13/12/2020 - 18:59

نحو رؤية للبناء الوطني بتكامل مع التحرر الوطني

فهل نستطيع التوحد أخيرا؟ وهل يمكن إيجاد صيغة لذلك بحيث تكون "م ت ف" هي المظلة العامة التي تحمل البرنامج الموحد فيما تكون السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة والقطاع ولجنة المتابعة في الداخل.

نحو رؤية للبناء الوطني بتكامل مع التحرر الوطني

يقتصر الجدل الفلسطيني حول السلطة الوطنية الفلسطينية حول الجانب السياسي المجرد، وبين محورين، أحدهما يجرّمها وينعتها بأشنع الأوصاف داعيا إلى حلّها و/أو التبرؤ منها لأنها تنسّق مع الاحتلال أمنيًا؛ وثانيهما يقف على النقيض مدافعا ومنافحا عنها. ويقاطع كل محور الآخر ويطلق ضده سيولا من البيانات والتصريحات المعمقة للتشرذم والانقسام، والمبررة للدخول في محاور عربية ودولية من البعض ضد البعض الآخر.

تغيب عن هذا الجدل بشكل جزئي أو كلّي المسألة المتعلقة بجدوى مبنى السلطة الإداري - الخدماتي لذلك الجزء من الشعب الفلسطيني الرابض على قسم من أرض وطنه، وجدواها الدولية، سيّما بعد أن تحوّلت السلطة قانونيا - وإن لم يكن على أرض الواقع - إلى دولة معترف بها دوليا من 141 دولة في العالم هي غالبية دول العالم بعد عام 2012.

في مبناها، تجدر الإشارة إلى مسائل يعتبرها من يعيشون في كنف السلطة بديهيات، وهي أن السلطة تتضمن مجلسا تشريعيا وجهاز قضاء وسلطة تنفيذية تضم رئاسة ووزارات وسلطات وأجهزة مدنية وأمنية؛ فوزارة التربية والتعليم مثلًا تشرف على مدارس يلتحق بها مئات آلاف الطلبة، ووزارة التعليم العالي تتابع جامعات ينتسب إليها عشرات آلاف الطلبة، ووزارة الصحة تتابع كل الشؤون الصحية وتدير حاليا مشكلة كورونا المستعصية، ووزارة الأشغال العامة تشق الطرق وتنشئ المباني العامة، ووزارة الخارجية تدير العلاقات مع 141 دولة اعترفت بدولة فلسطين منذ عام 2012 العام الذي اعترف به بفلسطين كدولة عضو مراقب في الأمم المتحدة، ووزارة الحكم المحلي تتابع شؤون المجالس البلدية والمحلية، ووزارة الثقافة تدير مراكز ثقافية وتطور متاحف ومكتبات وأرشيفًا فلسطينيًا مركزيًا، ووزارة السياحة تتابع المواقع التراثية والأثرية في فلسطين وتنظم السياحة إليها وتواجه محاولات الطمس الإسرائيلية للتراث الحضاري والاثري الفلسطيني، ووزارة الشؤون الاجتماعية ترعى العائلات المعوزة وتقدم لها المساعدات، ووزارة العمل تتابع قضايا العمل والعمال، ووزارة الاقتصاد تتولى شؤون اقتصاد فلسطين وعلاقاته الخارجية، وكذلك سلطات البيئة والنقد والمياه وجهاز الاحصاء المركزي وغيرها من السلطات والأجهزة المدنية، ووزارة الداخلية تتابع الشرطة والأجهزة الأمنية، والشؤون المدنية تتابع سجلات النفوس وإصدار الهويات وجوازات السفر، وهكذا. أي وزارات وأجهزة تتابع كل جوانب الحياة لذلك الجزء من الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة بما في ذلك مبلغ المليار ونصف دولار التي تحول من رام الله إلى غزة سنويا.

لهذه السلطة توضع خطط نوعية للحكومة الفلسطينية ثلاثية وخماسية وسنوية، وكذلك خطط لكل وزارة تتابع وتنفذ وتقيم. هي سلطة تعمل، إذن، على مستوى السياسات لا على مستوى السياسة.

