من ذاكرة الفرز الانتخابي – الاجتماعي: كفر ياسيف زمن الحكم العسكري

ليس الفرز الجاري في الحملة الانتخابية الحالية للكنيست هو الأول من نوعه، تاريخيًا، في الداخل الفلسطيني، ولا هي المرة الأولى التي يجري فيها ترحيل النقاش من السياسي الأساس إلى الاجتماعي الهامشي، في محاولة لحرفنا عن تناقضنا الرئيس مع الدولة العبرية

من ذاكرة الفرز الانتخابي – الاجتماعي: كفر ياسيف زمن الحكم العسكري

ليس الفرز الجاري في الحملة الانتخابية الحالية للكنيست هو الأول من نوعه، تاريخيًا، في الداخل الفلسطيني، ولا هي المرة الأولى التي يجري فيها ترحيل النقاش من السياسي الأساس إلى الاجتماعي الهامشي، في محاولة لحرفنا عن تناقضنا الرئيس مع الدولة العبرية وسياستها تجاهنا كفلسطينيين، لصالح خلق تناقضات مجتمعية وهمية ينقسم ويصطف عليها أبناء مجتمعنا العربي في الداخل، مثل ثنائية علماني – متدين وغيرها، فالنقاش الذي تحاول جمهرة من بعض أبناء مجتمعنا تعبئة الشارع عليه، بتوظيف قضية المثليين أو "الشواذ" مثلا، قد جرى على مستوى أضيق في انتخابات لسلطة محلية عربية في ستينيات القرن الماضي، حين أثيرت قضية "تربية الخنازير"، وكان ذلك في قرية كفر ياسيف منذ زمن الحكم العسكري.

الحكم العسكري وكفر ياسيف

امتد الحكم العسكري بين السنوات 1948 - 1966، وخضع فيه العرب الباقين داخل الخط الأخضر بعد النكبة لنظام عسكري - أمني تضمن جملة من نظم الرقابة والضبط، وسياسات التحكم والتأديب، أشرف على تنفيذها مجموعة من قيادات العصابات الصهيونية المختصة بالشأن العربي أو ما يسمى بـ"مستعربين" و"الشين بيت" ("شاباك")، فضلا عن قيادات حزب "ماباي" ("العمل" لاحقًا)، بالتعاون مع شخصيات محلية من بعض وجهاء الحمائل والطوائف في القرى والبلدات العربية الباقية في حينه. وضمن سياسة فرق تسد التي اتبعها الحكم العسكري تجاه الأقلية الفلسطينية، كانت إقامة السلطات المحلية في القرى العربية واحدة من أبرز أدوات الفرز والتفتيت التي سعى إليها الصهاينة، في محاولة حثيثة لتسييس الهويات الاجتماعية والطائفية داخل المجتمع العربي في حينه.

أقيمت معظم السلطات المحلية في القرى والبلدات العربية في ظل الحكم العسكري منذ أواخر الخمسينيات، غير أن قرية كفر ياسيف في الجليل تميزت عن باقي القرى العربية في ناحيتين؛ الأولى، إنها من القرى العربية القليلة التي أقيم فيها مجلس بلدي منذ قبل قيام الدولة العبرية، إذ أقيمت السلطة فيها منذ زمن الانتداب البريطاني على البلاد في 1 كانون الأول/ ديسمبر 1925، وترأسها منذ سنة 1934 يني قسطندي يني حتى عام 1948. تعطلت السلطة المحلية إثر النكبة، ثم أعاد الإسرائيليون تفعيلها بعد ثلاث سنوات من النكبة سنة 1951.

أما الثانية، فهي في استثنائية كفر ياسيف، بأنها القرية العربية الوحيدة التي أديرت من خلال سلطة محلية منتخبة من أهل القرية، على خلاف القرى والبلدات العربية داخل أراضي عام 1948، والتي كان رؤساء السلطات المحلية فيها يجري تعيينهم من قِبَل قيادات الحكم العسكري، والمشروط بالولاء والإذعان في غالب الأحيان (1).

ترأس السلطة المحلية في كفر ياسيف يني قسطندي يني لما يقارب الثلاثة عقود منذ سنة 1934 حتى وفاته سنة 1962. وقد أقام يني تحالفًا بين القائمة الوطنية التي كان يرأسها والحزب الشيوعي، أطلق عليه في حينه اسم الجبهة الشعبية - "التحالف الوطني - الشيوعي"(2). وفاز هذا التحالف بأول انتخابات أقيمت في ظل الحكم الإسرائيلي التي أجريت يوم 26 كانون الثاني / يناير 1954. واستطاع هذا التحالف البقاء على رأس السلطة المحلية بقيادة يني إلى حين وفاته سنة 1962.

