29/03/2019 - 16:48

بين العودة إلى الوعي والعودة إلى الدار

في البدء كان الفلسطيني على أرضه، حرًا ومندمجا بها. احتسب امتلاكه للأرض والدار من البديهيات، وحين هُدد ملكه ووجوده في المرة الأولى، استيقظ الوعي بالوجود ليحل محل اللاوعي، كشرط للفعل.

بين العودة إلى الوعي والعودة إلى الدار

عوض عبد الفتاح

في البدء كان الفلسطيني على أرضه، حرًا ومندمجا بها. احتسب امتلاكه للأرض والدار من البديهيات، وحين هُدد ملكه ووجوده في المرة الأولى، استيقظ الوعي بالوجود ليحل محل اللاوعي، كشرط للفعل.

دارت الأيام والسنين، وبعد جولات وصولات من مقاومة الغزاة، وجد نفسه بعد أن سُرق وطنه، أمام حملة لسرقة روايته. ومنذ اللحظة التي فكر الغزاة بالسطو مرورًا بالتنفيذ، واصلوا بلا كلل وبدهاء كبير، مخطط هدم روايته وكيّ وعيه. حققوا جزءًا كبيرا من مخططهم، وضللوا من جلبوهم من الخارج ليستوطنوا في بيت الفلسطيني، وأدخلوا إلى وعي الكثير من النخب الغربية، الفاعلة خارج الحكم، معرفة مشوهة، لتكون سندًا للنخب الحاكمة وضمانًا لمواصلة تغذية مشروع استعماري متوحش، في بلاد ليست لهم. كما نجحوا في تجزئة فلسطين وأدخلوا في عقول أوساط واسعة من الطبقة السياسية الفلسطينية الرسمية (طبقة أوسلو)، قناعة باستحالة تحقيق حق العودة.

لكن رغم كل هذا الدعم والإجرام المُحصّنين، يفاجأ الغزاة بعودة العشب الذي يجزونه بوحشية بالغة إلى التفتح والنمو. ورغم شعور الغزاة بالانتصار والتعبير عن ذلك في مناسباتهم، فإنهم يكتشفون أن آلات القتل الفتاكة التي يمتلكونها ويستعملونها لترسيخ غزوهم عاجزة عن استئصال الوعي عند أصحاب الوطن. يصابون بالإحباط عندما يرون ضحايا غزوهم، ليسوا ضحايا سلبيين، إنما قادرون على النهوض من تحت الأنقاض بعد كل مذبحة.

يتوهمون أو يتخيلون عندما ينظرون إلى المشهد الفلسطيني، وتحديدًا إلى الصور القاتمة، مثل الانقسام أو التنسيق الأمني، أو هبوط خطاب الطبقة السياسية الانهزامي وفسادها، أن ذلك المشهد هو نهاية التاريخ: أي انتصار الصهيونية النهائي، مثلما ظنّ المفكر الأميركي، فرانسيس فوكوياما، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أنّ نهاية التاريخ حلّت وأنّ الرأسمالية انتصرت كدين للبشرية كلها. هناك من داخل الكيان الإسرائيلي، من بدأ يدرك أن الانتصار في معركة الوعي بات مستحيلًا.

قبل عام بالضبط، أطلقت مجموعة من طلائع الشباب الفلسطيني في قطاع غزة المحاصر والمقاوم معركة وعي جديدة، تحولت بسرعة إلى معركة كل الحركات المقاومة والأطر السياسية والشعبية والناس، تحت عنوان العودة وفك الحصار.

غدًا، السبت، 30 آذار/ مارس، ينتظم الجميع هناك بمسيرة ضخمة في ذكرى يوم الأرض، إحياءً للذكرى السنوية الأولى واستمرارًا لمسيرة العودة إلى الأرض والدار. ويتوقع أن يكون الحشد كبيرا ومتميزا. هذا النمط من المقاومة الشعبية الشاملة، لم يعهدها قطاع غزة منذ الانتفاضة الأولى، التي اعتمدت النضال الشعبي غير المسلح؛ ففي مسيرات العودة الكبرى، نرى كل فئات الشعب، وخصوصًا النساء.

