01/04/2020 - 10:16

"المرض الروحي" إسرائيليا

بالتزامن مع إحياء إسرائيل هذا العام ذكرى مرور نصف قرن على وفاة ثلاثة من رعيل الأدباء الذي ساهم في إقامة الدولة، وترويج روايتها التاريخية الصهيونية، شموئيل عجنون ونتان ألترمان وليئه غولدبرغ، شحذ أنصار تيار الصهيونية الجديدة أسلحتهم..

بالتزامن مع إحياء إسرائيل هذا العام ذكرى مرور نصف قرن على وفاة ثلاثة من رعيل الأدباء الذي ساهم في إقامة الدولة، وترويج روايتها التاريخية الصهيونية، شموئيل عجنون ونتان ألترمان وليئه غولدبرغ، شحذ أنصار تيار الصهيونية الجديدة أسلحتهم، كي يساجلوا بأن الفترة التي انقضت منذ وفاتهم كانت بمثابة مرحلة "يُتم ثقافيّ"، لم تعرف خلالها دولة الاحتلال إنتاجًا أدبيًّا وقفت في صلبه، من ألفه إلى يائه، غاية الإخلاص للمشروع الصهيوني الأصلي، سيما لمبدئه الثابت فيما يتعلق بتجاهل وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه القومية.

وبزّ جميع أنصار هذا التيّار الذي أفلح، في السنوات الأخيرة، في ترسيخ قبضته على المجتمع الإسرائيلي وسلطاته وخطابه السياسي، شاعر وباحث متخصّص في ترجمة ودراسة الشاعر الإنجليزي، روديارد كبلينغ الذي وضع نفسه في خدمة الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية وصاحب مقاربة "عبء الرجل الأبيض" و"الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب ولن يلتقيا"، هو تسور إيرليخ، إذ كتب أن وفاة الأدباء المذكورين أدّت إلى تغيير في المناخ العام، أسفر عنه ما وصفه بأنه "هشاشة روحية"، وإلى بدء عصر جليديّ اغترابيّ في الثقافة الإسرائيلية استمر نصف قرن، وقد نكون نشهد الآن نهايته.

وبين ما استذكره إيرليخ أن وفاة الأدباء الثلاثة عام 1970 جاءت بعد ثلاثة أعوام من حرب حزيران/ يونيو 1967 التي مثّلت إشارة البداية أو بمنزلة فاتحةٍ نحو مزيد من توحّش المشروع الكولونيالي الصهيوني في فلسطين.

راجت في تلك الفترة بين أوساط الأدباء والفنانين الإسرائيليين دعوتان/ اتجاهان واضحان: الانضمام إلى حركة "أرض إسرائيل الكاملة" التي كانت تحوي نتان ألترمان وأوري تسفي غرينبرغ، ويؤيدهما يهودا بورلا وشموئيل عجنون؛ الخلود إلى الصمت، جرياً وراء المثل الانهزامي "عندما تزمجر المدافع تُبكم الموز". وهذا الصمت لفّ بالأساس نخبة قليلة جاهرت بمناهضتها الاحتلال والضم، ووقف في طليعتها عاموس عوز الذي كان شاباً آنذاك، واندرج في عدادها يزهار سميلانسكي (س. يزهار)، لكن صوتها سرعان ما صار إلى خفوت.

وتأثرت تلك النخبة، في ذلك الوقت، بعدة أحداث مؤسسة لما عُرف باسم اليسار الجديد في أوروبا، وبدأت بطرح مسألة حقوق الشعب الفلسطيني. واستشعر الرعيل السابق ذكره أن مُجرّد طرح هذه المسألة من شأنه أن ينطوي على ترويج فكرة وجود شعب فلسطيني التي رفضتها الصهيونية جملة وتفصيلًا، بل ذهب بعضهم إلى درجة اعتبارها أشبه بـ"مرض روحيّ"، كما كتب ألترمان مثلاً في إحدى آخر مقالاته التي نشرها قبل وفاته في عام 1970، وقال فيه إن "إذا كنّا نقرّ بوجود شعب عربي فلسطيني، فليست المناطق المُدارة (تسمية إسرائيلية كانت رائجة في تلك الأعوام للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967) هي أراض عربية، سيظل وجودنا فيها سببًا لسفك الدماء إلى أن يحين الانسحاب الحتميّ منها، إنما أيضاً دولة إسرائيل قبل حرب الأيام الستة هي أراض عربيّة سابقة لشعب فلسطينيّ عربيّ".

واضحٌ من هذه الكلمات أن هناك سعيًا للدفع نحو تكريس خطابٍ عام يقوم على مواجهة أي نوع من المعارضة للمشروع الصهيوني. وبموازاة ذلك محاولة الاستمرار في تدجين النصّ الأدبيّ بما يتماشى مع النزوات الصهيونية. وهو سعي حدّده ألترمان أيضاً، بقوله: "علينا أن نمنع تحوّل مرض الاعتراف بوهم وجود الشعب الفلسطينيّ الذي ألمّ بأوساط روحية معينة إلى مرض روحيّ يصيب الشعب اليهوديّ برمته"!

سيكون من المثير متابعة ما سيسفر عنه هذا النقاش المعنيّ بالعودة إلى الماضي، لا لمراجعته، وإنمّا للاتجاه نحو المستقبل الذي يجري الإعداد له. ولكن من الواضح منذ الآن أن هذا التغني بمرحلة تاريخية سابقة هو أشبه بتحفيز لمواجهة تمتد إلى الزمان الراهن، وذلك على خلفية مقارباتٍ نقديةٍ تواترت منذ عدة عقود، وقامت بدورها في قدح زناد التفكير وتجديد السؤال، على الرغم من افتقارها إلى قدرة لافتة على أن تجعل الأقوال تقود إلى أفعال.

التعليقات