رؤية وطنية مبكّرة

لم ينظر ائتلاف التحالف الوطني - الشيوعي في كفر ياسيف إلى وجوده على أنه مجرد إدارة لسلطة محلية، بل اعتبر نفسه وعلى رأسه يني ممثلا لجميع الفلسطينيين الباقين داخل الخط الأخضر. وترجم يني ذلك عبر ممارسة سياسية تمثلت في جملة من المواقف، التي يمكننا تصنيفها على أنها وطنية مناهضة لسياسات الحكم العسكري طوال عقد خمسينيات القرن الماضي، فقد وقف تحالف الجبهة الشعبية - الوطنية في كفر ياسيف محتجًا ضدّ مصادرة الدولة الواسعة للأراضي التي يملكها العرب في القرى المجاورة للقرية، مثل قرى البعنة ودير الأسد ونحف من أجل إقامة مستعمرة كرميئيل اليهودية (3).

كما اتخذ التحالف الوطني في حينه موقفًا صلبًا بعد استشهاد خمسة شبان عرب في عام 1961، من حيفا وسخنين وأم الفحم، بعد أن أطلق عليهم الجيش الإسرائيلي النار، ثم تمثيل الجنود بجثثهم، أثناء محاولة هؤلاء الشهداء عبور الحدود إلى قطاع غزة. كما أدان التحالف كل سياسات القمع والتمييز، منها هجمات قام بها اليهود ضد عمال عرب في محطة الباصات المركزية في عكا.

لم يذعن يني وجبهته الشعبية الوطنية لإملاءات الحكم العسكري التي أذعن لها كثير من رؤساء السلطات المحلية وقتها، إذ رفض يني سنة 1958 إحياء مهرجان احتفالي أقره الحكم العسكري في البلاد بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لقيام دولة إسرائيل، وقررت الجبهة الشعبية في كفر ياسيف رفض المشاركة فيها، ورغم تراجع ائتلاف الجبهة الشعبية الوطنية عن موقفه بفعل ضغط قيادات الحكم العسكري، إلا أنه أقر المشاركة بالحدود الدنيا، دون أي مظهر من مظاهر الاحتفال.

تمرد يني على إملاءات الحكم العسكري المتعلقة بتوظيف وتعيين المعلمين، إذ اتخذ ائتلاف مجلس محلي كفر ياسيف في بداية العام الدراسي 1960/1961 قرارًا برفض تعيين المعلمين الذين أوصت وزارة التعليم بتعيينهم في المدرسة الإعدادية المحلية في القرية، وعين الائتلاف الوطني بدلا منهم معلمين آخرين من القرية مشهود لهم بمواقفهم الوطنية (4).

كانت هذه المواقف بمثابة تحد وطني للحكم العسكري وسياساته، إذا أخذنا بعين الاعتبار السياق السياسي - الاجتماعي لتلك المرحلة، في ظل سياسات الخوف والسيطرة والإرباك التي حلت بعرب الداخل بعد تحولهم إلى أقلية منسية، خصوصًا وأن سلوك رؤساء السلطات المحلية لكثير من القرى والبلدات العربية في ظل الحكم العسكري، اتصف في حينه بالمبالغة في امتداح الدولة وقيادات السلطة الحاكمة، الذي وصل حد التزلف والتملق والتدليس.

لم تنظر الجبهة الشعبية الوطنية في كفر ياسيف وقتها للسلطة المحلية بوصفها مجرد سلطة خدمات مدنية، ووساطة بين أهل القرية وحكام دولة إسرائيل، إنما جسمًا تمثيليًا للعرب في الداخل. فقد عبّر يني يني عن ذلك باعتباره أن العرب في الداخل؛ هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، واتسم نضاله العلني في تثبيت وتعزيز وضع العرب السياسي على مستوى قطري في البلاد، إذ أقام فرعين للجبهة الشعبية - الوطنية في عكا والناصرة، إضافة لفرع ثالث أقامه في قريته كفر ياسيف (5). وبالرغم من أن كفر ياسيف كانت لا تزال حتى وفاة يني من دون خدمات المرافق العامة، والبنية التحتية كالكهرباء والطرق والمخطط التنظيمي، ومع ذلك لم يكن سكان القرية في ظل قيادته مستعدين لبيع وعيهم وموقفهم الوطني في مقابل الحصول على هذه الخدمات.

