09/01/2023 - 18:03

كريم... وأربعون من عمره الكريم

لم يعرف يونس الأسير المُحرر للتو، كيف يتصرف في تلك اللحظات وهو متروك بعد أربعين عاما من الأسر في إحدى محطة الباصات. لأنه لم يتوقع كما يقول هذا الشكل من الخروج. غير أن رسالة الصهاينة من ذلك واضحة كل الوضوح،

كريم... وأربعون من عمره الكريم

(أناضول)

في سياق آخر

في كتابه "مذكرات من البيت الميت" يروي دوستويفسكي من تجربته في سجون القيصر الروسي حكاية عن بُخل السجناء المحكومين بالسجن المؤبد، فقد استغرب صاحب المذكرات من اقتتال بعض السجناء ذات مرة إلى حد تمزيق بعضهم البعض بالسكاكين والأدوات الحادة، وذلك من أجل كوبيك واحد من العملة الروسية القيصرية في حينه. ما الذي يعنيه كوبيك واحد من العملة بالنسبة لمحكوم بالسجن المؤبد؟ كان دوستويفسكي يتساءل، مستهجنا جنون السجناء وبخلهم.

كان جنونا فعلا، لكنه لم يكن بُخلا، كما تبيَّن لدوستويفسكي لاحقا، بل هو "الأمل"، فالمحكومون بالسجن المؤبد كانوا أكثر السجناء ادّخارا للمال وحرصا على متاعهم وحاجياتهم في مثابرة منهم للبقاء على قيد الأمل بالحرية والخلاص من السجن. ولولا ذلك، ما كان لهم احتمال محنة الحبس الطويل، تلك المحنة التي تجعل الحياة ضيقا في المكان وفائضا في الزمان.

في سياق فلسطين

غير أن الأمل في سياق سجن الأسْر السياسي مختلف، لذا، يُقال بالعامية الفلسطينية عن الأسير السياسي المحكوم بحُكم عالٍ أو بالمؤبد مدى الحياة، أسير "فرشتو على الباب". في هذا التعبير دلالتين، الأولى: سياسية، متعلقة بإمكانية الحرية والخلاص من السجن في أي لحظة، سواء بإفراج على خلفية تسوية سياسية أو عملية تبادل للأسرى كما حدث غير مرة في تاريخ صراعنا الفلسطيني مع الصهاينة والصهيونية.

أما الدلالة الثانية: فهي نفسية متصلة بالأسير ذاته، فالخلفية السياسية والوطنية التي تقف خلف حالة أسره، تمنحه شعورا بالفخر الذي يمنحه الأمل بالحرية والخلاص على المستوى النفسي. فيقال عنه إن فرشته على الباب، في إشارة إلى إمكانية مغادرته باب السجن في كل لحظة. ومع ذلك، فإن فرشة الأسير المحرر كريم يونس ظلت مفروشة منذ يوم أسره الأول على أبواب زنازين سجون الاحتلال، مدّة استمرت أربعين عاما.

لقد صادر الاحتلال أربعين عاما من عمر كريم يونس الكريم. كما لم يكتفِ الصهاينة بمصادرة سنين شبابه، بل صادروا منه أيضا شكل يوم حريته وخلاصه من زنازين سجونهم. إذ أخرجوه من باب السجن متنقّلين به من مركبة إلى أخرى، ثمّ تركوه في إحدى محطات الباصات، وقالوا له: "من هون دبِّر حالك". أخذوا كل شيء، ولم يعطوه سوى "كرت الباص".

لم يعرف يونس الأسير المُحرر للتو، كيف يتصرف في تلك اللحظات وهو متروك بعد أربعين عاما من الأسر في إحدى محطة الباصات. لأنه لم يتوقع كما يقول هذا الشكل من الخروج. غير أن رسالة الصهاينة من ذلك واضحة كل الوضوح، وهي محاولة كسر هيبة حرية كريم يونس، وتخريبها عليه وعلى أهله وكل منتظريه من أبناء شعبه، فهذا الإفراج المتعمد بلا استقبال خِلسة قبل بزوغ الفجر، يُشبه دفن الشهداء بلا تشييع خِلسه تحت جُنح الظلام. وهذه سياسة تتبعها دولة الاحتلال في نزوع منها لنزع الصفة الطقوسية - الشعبية عن الشهادة أو الأسر في مسيرة نضال شعبنا ضد الاحتلال ووجوده.

