01/01/2021 - 12:41

مقام النبي موسى وأزمة الثقة

وبالتالي، فمن الواضح أننا في حالة غير مسبوقة من الضياع على جميع المستويات، تعكس مدى تنامي مشاعر فقدان الثقة الشعبية بمجمل مؤسسات ودوائر وأفراد ومكوّنات الجسم السياسي الفلسطيني، ممثّلا بالسلطة والمنظمة والفصائل والقوى الوطنية الفلسطينية يسارية كانت أم يمينية

مقام النبي موسى وأزمة الثقة

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الأزمة أو الإشكالية التي تبعت إقامة حفل موسيقي في مقام النبي موسى، بين مستهجني الحفل وبين مستهجني رد الفعل المتعصب، وهو ما يتطلب تسليط الضوء على الظواهر التي كشفتها الأيام القليلة الماضية، والتي ساهمت في تأجيج التوتر بشكل مبالغ به، بغرض تحديد المظاهر السلبية التي عززتها هذه الواقعة، ومن أجل فضح الغايات المبطنة والمتعمدة التي تخدم مصالح هذا الطرف أو ذاك.

فعند العودة إلى بدايات القصّة، نلحظ أنّ رد الفعل المتعصب على النشاط الموسيقي ذو طبيعية انفعالية على ما أشيع حول النشاط بشكل أكثر تحديدًا، ولا سيّما في ما يخصّ الإشاعات التي قالت إنّه تجمّع لشبان يتعاطون المخدرات وغيرها من الاتهامات التي لم يتم إثبات أي منها لاحقا، بل على العكس تم دحضها كليا، وكأن الحفل الموسيقي مجرد طقس فني مرافق لنشوة تعاطي المخدرات لدى منظمي الحفل. فمن ناحية أولى يسهل استيعاب رد الفعل الشعبي الغاضب على تنظيم نشاط جماعي لتعاطي المخدرات دون أي تدخل لمنعه من قبل الجهات السلطوية المعنية بمتابعتها ومحاسبة القائمين عليه، بغض النظر عن مكان ممارسة هذه الجريمة بحق المجتمع والفئة الشابة منه تحديدًا. وهو ما يطرح سؤالًا جوهريًّا استنادا إلى ما كشفته الحقائق أو التسريبات اللاحقة، مثل من هي الجهة التي روجت لإشاعة تعاطي المخدرات؟ وما هي أهدافها من هذا الترويج؟

طبعا لا يمكن الجزم بتعمد جهة سلطوية أو سياسية أو اجتماعية نشر إشاعات وأكاذيب حول الحفل الموسيقي، بغرض استثارة مشاعر الشارع الفلسطيني الغاضبة دون إفساح أي مجال لتبيان حقيقة الوضع، فالأمر يتطلب تحقيقًا جنائيًّا دقيقًا وجدّيًا بذلك. لكن وفي ذات الوقت يصعب التسليم بعفوية نشر هذه الإشاعات بحكم سرعة انتشارها وفحواها، وكأنها فعل متعمد ومخطط له، يسعى إلى إحكام السيطرة على الشارع الفلسطيني عبر تغيّب العقل النقدي والتحليلي وترجيح كفة الأفكار المتعصبة والقطعية الناجزة، التي تشكل تربة خصبة لنمو وتضخم الأفعال الإجرامية الإقصائية التي تدّعي حماية الدين والتراث والتقاليد. حيث تحتاج هذه الممارسات إلى فرض سطوتها على المجتمع بشكل تدريجي ومتواصل، يسعى إلى حجب الحقيقية وإدانة - بل وتجريم - الباحثين عنها، لصالح تعميم خطاب ومصدر إخباري وتشريعي وتنفيذي وحيد لا بديل عنه لحماية مجتمعانا وثقافتنا وتقاليدنا كما يدّعون زورا، وكأنه يد الله على الأرض.

