04/10/2019 - 16:09

عن الحاجة إلى ثقافة مقاومة

لا جدوى من مواصلة إطلاق خطاب مبتور ضد الشرطة الإسرائيلية، بل الجدوى، أولًا، في إطلاق خطاب سياسي يُحمّل مجمل النظام الصهيوني مسؤوليّة ما آلت إليه سياسته الاستعمارية، وثانيًا عبر إعادة تنظيم المجتمع، بمؤسساته المهنية.

عن الحاجة إلى ثقافة مقاومة

اعتدنا على مفهوم المقاومة باعتباره ذلك الشكل المسلح ضد الاستعمار والاحتلال فقط. ولا شك أن من حمل السلاح في مواجهة الاستعمار أو ضد الظلم في أي مكان ومارسه وهو مسلح بقيم أخلاقية إنسانية، وفي مقدمتها الحرية، احتل مكانة خاصة في وجدان شعبه، والشعوب قاطبة.

ولكن للمقاومة مفهوما أشمل وأوسع من مجرد حمل السلاح، وقيل إنّ من يحمل السلاح بدون ثقافة، مثل قاطع طريق. وتجدر الإشارة إلى أن هناك شعوبا أسقطت أنظمة فاسدة ومستبدة دون اللجوء إلى السلاح، مجسدة وعيًا إنسانيًا راقيًا.

إذًا، العنف المسلح ليس إلّا وسيلة يلجأ إليها المظلوم تحت ضغط الظالم، وبعد أن يستنفد كل الطرق السلمية الضاغطة بأشكالها المتنوعة؛ العرائض، الكتابة، المؤتمرات، المهرجانات الفنية والثقافية، الاعتصامات، المظاهرات، إغلاق الطرق وغيرها. أي أنه قد لا يحتاجها أبدًا، ويقتصر نضاله على المقاومة الشعبية المدنية.

في خضم عملية المقاومة التي تخوضها الشعوب، عبر حركاتها الوطنية أو أحزابها الديمقراطية التحررية، تتبلور ثقافة مقاومة متنوعة وواسعة، قوامها العطاء والتماسك والتضامن الداخلي ويرفدها الفكر والأدب والفن، وتتحول إلى سلوك يومي يحمله الأفراد.

تكون البداية، في العادة، صعبة، أي مهمة إقناع الناس بالتخلي عن سكينتهم وسلبيتهم والتحرر من الخوف والخروج على المستعمر أو الحاكم المستبد. وتتوكل، عادةً، طليعة من الناس (مثقفون ثوريون في الغالب قرأوا تاريخ شعبهم، وتشرّبوا أدب المقاومة والتحرّر)، هذه المهمّة الصعبة والخطيرة، أي تجييش الناس للخروج على الظالم.

ومع تقدّم الزّمن وتوسّع القواعد الشعبية، ينخرط المزيد من الكتاب والشعراء والأكاديميين والمثقفين في حركات التحرّر والمقاومة، وذلك عبر الإنتاج الفكري والثقافي، الذي يؤطر عملية المقاومة كثقافة، وكفعل أخلاقي يهدف إلى تحرير الإنسان واستعادة كرامته. وهذا عادة ما يساهم في خلق التوازن بين المقاومة كفعل ميداني، والمقاومة كفعل أخلاقي إنساني.

وبنفس القدر من الأهمية، عادةً، أو من المفترض أن يساهم المثقفون (أو ثقافة المقاومة ككلّ) في لجم الانحرافات السياسية، وضبط البوصلة الوطنية. ذلك أن الضغوط والحملات الوحشية التي تتعرض لها حركات المقاومة أو قيادات الحراكات الشعبية العارمة، قد تؤدي إلى أمرين سلبيين، إما إلى الاستسلام وعقد الصفقات المهينة، والتي تؤدي إلى تكريس الظلم، أو إلى اللجوء إلى العنف الأعمى، والمغامرات المدمرة. في هذه الحالة الكارثية، يصبح للمثقف الناقد الملتزم بالمقاومة، دور محوري، بل قد يكون وجوديا، بالنسبة للتماسك الوطني والأخلاقي للقيادات السياسية.

وفِي هذه الظروف، يعيد مثقفون اكتشاف عيوب الثورة ونواقصها التي تراكمت دون الانتباه إليها أثناء مسيرة الاشتباك، وينخرطون في عملية مراجعة نقدية تصوّب الطريق، في حين ينصهر مثقفون آخرون في الحالة التراجعية ويصبحون أبواقًا، ووكلاء لها في إعادة إنتاج ثقافة الهزيمة والفساد والتحلل الوطني والأخلاقي. وهذه الحالة تنطبق على مرحلة ما بعد انهيار المعسكر الشيوعي وسيادة القطب الرأسمالي الإمبريالي الغربي، والتي تركت آثارها الوخيمة على حركات التحرر بصورة عامة، والقوى الاشتراكية، حتى تلك الناقدة للنهج الستاليني المستبد.

وشكّل هذا الانهيار فرصة للعديد من القوى التقدمية والاشتراكية لإعادة النظر في برامجها وتأويلاتها الأيديولوجية وفي مفهومها للمقاومة والتحرر والحريّة، فأعادت الاعتبار لمفهوم الحرية، حرية الفرد وحمايته من سطوة الأنظمة الشمولية، بالارتباط مع مفهوم العدالة الاجتماعية والتعددية السياسية والثقافية والفكرية. في حين ارتدّت قوى أخرى بالكامل، وذابت في النظام النيوليبرالي الإمبريالي، ولكن الشعوب فاجأتها، في بعض دول الغرب وفِي العالم العربي، من خلال عودة الجماهير إلى الشارع مطالبة بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، والتحرر من سطوة الاستبداد الاقتصادي الرأسمالي، والاستبداد السياسي المتوحش، في مخاض عسير، مستمر ومتواصل، عبر موجات متتالية.