يناقش المثقفون السلطة وكأنها تلك السلطة التنفيذية العليا التي تعمل على المستوى السياسي والأمني فحسب، ويتّهمونها بالسمسرة مع إسرائيل بهذا الاتجاه. ولكن هذه ليست السلطة، بل جزء منها فقط هو المستوى السياسي من المستوى التنفيذي منها والشامل للرئاسة ودائرة شؤون المفاوضات والأجهزة الأمنية. ما عدا هذا الجزء السياسي هنالك الجزء الذي يصنع السياسات وليس مجرّد السياسة، وهو الجزء الأهم لأنه يقوم على خدمة قضايا الشعب مصيبًا في بعض الجوانب ومخطئا في أخرى كما تشير التقييمات التي تصدر عن تنفيذ الحكومة والوزارات لخططها. يناقش المثقفون، إذن، السياسة ويتجادلون حولها، ولكنهم يلتفتون بشكل أقل للسياسات التي تتطلب بحثا جادا يبدأ بمراجعة خطط السلطة وما ينفذ منها والفرص والعقبات وجوانب القوة وجوانب الضعف فيها، واقتراح توصيات وسياسات بديلة من أجل تعزيز البناء الوطني الفلسطيني.

في خضم هذا الجدل الذي يدور في الأطر الفوقية للسياسة والتي لا تلامس بالتالي قضايا الشعب وصموده ومستلزمات بقائه في أرض وطنه، هنالك عدد من الأمور المنفصلة عن واقع الناس التي يطرحها بعض المثقفين المشغولين بالسياسة وحسب، و يلفت الانتباه منها اقتراح حل السلطة، فكيف تحلها وهي تقوم بما تقوم به على الشاكلة الموصوفة أعلاه؟ ومن سيقوم بما تقوم به وزاراتها إذا ما حلت؟ وما الذي سيتم عمله مع الاعتراف الدولي بدولة فلسطين من قبل 141 دولة في العالم بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين عام 2012 ما أدى إلى تحول السلطة الفلسطينية إلى دولة من الناحية القانونية؟ والأكثر إثارة للمفارقة هو الاقتراح بتحويل صلاحيات السلطة بعد حلها إلى البلديات والمجالس المحلية، وهذا غير ممكن، إذ أن السلطة تقوم بمهمات مركزية على مستوى كل المحافظات سيؤدي تحويلها إلى البلديات إلى تقسيمها بطريقة ستفتّت الوحدة وتفتح الباب أمام تطبيق مشروع الإمارات الفلسطينية المنفصلة الذي طرحه مردخاي كيدار وتبنّاه بعض أوساط اليمين الصهيوني. وما عدا ذلك، طرحت فكرة التبرؤ من السلطة فكيف يتبرأ المرء من 150 ألف موظف هم قوام السلطة وأجهزتها المختلفة؟ لربما يجدر، إذن، تحري الدقة والتمييز بين العداء للسلطة السياسية وبين كل السلطة التي يعمل فيها أشقاء وشقيقات من الشعب الفلسطيني يسكنون نفس البيوت وينتمون لنفس العائلات، أو قبعوا في سجون وزنازين الاحتلال معا، أو قاتلوا وقاوموا في الانتفاضتين الأولى والثانية معا. هي أيضا السلطة التي شرعنتها كل الفصائل بعد مشاركتها جميعًا (ما عدا حركة "الجهاد الإسلامي") في انتخابات عام 2005 للمجلس التشريعي وانتخابات عام 2006 للرئاسة.

يجانب الصواب، إذن، طرح حل السلطة وتحويل صلاحياتها للبلديات، وفي المقابل هنالك الكثير مما يحتاج إلى إعمال جهد المثقفين والمفكرين لمعالجته ومنه دراسة خطط الوزارات المختلفة وإيجابيات وثغرات تنفيذها وتقييمها وإغنائها وطرح آفاق لرفع مستوى فلسطين في كافة المجالات، ومنه أيضا طرح مسألة وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، ومراجعة اتّفاق باريس الاقتصادي لتوفير بدائل تحرر فلسطين من الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي، وتجديد السلطة من خلال الانتخابات الدورية وتعزيز مأسستها والمشاركة فيها، وهكذا مع إيلاء جهد لتطوير السياسات التي تبني فلسطين وتعزز الصمود والاعتماد على الذات بديلا لمجرد الاكتفاء بالمماحكات والسجال السياسي على المستوى الفوقي وحسب.