أن يختار الغزيون ذكرى يوم الأرض مناسبةً لإطلاق مسيرة العودة الكبرى، وأن يحيوها غدًا، في الذكرى الثانية والأربعين، له دلالات وطنية جامعة. ففضلا عن كون قضية اللاجئين هي القضية التي توحد كل الشعب، فإن يوم الأرض كان يومًا كفاحيًا وطنيًا، أطلقه الفلسطينيون في الأرض المحتلة عام 1948، في الثلاثين من شهر آذار عام 1976، وتجاوب معه الفلسطينيون في الضفة والقطاع، ليتحوّل إلى يومٍ فلسطيني بامتياز، يجري إحياؤه سنويًا في مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج.

 آمال و تحديات

 لم تتحول مسيرة العودة إلى مسيرة الكل الفلسطيني، كما كان مأمولًا، بل ظلت محصورة في قطاع غزة.

لقد تناولت، مؤخرًا، العديد من الأقلام المسيرة بالنقد والمراجعة، من حيث إدارتها وطريقة عرض أهدافها، بما فيها تصدّر حركة حماس المسيرة، بدل فتح المجال للشباب والأطر الشعبية ليقودوا المسيرة. والأهمّ، تناولت هذه الأقلام التكلفة البشرية الباهظة، من حيث عدد الشهداء والجرحى والمعاقين. فأمام عدوٍ متوحشٍ، لا يفرق بين فلسطيني يطلق النار وبين فلسطيني يتظاهر سلميًا، لا بد من ضبط المسيرة وتقليل الخسائر البشرية، حفاظًا على الأرواح، ومن أجل ضمان ديمومتها وتوليد تفاعلات في عموم الوطن وتحصيل إنجازات ملموسة.

 لقد حال الانقسام الكارثي دون امتداد المسيرة إلى الضفة والقطاع وكذلك في الشتات، كما حال ترهل القوى السياسية داخل الخط الأخضر، الغارقة في انتخابات الكنيست دون امتدادها إلى الداخل الفلسطيني (48). فعدا عن كون سلطة رام الله غير معنيّة بأيّ شكل من أشكال النضال، حتى الشعبي ليس المتفرق بل المنهجي؛ فإنّ تصدّر حماس مشهد المسيرة، يوفر مادة تحريضية في أوساط حركة فتح لمنع محاكاة نفس النموذج النضالي في الضّفة الغربية. لهذا السبب، اختار الشباب إطلاق فكرة المبادرة، كمبادرة شبابية وشعبية، ومن ثم الذهاب إلى التنسيق مع الفصائل المختلفة، ولكن هذه الفصائل عادت وتزعمت المسيرة، وتم تغييب مولدي فكرتها عن القيادة.

مع ذلك، تواصل طلائع الشباب وعموم الشباب المشاركة في المسيرة، التي نجحوا في تحويلها إلى ورشة تدريب كبرى على النضال والمقاومة الشعبية والتثقيف السياسي والوطني.

ليس النشاط عند السياج مقتصرًا على المواجهات والإرباك الليلي، بل يشهد الندوات السياسية والثقافية والعروض الفنية، التي تمد الشباب الذي يرزح في البطالة والفقر بالمعرفة، وبتاريخ قضيتهم وآليّات النضال وتجارب حركات التحرر العالمية وكيفية التحرر، وبالأمل في التحرر والعودة والعيش الكريم.

 هكذا تبدأ مسيرة استعادة الوعي بلب القضية الفلسطينية، قضية العودة، قضية ملايين من إخواننا المحرومين من العودة إلى حيث هجروا، تحضيرًا للانتقال إلى فعلٍ من نوع آخر، في طريق العودة والتحرر والحريّة. بين استعادة الوعي وبين تحقيق العودة، هناك طريق طويل من الفعل، والتنظيم والبناء والتضحيات. في هذا الطريق يلتقي الفلسطينيون من كل مكان، ليعودوا شعبا موحدًا مستعيدًا أهمّ مصادر قوته: وحدته وعدالة قضيته.

التعليقات