17/12/2020 - 15:27

لغط وإرباك: التعددية الجنسية والجندرية في حلبة السياسة

ومن تبعيات هذه الحالة أنها تعطي مؤسسات الاحتلال فرصة ذهبيّة لزجّ نفسها في النقاش الفلسطيني كونها تعتبر نفسها الحامي والراعي لنا كفلسطينيين نعيش تجارب جنسية وجندرية مختلفة (وهو ما تجلّى في نقاشات "طحينة الأرز").

لغط وإرباك: التعددية الجنسية والجندرية في حلبة السياسة

لا يكاد يمرّ أسبوع في الفترة الأخيرة لا تكون فيه قضايا التعددية الجنسية والجندريّة في حيّز النقاش المجتمعي والسياسي والإعلامي في فلسطين. لعبت عوامل كثيرة في العامين الأخيرين دورًا في جعل هذه القضايا محطّ جدال مجتمعي واسع، لا شكّ أن أبرزها الظهور الكبير لنا كأشخاص نعيش تجارب جنسية وجندرية مختلفة وفرض قضايانا في صلب النقاش المجتمعي كقضايا مركزيّة تخصّ المجتمع بأكمله.

يمكن القول بالفم الملآن إنّنا تجاوزنا في العام الأخير حالة الإنكار المجتمعي حول وجودنا وتجاربنا كأشخاص ترانس ومثليين/ات، ولم يعد بالإمكان تجاهل الحديث عن هذه القضايا أو عدم التعامل معها من مؤسسات المجتمع المختلفة بما فيها الأحزاب السياسيّة والقائمين عليها. ليس أدلّ على هذه الحالة العامّة من تصريح نائب حزب التجمع الوطني الديمقراطي، إمطانس شحادة، عندما تمّت مساءلته ومساءلة الحزب لغيابه عن التصويت حول قانون العلاج التصحيحي بقوله "لم نتوقع أن يتحول الموضوع لقضية رأي عام"، وهو ما يشير للمركزيّة التي باتت تأخذها هذه القضايا.

توالت في العامين الأخيرين سلسلة من الأحداث التي كثّفت النقاش حول هذه المواضيع وأخرجته من المساحات المألوفة له سابقًا مثل دوائر نسويّة أو شبابيّة معيّنة، منها الاجتماعي مثل طعن فتى على خلفيّة هويّته الجنسيّة/الجندريّة من قبل أخيه عام 2019، أو الجلبة الكبيرة التي أثارتها قضية طحينة الأرز هذا العام. ومنها ما يرتبط بشكل مباشر بالحقل السياسي والمشهد الحزبي الفلسطيني في دولة الاحتلال والذي كان أبرزه نقاش التصويت على قانون تجريم "العلاجات التصحيحية للمثليين".

كانت مواقف الأحزاب الفلسطينيّة من التصويت على القانون المقترح حلقة جديدة من المناكفات والجدال السياسي حامي الوطيس الذي يستمرّ حتّى يومنا هذا. ما يقترحه القانون هو تجريم "العلاجات" النفسيّة التي يقوم بها بعض المعالجين والأخصائيين لتغيير ميول المثليات والمثليين و"تصحيحها" من خلال سحب الترخيص أو دفع الغرامات أو الحبس. وتراوحت مواقف الأحزاب الفلسطينيّة التي تشكّل القائمة المشتركة ما بين التصويت مع القانون أو ضده أو عدم حضور الجلسة أصلًا.

يمكن قراءة هذا التحوّل بدخول قضايا التعددية الجنسية والجندرية النقاش العام بالإيجاب كمنجَز حققناه في السنوات الأخيرة كأشخاص ومؤسسات تعمل على التغيير السياسي والاجتماعي في هذه القضايا، إلا أن ما أركز عليه في هذا المقال هو كون ما يسيطر على النقاشات والمواقف السياسية هذه هو العنف الذي يتمظهر من خلال مواقف منافقة وغير صادقة، وعدم وجود أدنى معرفة بالمفاهيم التي يتمّ الحديث عنها، والارتباك الذي تسببه مواقف الأحزاب هذه داخليًا لها وخارجيًا للمجتمع.

ليست قراءتي هذه فرديّة أو نابعة من ملاحظة خارجيّة لهذه القضايا، بل هي قراءة جماعيّة نابعة من الانخراط في العمل اليومي في هذه القضايا مع أشخاص يعيشون توجهات جنسية وجندرية مختلفة ومؤسسات مجتمعية كثيرة ضمن عمل مؤسسة القوس للتعددية الجنسية والجندرية.

السمة الأبرز للنقاشات السياسية حول قضايا التعددية الجنسية والجندرية هي أنها لا تعبّر عن الآراء الحقيقيّة للمشتركين فيها، سواء الآراء الشخصيّة للسياسيين أو المواقف الرسميّة للأحزاب، بل تقع الغالبيّة العظمى منها (إن لم نقل جميعها) في خانة المناكفات السياسيّة الضيّقة والتناحر بين الأحزاب؛ لتغدو بجلّها ورقة سياسيّة شعبويّة للضغط وكسب الناخبين وإثبات مقولات حول الأنا والآخر تدور حول ثنائيات التخلف والتقدم والعلم والجهل والتقبل والإقصاء.

تفقد النقاشات في هذا السياق البعدين القيمي والمبدئي، ويفقد المشتركون فيها أي دور في التغيير المجتمعي الحقيقي والعميق بالارتقاء في النقاشات وتشجيع حوار مجتمعي يدفع للاحتواء والاحترام، فتنزلق فيه الحركات السياسية والقائمون عليها معززين مشهد العنف والتحريض المجتمعي، ولنا مثال بارز في ما حدث مؤخرًا بإلغاء محاضرة للنائبة عن حزب الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، عايدة توما، في قلنسوة بتحريض من مجموعات معيّنة انساقت خلفها الجهة المنظّمة.