بلغة أخرى، ربّما الأفضل التركيز على سياسات لبناء فلسطين من أسفل بدلا من الاكتفاء بجدل سياسي يعيد فيه كل كاتب تكرار مواقفه مرّة ومرّات بحيث بتنا نعرف ما سيقوله كل كاتب بمجرد قراءة العنوان.

النقاش الأساسي للشعب الفلسطيني

لعل المسألة الأساسية الناجمة عن العرض السابق والتي بحاجة إلى الجسر جديا بين التوتر القائم بين مكونيها هي مسألة البناء الوطني وعلاقته بالتحرر الوطني، أي كيف يعزز البناء الوطني الثبات على الأرض بما يمكن من الاستمرار في الكفاح الوطني. وبالمناسبة، هذه مسألة لا تخص ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني المقيم في الضفة وغزة فقط، بل تخص أيضا فلسطينيي الداخل، وكذلك اللاجئين والجاليات الفلسطينية في شتى أرجاء الأرض.

البناء الوطني والتحرر الوطني في الضفة وغزة

بالنسبة للضفة وغزة فإن فلسطينيّيها يتحملون العبء الأكبر في النضال الوطني الفلسطيني من أجل التحرر الوطني منذ انتقل مركز الكفاح الوطني الفلسطيني من الخارج إليهم، وفوق ذلك يدفعون الثمن الباهظ للاستيطان الاستعماري المكثّف على أراضيهم ومساكنهم، لذلك يحاولون ممارسة البناء الوطني بما يمكن من تثبيت الوجود وحفظ البقاء على أرضهم وذلك بالتعاون بين مؤسسات السلطة ووزاراتها ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والمبادرات التنموية المحلية. أي أنهم يمارسون الكفاح الوطني والبناء الوطني معا، مع كل المشكلات التي تكتنف ذلك، سيّما لجهة انكفاء الكفاح الوطني وتشرذمه ومحللته وتميزه بالعفوية وردود الأفعال بعد أن تراجعت الفصائل عن تنظيمه بشكل كبير سيما بعد انتهاء الانتفاضة الثانية عام 2005. في هذا الإطار، ربّما هنالك حاجة لإعادة النظر في وظائف السلطة الوطنية الفلسطينية بحيث تنحصر في إدارة الامور الحياتية لذلك الجزء من الشعب الفلسطيني الواقع تحت حكمها وتحويل المهمات السياسية كاملة إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي تحتاج بدورها إلى إعادة بناء وتجديد الحياة في مؤسساتها وتطوير برنامجها الوطني الجامع لكل أبناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.

فلسطينيو المنافي

في الخارج، لم يعد هنالك كفاح وطني منظم ولا بناء وطني منظم منذ انتقلت القيادة من الخارج إلى الداخل بعد توقيع اتفاق أوسلو، وأوقفت "م. ت. ف" عمل مؤسسة "صامد" لتعزيز صمود فلسطينيي الخارج كما تراجع عمل كافة مؤسسات "م. ت. ف" في خدمتهم، وهو الأمر الذي يتطلب المراجعة والعمل على معالجته.