تدابير الإفشال

اتبعت قيادات الحكم العسكري من مستعربين وعناصر "شاباك"، إضافة إلى زعماء حزب "ماباي"، جملةً من التدابير لإزاحة يني من منصبه ومعاقبة مؤيديه في الجبهة الشعبية - الوطنية، وذلك عبر أساليب مختلفة منها محاولة تفكيك ائتلافه بالضغط على بعض أعضائه، ثم التضييق على يني وبعض قيادات ائتلافه ومنعهم من التنقل، وسحب تصاريح السفر من كل أعضاء الجبهة الشعبية (6).

إضافةً إلى هذه السياسات، جرى اللجوء إلى إجراءين من أجل محاصرة الجبهة الوطنية الشعبية، الأول: إقامة مدرسة ثانوية في عكا من أجل اجتذاب الشباب في كفر ياسيف وضرب المدرسة القائمة في كفر ياسيف، ولتقليل نفوذ القوميين والشيوعيين في القرية؛ والثاني: تحريض الحكم العسكري السكان على عدم دفع الضرائب، بغرض دفع المجلس البلدي إلى الإفلاس (7). والتحريض على ذلك جرى بأدوات مذهبية بغيضة، من خلال تعبئة طائفة على أخرى.

رغم كل هذه السياسات، استطاع يني وائتلاف جبهته الشعبية، الثبات والصمود بوجه الحكم العسكري وأدواته الأمنية والاجتماعية – المحلية طوال عقد الخمسينيات، غير أن وفاة يني يني في 1 آب/ أغسطس 1962 ستنقل قرية كفر ياسيف ومجلسها البلدي إلى طور سياسي آخر من التوتر والفرز الاجتماعي، والاصطفاف الطائفي كذلك.

انتخابات 1964 والفرز الاجتماعيّ

بعد رحيل يني، نشب نزاع على السلطة في الائتلاف الوطني - الشيوعي، ما تسبب في ضعفه، ودفعَ بناشطي حزب "ماباي" الصهيوني لاستغلال هذا الضعف لدعم وتمكين كتلة "الموحدة" المحلية المرتبطة بالحزب الحاكم ("ماباي")، لتشكل لأول مرة تحالفًا حاكمًا في مجلس كفر ياسيف المحلي.

قبيل انتخابات سنة 1964، عقد مستعربو "ماباي" اجتماعين؛ الأول في تشرين الثاني/ نوفمبر 1963، والآخر في شباط/ فبراير 1964، تخللهما نقاش متعلق بإمكانية التلاعب بالهويات الدينية، وعليه جرى تشكيل "قائمة إسلامية" إلى جانب قائمة كتلة "الموحدة" المحلية، فكانت أولى الخطوات لزيادة تسييس الهويات الدينية في القرية، وهو استغلال حاجة مسلمي القرية لبناء مسجد، فجرى منح ترخيص بناء المسجد وبدعم سياسي - مالي حكومي كجزء من الدعاية الانتخابية (8).

ركزت الحملة الانتخابية لعام 1964 على الفوارق الاجتماعية - الدينية، وأكسب خطاب تحالف الكتلة الموحدة - والقائمة الإسلامية، المدعوم في حينه من قبل قيادات الحكم العسكري، مسوح طائفية تخللها شعارات دينية. ومن جملة الأهداف التي تضمنها برنامج تحالف "الموحدة - الإسلامية" هو "حظر تربية الخنازير".

كانت قضية "تربية الخنازير" واحدة من أكثر القضايا الدينية - الاجتماعية حساسية في كفر ياسيف، نظرًا لكون أكل لحم الخنزير محرمًا عند مسلمي القرية، غير أن الذي جرى هو توظيف هذه القضية بتدبير من الـ"شاباك" وقيادات حزب "ماباي" الحاكم من أجل إيقاظ النزعة الطائفية وفرز سكان القرية انتخابيًا على اعتبارات طائفية - اجتماعية، تكثفت في وقف تربية الخنازير. وقد تولى جبر داهش معدي، عضو الكنيست من القائمة العربية المرتبطة بـ"ماباي" وقتها، متابعة هذه القضية وأرسل برسالة إلى نائب وزير الداخلية يسأل فيها عن قانونية تربية الخنازير في كفر ياسيف، والطريقة التي يمكن من خلالها وقف تربيتها في القرية (9).

كما قام موظفون حكوميون وشخصيات عامة عربية معروفة بتعاونهم مع الدولة و"ماباي"، وناشطون يهود أيضًا، بدور في حملة تحالف الموحدة – الإسلامية الانتخابية، وبُذلت وعود من قبل قيادات الحكم العسكري، بالاهتمام بالمشروعات مثل وصل القرية بشبكة الكهرباء القطرية، وتعبيد الطرقات، وبناء المدارس وتوسيع منطقة نفوذ المجلس المحلي، والتي امتنعت حكومة الحكم العسكري عن تنفيذها سابقًا في ظل وجود يني على رأس المجلس المحلي.

