29/09/2018 - 11:52

أكتوبر الكرامة والشعب العنيد..

من يعيش في داخل الحدث، لا يستطيع إدراك عمق اللحظة التاريخية الفارقة من تاريخ شعبه وربما من تاريخ المنطقة، إنه مثل النملة في خلية من خلايا نمل كثيرة، لا تدرك مدى ما تحدثه النمل مجتمعة من أثر كبير في واقعها

أكتوبر الكرامة والشعب العنيد..

من يعيش في داخل الحدث، لا يستطيع إدراك عمق اللحظة التاريخية الفارقة من تاريخ شعبه وربما من تاريخ المنطقة، إنه مثل النملة في خلية من خلايا نمل كثيرة، لا تدرك مدى ما تحدثه النمل مجتمعة من أثر كبير في واقعها ومحيطها.

في انتفاضة أكتوبر أو انتفاضة الأقصى، لم نكن مدركين بأننا نعيش مفصلا تاريخيًا من مفاصل الصراع مع الحركة الصهيونية، رأينا أبناءنا الثانويين في تلك الأيام يسبقوننا وهم يغلقون الشوارع، ويقذفون الحجارة على أفراد حرس الحدود، رأينا شوارع رئيسية مثل شوارع عكا صفد ووادي عارة والناصرة وما بينها خاوية من السيارات، أعادتنا تلك اللحظات والساعات والأيام إلى المربّع الأول من الصراع.

كان مشهد دخول شارون إلى باحة الأقصى مستفزّا جدا للمشاعر القومية والدينية والإنسانية، وجاء مشهد الطفل الشهيد محمد الدرة ووالده وهو يحاول حمايته وراء ظهره وهو يصرخ "مات الولد مات الولد"، ليشعلَ نار الغضب في قلوب كل الناس، وخصوصًا الجيل الشاب الذي خرج مدافعًا عن كرامته، وكرامة شعبه وإنسانيته، خرجوا إلى المواجهات بشجاعة لم ندركها في حينها، فاشتعلت الأرض تحت أقدام المحتلين، وغابت الحدود الاستعمارية السياسية التي فُرضت على أوصال فلسطين، ووقف العالم مبهورًا، وخصوصًا العالم العربي المشبع بالإهانات، وشّخَص منبهرا لما يجري على أرض ظنوها استسلمت وماتت ودفنت، وإذ بالدماء تفور وتجري على تراب وإسفلت قرانا ومدننا، ليمتزج الدم الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب، بالدم الخليلي والغزاوي والمقدسي والنابلسي، ليتردد صداه حتى آخر الدنيا.

كانت أيام عزّ، رغم الدماء الغالية التي سالت في شوارعنا، فقد كان الشعور بالكرامة أقوى من أي شعور بالخوف أو التردد، لقد كان هناك قادة شجعان، أصروا على التضحية وقوفا حتى الشهادة، وعلى رأسهم الشهيد ياسر عرفات الذي رفض الخنوع، حتى وجرافات المحتلين تضرب جدران مسكنه في رام الله، ذلك قيادات الداخل الفلسطيني التي وقفت بشجاعة إلى جانب شعبها، غير آبهة للثمن الذي قد تدفعه.

كان أكتوبر عام 2000 صرخة وشهقة ودمعة قالت إننا شعب حي لن يفرّط بكرامته.

أكتوبر كشف قوة الشعب عندما تكون قيادته شجاعة غير متواطئة، وعندما يوجَّه الغضب والحقد المشروع إلى الهدف الصحيح، إلى قامعي الشعب ومحتليه ومشرِّيّده ومغتصبيه.

لم يكن في أكتوبر فصائل متصارعة على سلطة، لم تكن تفرقة بين الضفة الغربية والجليل والمثلث والنقب وغزة وخان يونس، كانوا كلهم أبناءً بررة تحت جناح الأم، كانوا كلهم يهتفون الهتاف نفسه، كانت القلوب والحناجر نفسها معلقة في الأقصى ومحمد الدرة والشهداء من كل فجاج فلسطين الداخل والضفة وغزة والشّتات، لم نكن عشائر متنازعة على سلطة أو على الجلوس في المقاعد الأمامية، كان السباق على التضحيات، كان الصف الأول للشهداء وليس للزعماء.

هل انتهت روح أكتوبر إلى غير رجعة؟ ألن تعود تلك الدماء الحارة لتتفجر من جديد في وجه مغتصب الأرض والوطن! ألن يعود الشعب إلى وحدة نبضه وإلى عنفوانه؟

أمام ما نراه في هذه الأيام من تقسيم وتشرذم وتواطؤ ومن بنادق توجه إلى أبناء الوطن، أمام ما نراه من تخاذل وتراجعات ومحاولات للنجاة الفردية وإدارة الظهر للوطن، وتغليب المصالح الضيقة التافهة على السمو والكبرياء، أمام عبودية الناس لراتب آخر الشهر، وأما الهجوم الأميركيّ الصهيوني على ما تبقى من حقوق، وما نراه من تهافت عربي على السّجود لآلهة الصهيونية، رغم كل هذا لن تنطفئ شعلة الأمل، ونحن واثقون أن شرارة واحدة آتية لا ريب فيها ستعيدنا خلال لحظات إلى المربّع الأول، وما عدوانية نتنياهو وحكومته وغروره، وترامب واستهتاره، وآل سعود وتهافتهم، والقيادة الفلسطينية المترددة، سوى النار التي سوف تجعل الأرض براكين متفجّرة، فشعبنا الذي قدم التضحيات منذ ما يقارب القرن، لن يتراجع ولن يتخاذل، وفي لحظة الحقيقة سوف يقول كلمته، سوف يعيد فلسطين إلى نصابها الصحيح.

واهمٌ من يعتقد أن ملايين الفلسطينيين بين البحر والنهر سيركعون ويستسلمون، وواهم من يعتقد أنه بسحب دعم الأونروا يلغي حقوق اللاجئين وحلمهم بالعودة، وواهم من يعتقد أن خيانة هذا الزعيم أو ذاك ستقتلع القضية من جذورها.

أكتوبر شهر التضحيات والأمل والكرامة، قد يرجع في موعده أو قد يتأخر قليلا، وقد يأتي أبكر، إلا أنه عائد لا محالة، فالشعوب تمهل ولكنها لا تهمل، دماء الشهداء لن تمحى من ذاكرة فلسطين، نهر التضحيات ما زال مستمرًا، ولن يتوقف حتى يتحقق لشعبنا ما تحقق لشعوب أخرى.

من حق شهداء أكتوبر عام ألفين، ومن حق كل شهداء فلسطين منذ انتفاضة البراق عام 1928 ومرورًا بثورة القسام 1936 مرورا بتضحيات النكبة عام 1948 ومرورا بتضحيات مئات آلاف الشهداء من الفلسطينيّين والعرب التي تروي أرض فلسطين، علينا واجب المشاركة في الإضراب يوم الإثنين القريب الأول من أكتوبر والذي يشمل كل الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، إنه حق وواجب علينا بأن نقدم للشهداء التحية، الذين قدموا أرواحهم رخيصة لأجل كرامة من بقي وراءهم، ولأن كرامة ومطالب الشعوب بالحرّية لا تحتمل المساومة.

التعليقات