فلسطينيو 1948

بين فلسطينيي الداخل تقوم مهمة البناء الوطني من خلال المزج بين العمل البرلماني لتحقيق بعض المطالب المتعلقة بتعزيز البقاء والصمود والعمل الشعبي الذي تقوم به لجنة المتابعة لبناء مؤسسات تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية، كما تساهم لجنة المتابعة في تنظيم مبادرات المشاركة في الكفاح الوطني الفلسطيني العام ضد المشروع الاستيطاني الاستعماري. بهذا الاتجاه ربما تحتاج مهمة البناء الوطني إلى مزيد من التركيز في الداخل سيما لجهة تطوير أوسع لمنظورها التنموي للإنسان والاقتصاد والمجتمع والثقافة بالاستناد إلى وثيقة حيفا، ووثيقتي الرؤية والدستور الديمقراطي التي ربما آن الأوان للعودة إليها وتطوير مضامينها بعد مرور حوالي عقد ونصف على صدورها، والغريب أنها تغيب عن السجال الدائر اليوم بين التيارات في الداخل، وكأنّها لم تكن، أو كأنّ النقاش يبدأ من جديد بدون الاستناد لوثائق سابقة بُذِلَ جهد جماعي جدي لتطويرها، كما ربما من المناسب وضع خطط تنفيذية دورية بالتوافق مع مناظير وخطط باقي أبناء الشعب الفلسطيني، ولربما تحتاج تجربة العمل البرلماني أيضا إلى إعادة تقييم لإنجازاتها سيما بعد تشريع قانون القومية عام 2018.

خلاصة

خلاصة ما تقدّم، لربما من الأهمية بمكان أن يبتعد الشعب الفلسطيني ومثقفوه عن التفكير في إطار ثنائي: أما/أو وكأنه ليس هنالك خيارات أخرى، أو كأن الثنائيات غير قابلة للجسر أو للعمل معا في إطار من الوحدة التي يتم تصريف التوتر بين الثنائيات وممارسة النقد اللازم والضروري داخلها وليس بالانفكاك عنها والعمل كمحاور متوازية متحاربة، ولقد سبق أن كتبت عن ذلك في "عرب 48" (الثنائيات الفلسطينية والعقلية السجالية 3 آب/أغسطس 2020)، فالصراع لا يعني إلغاء الوحدة، والعكس صحيح، والتصارع داخل الوحدة هو ما يمكن من العمل معا ضد المشروع الاستيطاني الاستعماري غير المستعد لتقديم أي تنازل حتى لأكثر "المعتدلين" من الفلسطينيين. في أيرلندا الشمالية تعاون الجيش الجمهوري الأيرلندي مع ذراعه السياسي (شين فين) رغم تحفظه على أدائه ومراهناته ومساوماته السياسية، أفلا نستطيع في فلسطين أن نبتكر صيغة مشابهة لتقاسم الأدوار بين الفاعلين السياسيين والدبلوماسيين وبين المكافحين في الميدان رغم التوتر المفهوم والطبيعي بين الطرفين؟ بمعنى آخر، هل نستطيع أن نتوحّد على بدائل متفق عليها وممكنة تقع خارج ثنائيات إمّا الدولة الواحدة أو الدولتين، وإما العودة أو تقرير المصير، وإما البناء الوطني أو التحرر الوطني كما طرحت سابقا في مقالة سابقة نشرتها وكالة معا (وكالة معا: الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال بين التحرر الوطني والبناء الوطني 10 تموز/يوليو 2020)، وذلك لنتجاوز لعنة تلك المقولة التي وسمتنا دوما وأشار لها وليد الخالدي في مقدمة أحد كتبه وهي أن "العرب لم يستطيعوا التوحد أمام عدو خارجي قط"؟ فهل نستطيع التوحد أخيرا؟ وهل يمكن إيجاد صيغة لذلك بحيث تكون "م. ت. ف" هي المظلة العامة التي تحمل البرنامج الموحد فيما تكون السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة والقطاع ولجنة المتابعة في الداخل، وأي إطار تنظيمي سيتم تفعيله بين اللاجئين الفلسطينيين في الشتات فروعا تعمل بما يتناسب مع خصوصيات كل موقع وضمن التزامها بالبرنامج العام في نفس الوقت، وتتعامل معها "م. ت. ف" بطريقة المشاركة والتفاعل لا بطرق تتراوح بين الإيعازات والأوامر، أو إدارة الظهر أو الذوبان وضياع الحدود كما هي الحالة بين "م. ت. ف" والسلطة الوطنية الفلسطينية التي لم يعد واضحا في الممارسة أيهما تقود الأخرى، علمًا بأن ما هو على الورق وفي التصريحات هو أن "م ت ف" هي الشكل الأعلى والأشمل، ولكن شتان ما بين التصريحات وبين الممارسة.

التعليقات