جرت الانتخابات في خريف سنة 1964، وفازت "الكتلة الموحدة" بمقعدين، وكذلك "الكتلة الإسلامية" بمقعدين أيضًا، وفاز كل من "ماباي" والقائمة المرتبطة بالحزب الديني القومي - اليهودي (مفدال) بمقعد لكل منهما، بينما لم يحظ تحالف الجبهة الشعبية - الوطنية، إلا بثلاثة مقاعد.

تشكل ائتلاف مجلس كفر ياسيف الجديد بقيادة "الكتلة الموحدة" بعد أن أشرف مستعربو "ماباي" بأنفسهم على تشكيله، وأصبح رفيق شحادة الذي كان رجلا عجوزا وعليلا وقتئذ رئيسًا للمجلس، وإثر ذلك، بدأ المستعربون هم من يتخذون القرارات الرئيسة كلها في ما يتعلق بالشؤون المحلية لقرية كفر ياسيف.

في الأخير

كان أهم ما أفضت إليه انتخابات عام 1964 في كفر ياسيف، هو الإطاحة بحكم ائتلاف الجبهة الشعبية ومواقفها الوطنية، لصالح قوى محلية مذعنة لشروط الحكم العسكري ومستعربيه، وبالتالي جرى ربط القرية بشبكة الكهرباء وبناء المدارس، وتعبيد الطرقات، وكافة مستلزمات البنية التحتية، ما رسخ في ذهن شريحة واسعة من أهالي القرية حينها، بأن حقوقهم المدنية مشروطة بموقفهم السياسي والولاء للدولة وحكومتها العسكرية، فغدا المجلس البلدي بمثابة مؤسسة خدمات، منزوعًا من مواقفه السياسية الوطنية، ومحكوما بمنطق التوسُّط بين أهالي القرية والحكم العسكري.

الأهم من ذلك، كان الفرز الاجتماعي - الديني الذي خلفه خطاب التعبئة في الحملة الانتخابية للمجلس البلدي. انتهت الانتخابات، غير أن الفرز ظل مسترخيًا في نسيج القرية وذاكرة أهلها لسنوات تلت تلك الانتخابات.

انتبه مستعربو الحكم العسكري وضباطه إلى ضرورة استغلال الفوارق الاجتماعية - الدينية داخل القرى والبلدات العربية وتسييسها، من أجل تصنيف المجتمع الفلسطيني وتفتيته إلى حمائل وطوائف، فاستدعى ذلك منهم تدخلا مباشرًا بمساعدة وكلاء محليين لتمكين ذلك.

أما اليوم، فإن ملامح هذا الفرز، التي ما أن تكاد تخبو حتى تطل برأسها مجددًا على شبكات التواصل الاجتماعي، في ظل الاستقطاب التعبوي في الداخل الفلسطيني لانتخابات الكنيست، تقوم عليه جمهرة من بعض أبناء مجتمعنا، يصطف خلفها تيار سياسي يريد لنا اصطفافًا على ثنائيات وهمية، مثل محافظين وغير محافظين، أو علمانيين ومتدينين، فهي وهمية لأنها لا تُنتج موقفًا سياسيًا.


الهوامش:

1. سعدي، أحمد، الرقابة الشاملة - نشأة السياسات الإسرائيلية في إدارة السكان ومراقبتهم والسيطرة السياسية تجاه الفلسطينيين، ترجمة: الحارث محمد النبهان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2020، ص 200

2. أسس يني يني هذه الجبهة كتحالف وطني تحت اسم الجبهة الشعبية في 6 حزيران/ يونيو 1958، وكان المقصود بالجبهة أن تصبح تحالفًا بين القوميين والشيوعيين على امتداد البلاد كلها، بحيث تتمكن من تمثيل الأقلية العربية الفلسطينية بدلا من الاعتماد على أعضاء الكنيست العرب المرتبطين بقوائم الأحزاب الصهيونية.

3. Sabri jiryis, The Arabs in Israel (London ;New York: Monthly Review press 1976), pp. 109-111.

4. سعدي، أحمد، الرقابة الشاملة، ص 205

5. المرجع السابق، ص 212

6. The Popular Front, Kafr Yassif Branch, "Communique to the Masses of Our Village" LPA, Files 26/14/23.

7. سعدي، أحمد، الرقابة الشاملة، ص 209

8. المرجع السابق، ص 210

9. المرجع السابق، ص 211

التعليقات