06/06/2019 - 14:05

لا سوار ذهب جديدًا في السودان

التفاؤل الّذي كان بداية الثورة السودانية، بحدوث تجربة مُختلفة عن تجارب ربيع العرب، جاء مُخيبًا للآمالِ، التفاؤل كان سابقًا لأوانه، هذه هي النتيجة الظاهرة، حتى الآن.

لا سوار ذهب جديدًا في السودان

تفاءلَ مُعظم المراقبين والمتابعين للأحداث في السودان، أنّ الثورة السودانية على نظام الحكم الدكتاتوري- مُمثلًا بالجنرال عمر البشير وطُغمته العسكرية والسياسية- ستكون مُختلفة عمّا حصلَ للثورات العربية؛ "الربيع العربي"، بمعنى اِكتساء الأشجار لحلة جديدة غير القديمة البالية، أي استبدال نظام حكم فاسد بآخر ديمقراطي، لكن ذلك الربيع العربي كما نعلم، تحوّل إلى خريفٍ دامٍ في معظم الدول، الّتي أزهر فيها  لبضعة أيامٍ قليلة، وبصرفِ النظر عن الآمال الّتي داعبت مُخيلة الكثيرين، بأنّ حالًا سيتغير نحو الأفضل، إلّا أنّ ما حدثَ، أثبتَ أنّه لم يكن سوى أملٍ زائفٍ.

ما حدث في السودان -على ما يبدو- ليس مُختلفًا تمامًا عمّا جرى سابقًا في الأقطارِ العربية الأخرى، فالسيناريو يتكرر، حيث أنّ مجموعة من العسكريين الانقلابيين، تحرّكت لإنقاذ الحكم، مُضحّيةً بزعيمها الدكتاتور. فأمام الأزمة التي مرَّ بها السودان، والّتي شابها صراعٌ داخلي مُستعر، بين الإسلاميين الذين حكموا البلاد لثلاثين عامًا بالحديد والنار، مُغلّفين حكمهم بطابع إسلامي مشوّه، أدّى إلى كره الشعب لهم، حيث أساؤوا لأنفسهم ولدينهم، بممارساتهم القمعية، واستغلال الدين للتفرد بالسلطة. كلُّ تلك السنوات المُظلمة، جعلت غالبية الشعب، تسعى إلى حياة مدنية مع حرية وعدالة، وهذا ما كرّسوه في شعاراتهم في ساحات الاحتجاج.

تتضح الأمورُ يومًا بعد يوم، بأنّ العسكريين استغلّوا الحراك الجماهيري السّوداني، وقاموا بانقلاب أبيض على زعيمهم، الذي كانوا طيلة الوقت شركاءه في الحكم؛ فهؤلاء العسكر والمعروفون بأسمائهم، لم يكونوا إلا بعضًا من رفاق البشير، وقرّروا التّخلص من فردٍ؛ ليستمروا في الحكم كمجموع، إنها معادلة قديمة جديدة، وهذا ما يحدثُ في العادة، فعندما تُغلق الخيارات أمام نظام الحكم، يُضحّي ببعضٍ منهُ؛ للحفاظ على الباقي.

منذ البدءِ، كان هناك شك بأنّ العسكر سوف يسلّمون الحكم لسلطة مدنية مستقلة عن تأثيرهم، رغم مسرحية التفاوض مع "قوى إعلان الحرية والتغيير"، والإعلانات المتتالية أنّ المجلس العسكري الحاكم، ليس إلّا حاكمًا مؤقتًا للبلاد. كان المجلسُ الحاكم بحاجةٍ إلى وقت؛ كي يحصلَ على شرعية داخلية، وقد حصلَ على بعضها، عندما وافقَ الثّوارُ ومن يُمثّلهم من تجمعاتٍ وأحزابٍ، على التفاوض لوضعِ رؤيةٍ لخروج آمن، يضمنُ مستقبلَ الحُكم في السودان، ولذلك قَبلوا بالمجلسِ العسكري شريكًا. استغلَ قادةُ المجلس الحدث، بهدفِ الحصولِ على شرعية إقليمية ودولية، وكان لهم ما أرادوا، فقد حصلوا على شرعيةٍ خارجية من محور مصر- السعودية- الإمارات، المناوئ للإخوان المسلمين وحلفائهم في قطر وتركيا، وكذلك من الولايات المتحدة الأميركيّة وروسيا الاتحادية، ومن معظم الدول الكبرى كالصين، الّتي ترغبُ في الحفاظ على مصالحها في هذا السودان.

وهذا الوضعُ جعلَ قادة المجلس يشعرون بالقوةِ في مواجهة الحراك الجماهيري، ورفع من معنوياتهم، فقد تمّ تشجيعهم على التمسّك بالسلطة، وعدم تسليمها للمعارضة المدنية، وأدى الشعور بالقوة، لدى قادة المجلس العسكري -خصوصًا بعد مشاركة رئيسهم الفريق أول عبد الفتاح البرهان في القمتين العربية والإسلامية- إلى الشعور العميق بالثقةِ، وبقدرتهم على الاستمرار في الحكم، وتجاوز مطالب الثوار، وإذا كان للثوار عنوانٌ، وهو ساحة الاعتصام، فلا بدّ من التخلّص من تجمّعهم فيه بالقوة، وبدء مرحلة جديدة من حُكم البشير بوجوهٍ جديدة، خصوصًا بعد أن التفَّ حولهم من الشارع، فريقٌ من الإسلاميين؛ جماعة حزب المؤتمر الوطني (حزب الرئيس السابق المخلوع عمر البشير)، الّذين شعروا أنّهم خسروا كل شيء، وأصبحوا مكروهين من الشارع السوداني.

