير بمثال مهم في السنوات القليلة الـماضية وهو أن التاريخ السياسي الحديث للـمنطقة سيسجل أن الـمبادرة العربية الجريئة الوحيدة التي كان بإمكانها قطع الطريق على حرب العراق والكارثة التي تبعتها كانت قد انطلقت من الخليج، وهي الـمبادرة الإماراتية، التي أطلقها الراحل الشيخ زايد، قبيل حرب العراق، ودعا فيها صدام حسين للاستقالة، ونقل الحكم إلى حكومة انتقالية، ومغادرة العراق والإقامة في الإمارات معززاً مكرماً، بما كان سيبطل كل الـمفاعيل والـمسوغات الأميركية التي سيقت لتبرير الحرب. في اللحظة الراهنة هناك مبادرة مطلوبة لقطع الطريق على حرب أخرى.
"الأيام".

التعليقات