ما أدلّ على هذا النفاق المهيمن من الفجوة الكبيرة في التصريحات المقدّمة لكلّ من الإعلام العبري والإعلام العربي، والتي شكّلت التصريحات الأخيرة للنائب عن الحركة الإسلاميّة، منصور عباس، المثال الأبرز عليه بعد انتشار مقطع فيديو يتحدّث فيه عبّاس لإحدى وسائل الإعلام الإسرائيلية عن احترام المثليين، وهو ما حاول تبريره لاحقًا كونه مجتزأ من مداخلة أطول، إلا أنه بغضّ النظر عن الجزء المقتطع من المداخلة كانت تصريحاته في العبرية مخالفة تمامًا لما يقوله في العربيّة.

التناقض في الموقف ما بين لغة وأخرى وجمهور وآخر حضر أكثر من مرة تاريخيًا لدى سياسيين وأحزاب عربيّة وإن لم يظهر بالشكل الفجّ كما حصل مع عبّاس مؤخرًا، فكان يظهر من خلال الصمت أو عدم الإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بالموضوع أو تعويمها بشكل مثير للضحك وتحويلها لقضايا المرأة.

ليست الأحزاب الفلسطينيّة في دولة الاحتلال وحدها من يستخدم قضايا التعددية الجنسية والجندرية بشكل انتهازي ومنفعيّ، بل نلاحظ هذا النمط في سياقات أخرى في فلسطين والمنطقة من خلال خطابات ديماغوجيّة وشعبويّة رخيصة تعتمد على أشباح تخريب العادات والتقاليد وتهديد الشرع وتخريب قيم الأسرة وغيرها، مثلما نشهده في المناكفات بين طرفيّ الانقسام الفلسطيني.

من المثير للأسف أيضًا أن الكثير من مواقف وتصريحات السياسيين تفتقر إلى أدنى معرفة حول الموضوع وتزخر بالمغالطات وعدم الفهم. على سبيل المثال، يخلط منصور عباس في أكثر من مقابلة ما بين "العلاج الإصلاحي" لتغيير الميول المثليّة (القانون المقترح) مع إجراءات التحوّل الجسدي التي يحتاج لها الأشخاص الترانس (العابرين/ات) على اعتبار أنها "تغيير في خلق الله".

أما في حال وجود معرفة ما حول الموضوع، فيتم توجيهها هي الأخرى لخدمة الآراء المسبقة والعنيفة المأخوذة أصلًا، وذلك مثل رفض النائب أحمد طيبي لـ"العلاجات التصحيحية" على اعتبار أنها تعذيب لأشخاص وفق الجمعيات والمؤسسات الطبية، إلا أنه في نفس الوقت "لا يؤيد ظاهرة المثلية" في موقف أقلّ ما يمكن أن يُقال عنه إنّه متناقض وعنيف. أو بتصريح سكرتير عام الجبهة منصور دهامشة مؤخرًا بأن موقف الجبهة ككلّ رافض للمثليّة الجنسية استنادًا إلى الأدب الماركسي اللينيني، وهو ما يثير الحنق والغضب في آن.

بات من الجليّ لأي متابع أن هذه القضايا والنقاش حولها يسببّان الارتباك بل والشرخ داخل الأحزاب نفسها وفي المجتمع. يمكن القول إنّ محاولة استخدام قضايانا لمصالحهم السياسية والحزبية الضيقة قلبت السحر على السحر ووضعتهم في مواقف محرجة ومأزومة عليهم أن يبرروا أنفسهم فيها. وإضافة للإحراج الشعبي، أظهرت هذه المواقف الفجوات بين القيادات داخل الحزب الواحد، كما بين القيادات والقواعد الشبابية والتي تحمل مواقف أكثر تقدّمية ومنفتحة من الأولى التقليدية والمهيمنة.

ومن تبعيات هذه الحالة أنها تعطي مؤسسات الاحتلال فرصة ذهبيّة لزجّ نفسها في النقاش الفلسطيني كونها تعتبر نفسها الحامي والراعي لنا كفلسطينيين نعيش تجارب جنسية وجندرية مختلفة (وهو ما تجلّى في نقاشات "طحينة الأرز"). نشرت الجمعية الإسرائيلية المثلية (الأغودا) على سبيل المثال ملصقا "يسائل" منصور عباس عن تصريحاته المتناقضة ما بين العربيّة والعبريّة، كما علمنا من جهات عدّة أن الجمعية نفسها تحاول فرض نفسها في وسائل إعلام عربيّة مختلفة، وهو ما نجحت به – للأسف - مثل استضافتها من راديو الناس صباح يوم الثلاثاء.

أكثر من يدفع ثمن هذه الحالة بكلّ ما فيها من عنف هم نحن كأشخاص نعيش تجارب جنسية وجندرية مختلفة، وتكون مناكفاتهم وحروبهم السياسية على حساب حيواتنا وألمنا اليومي. نواجه هذا العنف (كأفراد وحراكات سياسيّة بما فيها "القوس") من خلال الخلق المستمرّ لمساحات حوار واعٍ ومسؤول تتحدّى منظومات الاستعمار والأبويّة وإفرازاتها مثل الأحزاب، والالتزام بواجهة ومساءلة كلّ من يستغلّ قضايانا من أجل مكاسب مختلفة؛ من أجل تغيير حقيقي يحاكي آمالنا وتطلّعاتنا في مجتمعنا ووطننا.


الكاتب: المركّز الإعلامي لمؤسسة "القوس"

تصوير: ماريا زريق

التعليقات