وعليه، وقعتْ المجزرة بقتلِ العشرات (قرابة 100 قتيل)، بحسبِ بعض التقارير الصادرة عن لجنة الأطباء المركزية، وأكثر من 360 جريح، وهكذا، تمّ تشتيت الحشد المُعتصم بالساحةِ، في ما اعتبره المجلس انتصارًا مرعبًا لخصومه، لكنّ ذلك، ليس سوى خداع للذات، حيث أنّ المتابع يرى أنّ الثورة انتشرت، وشملت السودان كلّه؛ شوارع وساحات ومؤسسات، وهذا يعني سقوط خيار التفاوض، والإبقاء على خيارِ المُجابهة. المجزرة أغلقتْ باب التفاوض ولو مؤقتًا، حيث الدماء ما زالت ساخنة، لا خيار أمام الشعب السوداني، سوى إسقاط الحكم العسكري مرّةً ثانية. لكن هل تنجحُ ثورة السودانيين، بإزاحة حكم مستبد آخر؟

أظنُّ ذلك؛ ستنجحُ الثورة، إذا استمرتْ القوى التي قامت بها، في هدفها نحو التغيير الجذري للواقع الفاسد، لكنّ ذلك يشترطُ بقاء قوى الثورة مُتراصةً نحو هذا الهدف، كون المجلس العسكري، سيسعى جاهدًا إلى تفرقة هذه القوى واستقطاب بعضها، لتشاركه الحكم نسبيًا، وستساعده في بلوغ غاياته بعضُ الدول الإقليمية الداعمة للمجلس. إذا نجحَ في ذلك، واستقطب بعض قوى الثورة الانتهازية، فسيتخذها غطاءً لديكتاتوريته، هذه هي الخشية الوحيدة، أن يكون بين أحزاب المعارضة، من تراوده نفسه بقطفِ الثمار غير الناضجة، بخيانة رفاقه، فالقوى الانتهازية كانت موجودة في كل الثورات، وخيانتها للمنطلقات، هي الّتي أجهضتها. لكن ماذا عن الغرب، هل سيسمحُ ومن خلفه الأمم المتحدة، باستمرار هذا الوضع؟

بصرفِ النظرِ عن مواقف الغرب المُنافقة والمدافعة عن حقوق الإنسان والديمقراطية في العلن، إلّا أنّ هناك قرارًا دوليًا غربيًا، أن تبقى أوطان العرب تحت حكم الاستبداد والديكتاتوريات، والديمقراطية الوحيدة المسموح لها أن تتباهى وتزدهر في المشرق الغربي وشماليّ أفريقيا،  هي ديمقراطية الصهاينة في فلسطين المحتلّة، فالغرب يحتجُّ أولًا، يستنكر ثانيًا، لكن إذا كان ذلك الديكتاتور -كما يقول الأميركان- ديكتاتورهم، كما قالوا عن بونشيه تشيلي، فهو ديكتاتور سوبر ديمقراطي: "إنه رجلنا، حتّى لو حملَ منشارًا يقطعُ به لحوم البشر".

المجلسُ العسكري السوداني، اختار حلفاءه، وهؤلاء الحلفاء هم الحلفاء الأبرز والأهم للولايات المتحدة بعد إسرائيل، لذلك، يجدُ نفسهُ محميًا من الملاحقة القضائية الدولية، وطالما الأمر كذلك، سيستمرُ المجلس -وخصوصًا فرقة الجنجويد سيئة السمعة- في أفعالها المُعادية لتطلعاتِ الشعب السوداني، في قمعها، سيُكرّرون نماذجَ عربية أخرى سبقتهم، لكن ذلك العُنف، سيقودُ إلى مرحلة من الفوضى العارمة، خاصةً في بلدٍ مُتعدد القوميات والإثنيات، قد يؤدي إلى تمزّق السودان إلى أشلاءٍ متناثرة، ما يعني دخول البلاد لمرحلة من مراحل البلقنة أو اللبننة أو الأفغنة؛ أي سيطرة مجموعات مسلحة على أجزائه الإثنية، والذهاب به نحو التقسيم، وذلك لن يكون في مصلحة أحد من جيرانه، ولن يكون في مصلحة أمن البحر الأحمر، ذاك الشريان الحيوي الدولي، الذي إن سيطرتْ عليه قوى إرهابية عالمية، كداعش أو القاعدة، يعني شلّ حركة الملاحة الدولية، بما تحملهُ من نفطٍ وغازٍ، وغيرها.

التفاؤل الّذي كان بداية الثورة السودانية، بحدوث تجربة مُختلفة عن تجارب ربيع العرب، جاء مُخيبًا للآمالِ، التفاؤل كان سابقًا لأوانه، هذه هي النتيجة الظاهرة، حتى الآن. كثيرون اعتقدوا، أنّ هناك جنرالًا سودانيًا آخر، كالجنرال عبد الرحمن سوار ذهب (1934-2018)، سيقودُ السّودان نحو حكمٍ مدني ديمقراطي، لكن لا، ذلك لم يحدث. المُماطلة في تسليم الحكم، والمجازر الّتي ارتُكبتْ، دليلٌ على أنّ ذلك الجنرال لم يولد بعد، كون الموجود، جنرالات على نمط البشير. لذلك، السودان قادم على المجهول، وقد يكون داميًا.


* د. علاء أبو عامر أكاديمي وباحث ودبلوماسي وروائي فلسطيني، حاصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، من معهد الاستشراق-أكاديمية العلوم الروسية عام 1992

التعليقات