وهناك، أيضًا، فريق ثالث استمرأ الجمود والتكلس، وظل أسير دوغمائيته السماء. الحالة ذاتها تنطبق على ما حصل ويحصل بعد الموجة الأولى من الثورات العربية، التي أزمتها هي الأنظمة العربية وقوى الثورة المضادة، العلمانية الفاشية والدينية التكفيرية الفاشية.

باختصار، في ظل هذا الانحطاط الأخلاقي المريع، الذي يجسده النظام العالمي الراهن، تجري إعادة إنتاج ثقافة مقاومة ببعدٍ أخلاقي مختلف، تجمع بين حرية الفرد وبين حرية وتحرر المجتمع، والسعي إلى تحقيق العدالة وإعادة توزيع الثروة. هناك حركات وحراكات، بعضها اضمحلّ، وبعضٌ آخر تعثّر، وبعض آخر مستمر في محاولته لإعادة بناء قوى مقاومة، سياسية واجتماعية تحررية، تسعى إلى نظام عالمي عادل.

ويشكل زعيم التيار اليساري في الحزب الديمقراطي الأميركي، بيرني ساندرز، وزعيم حزب العمال البريطاني، جيرمي كوربين، أبرز الرموز العالمية في الدفاع عن اشتراكية ديمقراطية إنسانية، وفِي نقدها لسياسات إسرائيل باعتبارها نتاج وامتداد الرأسمالية التوسعية والإمبريالية الغربية، المسؤولة عن البطالة والفقر واتساع الفجوات الاجتماعية داخل بلدانها، والحروب الإمبريالية في الخارج.

يتعرض هذان القياديان إلى حملات تحريض وتشويه لا مثيل لها، سواء من القوى المحافظة، أو من إعلام الشركات الضخمة الرأسمالية، أو من اللوبيات الصهيونية وهي تُثقل عليهما، وتزيد أعباءً ضخمة على نشاطهما.

مع ذلك أظهرا صمودًا لافتًا ومبدئية راسخة، في مواجهة بنية النظام الرأسمالي القائم، وإن كان ساندرز أقّل جذرية في مناهضته لهذا النيوليبرالي المتوحش، ويواصلان، ومعهما أنصارهما، من مفكرين ومثقفين في ترسيخ خطاب الحرية والتحرر، وخطاب الاشتراكية، خطاب العدالة الاجتماعية، المناهض للحروب وللمساندة العمياء للمحتل الإسرائيلي.

لم يأت صعودهما من فراغ، أو بالصدفة، بل نتاج عدة عوامل، أهمها مواصلة التمسك، وتطوير ثقافة مقاومة وخطاب مساواتي تحرري، دون التراجع في مواجهة إرث طويل وضخم من الشيطنة لقيمة الاشتراكية. وها هي تعود اليوم، وتنتشر بين الجيل الشاب، وتكتسب شرعية شعبية.

لو عدنا إلى ساحتنا الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وعقدنا مقارنة سريعة مع قيادات القائمة المشتركة، مع بنيتها الذهنية وسلوكها السياسي والفردي، سنصاب مرة أخرى بالكآبة والإحباط عندما نكتشف حجم العقم والعجز وفقدان العمود الفقري العقائدي والأخلاقي، وحتى العجز عن اجتراح تكتيكات معقولة. فقيادة المشتركة أو مندوبوها في الكنيست، خاصة الثنائي المعروف، ترتعب أمام حملات التحريض، وتصوم طوعا عن واجب تحدي جذر التمييز والظلم الواقع علينا: نظام الفصل العنصري أو بنية الدولة اليهودية الكولونيالية.

لم يعد هؤلاء المندوبون يتجرّأون على ذكر عبارة دولة "كل مواطنيها" تفاديا لغضب العنصريين، وطمعا بالحصول على الفتات. ورغبة بالالتزام بـ"معارك" ناعمة.

السطر الأخير هو أنّنا نحتاج، في ظل تراجع وانحلال الخطاب السياسي الوطني، وفِي ظل غياب حراك شعبي واسع ومستمر، إلى تجنّد المثقفين والأكاديميين والكتّاب، من الذين يحملون رؤية نقدية لهذه الحالة، في إبداء الجرأة، لإعادة صياغة خطاب وطني وثقافة وطنية تحررية شاملة، تخص مجتمعنا وعلاقتنا مع المجتمع الإسرائيلي، مناهضة للصهيونية، ونظامها العنصري السافر، والكولونيالي.

ثقافة مقاومة، تتصدي للكذب والتضليل والانحراف السياسي، وتتصدى للعنف والإجرام الداخلي وللعدوان على المرأة، وإعادة جذور هذا العنف إلى نظام الفصل العنصري والإحلالي.

نعم، إنّ مواجهة الإجرام الداخلي هي جزء من ثقافة المقاومة، المدنية السلمية الحضارية ضد النظام السياسي الاستعماري، وهي، أيضًا، جزء من مقاومة أو مواجهة عجزنا وقصورنا وتأخرنا.

لا جدوى من مواصلة إطلاق خطاب مبتور ضد الشرطة الإسرائيلية، بل الجدوى، أولًا، في إطلاق خطاب سياسي يُحمّل مجمل النظام الصهيوني مسؤوليّة ما آلت إليه سياسته الاستعمارية؛ وثانيًا عبر إعادة تنظيم المجتمع، بمؤسساته المهنية، وأهمها في هذه الأيام بناء اللجان الشعبية القوية القادرة في كل قرية ومدينة.

التعليقات