أربعون سنة قضاها كريم يونس والزمن يصرف ذاته عليه. كان ذلك منذ يوم السادس من كانون الثاني/ يناير 1983، حينما داهمت قوات الاحتلال جامعة بن غوريون في بئر السبع، معتقلة كريم ومقتلعةً إياه من مقعده الدراسي في الجامعة وعمره لم يتجاوز الـ26 عاما بعد، متهمة إياه بالانتماء لحركة فتح التي كانت ملاحَقة ومحظورة في حينه. إضافة لاتهامه بحيازة السلاح، والضلوع في قتل جندي إسرائيلي، فحُكم على كريم يونس بالإعدام شنقا في البداية، ثمّ خُفِّف الحكم إلى المؤبد المفتوح، إلى أن حددت سلطات الاحتلال المؤبد بالسجن 40 سنة.

هذه الأربعون الفعلية بحق يونس في بطن الحوت، لها حمولة رمزية متصلة بأربعينيات أخرى، مثل أربعينية الولادة التي تقتضي طقس التطهر والطهور، وأربعينية الموت التي تقتضي حدًّا للحزن وللحِداد، كما كانت الأربعين هي سِنّ بَعث النبوة وبِعثتها.

نحن أبناء الجيل الثالث على النكبة في الداخل الفلسطيني، حيث وُلد بعضنا قُبيل، ومعظمنا بعد اعتقال كريم يونس وأسره. لم نكن مع بدء تشكّل وعينا السياسي والوطني في أواخر التسعينيات ومطلع القرن الحالي نعرف الكثير عن كريم يونس والحركة الأسيرة عموما. كان الاسم الذي يرن دائما مُحيلا إيانا للأسر والأسرى في حينه هو سمير قنطار كعميد للأسرى، حيث قضى قنطار في سجون الاحتلال ما يقارب الثلاثين عاما، ما بين 1979 و2008، إذ تم الإفراج عنه في صفقة تبادل بين إسرائيل وحزب الله، ومن ثم اغتالته إسرائيل في كانون الأول/ ديسمبر 2015 في سورية.

كان الأسير وما زال إلى حدٍ ما في سجون الاحتلال، يجري ترميزه وفق قسوة العقوبة وطول مدتها الزمنية، أكثر من فعل الأسير ذاته الذي أدى به إلى الاعتقال والأسر، فترميز قنطار كان بحكم صغر سِنه عندما تم أسره (17 عاما)، ومن ثم سنوات أسره الطويلة في زنازين سجون الاحتلال. وكذلك حال كريم يونس، فكثيرون منّا، الذين لم يكونوا يعرفون تفاصيل حِكاية أسره وطبيعة التُهم التي وُجهت إليه. غير أن اسم كريم يونس كان كلما توالدت السنين عليه في الأسر، توالَد اسمه أكثر في مسامعنا.

جرت مياهٌ كثيرة على كريم يونس وأسره، ولا يعرفها سوى كريم ومن كان معه من رفاق الأسر طوال هذه الكتلة الزمنية خلف قضبان الزنازين، فقد رحل والده فضل يونس في كانون الثاني/ يناير 2007، أي في الذكرى الثلاثين لأسر ابنه كريم. والأقسى كان في رحيل أم كريم الحاجة صبيحة يونس عن عمر ناهز الـ88 عاما، العام الماضي، أي بعد 39 سنة على أسر ابنها، وقبل شهور معدودة من الإفراج عنه.

لقد دخل كريم السجن في زمن، وخرج منه في زمنٍ آخر كليا. كم كان ثقيلا ذلك المشهد الذي ترجّل فيه الأسير الخارج من سجنه للتو من السيارة في بلدته عارة، بينما معظم مستقبليه شباب وُلد معظمهم بعد أسره. في الأخير نسأل الله لكريم يونس الصحة والعافية مهنئين بخروجه سالما، بعد طوال هذه السنين. ولوليد قعدان الصحة والسلامة، والحرية له قريبا بين أحبابه، ولجميع أسرى شعبنا الفلسطيني في سجون الاحتلال المجد الحرية والخلاص على طريق كريم يونس ومن سبقوه.

التعليقات