إذ يبدو لي، بعد مضي بضع ساعات على نشر إشاعة تعاطي المخدرات، سهولة دحضها كليا أو جزئيا عبر نشر مقاطع الفيديو المسجلة للحفل. الأمر الذي انعكس في تغيّر طبيعة التعاطي الشعبي مع الحدث بصورة نسبية لكنّها مهمة، ليتم التدقيق في العديد من المعلومات حول طبيعة مكان الاحتفال وتاريخيّة المكان من ناحية ثقافية واجتماعية، كما تم تسليط الضوء على دور السلطة الإداري والتشريعي في منح منظمي الاحتفال رخصة تنظيمه، وفي مدى تناقض التصريح مع قواعد التباعد الاجتماعي المقرة من قبل السلطة ذاتها، وكذلك في ما يخص تضارب مسؤوليات دوائر السلطة بل عشوائية وتناقض المسؤوليات والقرارات السلطوية. وصولا إلى دور الجهاز القضائي في متابعة القضية وكيفية تعاطيه معها واستسهال الحجز على حرية فتاة فلسطينية دون أي اعتبار لقواعد العمل القضائي البسيطة، مثل حيثيات الاتهام وطبيعة الأدلة الحسيّة التي تثبت أو ترجّح حدوثه مخالفة قانونية واضحة، وضرب القاعدة القانونية القائلة ببراءة المتهم حتى ثبوت إدانته، والتهرب من مساءلة أصحاب القرار والنافذين في منع أو إقامة الحفل وما رافقه؛ على فرض وجود أي من الممارسات المشاع عنها في حينه؛ وغيرها من النقاط البسيطة قضائيا ودستوريا التي تجرم اعتقال سما عبد الهادي الفوري والمستمر، كونها لا تشكل أي خطر على سلامة المجتمع فرديا أو جماعيا، وعليه ما الذي يحول دون الاستمرار في التحقيق دون الحجز على حرية سما إن كان هناك ما يستدعي التحقيق أصلا؟ وكيف تم تجاهل مساءلة وزراء السلطة ومسؤوليها عن الموضوع، قبل المسارعة لمساءلة بل ومحاسبة سما عبر احتجازها غير المبرر قانونيا وإن ترافق مع قرار قضائي جائر يتجاهل أبسط حقوقها المكفولة دستوريا ودوليا.

وعليه، نلحظ ممّا سبق فشل السلطة في إدارة شؤون المجتمع الفلسطيني الوطنية والبسيطة، كالتعامل مع خطر انتشار كورونا، وصيانة وحماية الحقوق الدينية والحؤول دون طغيانها وتحكّمها بمجمل المجتمع، وضمان الحرية الثقافية الفردية والجماعية، فضلًا عن خضوعها الكامل للعبة التيار المتعصّب مهما بالغ في الكذب والتسويف. كما فشلت السلطة في كسب ثقة الشارع تنظيميا وقضائيا بل وإعلاميا أيضا، حيث غابت ثقة الشارع بقدرة القضاء على محاسبة المدانين بغض النظر عن موقعهم السياسي أو الاجتماعي، وهو ما برز في ظل تنامي سلطة العشائر وتقويضها للسلطة بل وفرض قرارها عليها في أكثر من حادثة، كما تجلى في عدم مساءلة مسؤولي السلطة عمّا حدث في مقام النبي موسى. وأخيرًا في غياب دور السلطة كمصدر موثوق للخبر الداخلي بالحد الأدنى، إذ لم يعد الإعلام الفلسطيني السلطوي وغير السلطوي مصدرًا موثوقا في وعي الشارع الفلسطيني، لذا لمسنا مسارعة الشارع لتصديق العديد من الإشاعات التي تبعت فض الاحتفال، بغض النظر عن هوية مطلقها والجهة التي تقف خلفها، وكأننا أمام شارع تائه لا يعلم من أين يستقي أخباره الموثوقة.

وبالتالي، فمن الواضح أننا في حالة غير مسبوقة من الضياع على جميع المستويات، تعكس مدى تنامي مشاعر فقدان الثقة الشعبية بمجمل مؤسسات ودوائر وأفراد ومكوّنات الجسم السياسي الفلسطيني، ممثّلا بالسلطة والمنظمة والفصائل والقوى الوطنية الفلسطينية يسارية كانت أم يمينية، بل وربما فقدان الثقة بمؤسسات المجتمع المدني كذلك. الأمر الذي يخلي الساحة الفلسطينية كلّيًا ويحولها إلى ساحة مفتوحة أمام تلاعبات مجمل القوى المنظمة الداخلية والخارجية على حد سواء، كالعشائر والمنظمات المتطرفة والمتعصبة والمستوطنين والمخطّطات الصهيونية، التي تنجح في تحييد الشارع أحيانا وفي تحشيده أحيانا خلف شعارات مضلّلة تدّعي حماية المجتمع وقيمه أحيانا أخرى، في حين أنها تسعى إلى أسر المجتمع وتقويض قواه النضالية والتقدمية والإنسانية، ونشر قيم استسلامية وانتهازية ورجعية تعلي من مصالح الأفراد على حساب المصلحة والأهداف الوطنية الجامعة التي تضمن الحرية والعدالة والمساواة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية لنا جميعا. وهو يدفعني للاعتقاد بأن معركتنا الوطنية الأولى اليوم هي معركة كسب ثقة الشارع، استنادا إلى خطاب وبرنامج وطني وتحرري تقدمي وإنساني يناضل من أجل التحرر الكامل سياسيا واجتماعيا وثقافيا، ذي طابع تصادمي لا يهادن قوى الاحتلال والاستغلال والرجعية تحت أي ذريعة كانت.

التعليقات