29/11/2006 - 17:17

هل انتهت الحقبة الأميركية في الشرق الأوسط؟ / غسان العزي*

هل انتهت الحقبة الأميركية في الشرق الأوسط؟ / غسان العزي*
هذا ما يقول به ريشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية والخبير الاستراتيجي المعروف، في مقالته المنشورة في العدد الأخير من مجلة فورين افيرز. والحقبة الأميركية التي انتهت في الشرق الأوسط هي الخامسة، في رأيه، بعد حملة نابوليون ثم تفكك الأمبراطورية العثمانية ونزع الاستعمار والانتدابين الفرنسي والبريطاني قبل انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الأيديولوجيين المتنافسين على المنطقة، كما العالم.

لكن انتهاء الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط، التي لم تعمّر أكثر من عقد ونصف، لن تجعله يسبر غور السلام والديموقراطية والازدهار. على العكس من ذلك تماماً، يتوقع هاس نشوء شرق أوسط جديد يتسبب لنفسه والعالم، بما فيه الولايات المتحدة، بأذى شديد، نظراً لما سوف يشهده من حروب بين القوى الداخلية المذهبية والطائفية والعرقية، وغيرها كما بين القوى الإقليمية التي ستحاول سد الفراغ الناتج عن الانكفاء الأميركي وتواضع دور القوى العظمى والمتوسطة الخارجية.

ويحلل هاس أسباب الفشل الأميركي، كما يستشرف صورة المشهد الشرق أوسطي الجديد من خلال عدد من الملامح التي يرسمها، منهياً مقالته بالتأكيد على أن الصورة القاتمة التي يراها ليست قدراً مفروضاً. إذ يمكن للولايات المتحدة، إذا ما لبّت دعوته، تصحيح أخطائها وتحويلها إلى فرص من خلال تفعيل الجهود الدبلوماسية وتقليص الاعتماد على القوة العسكرية التي برهنت أنها ليست كلية القدرة، ولا سيما في مضمار اجتراح الحلول السياسية.

وتأتي مقالة هاس هذه في سياق فشل أميركي، لم يعد يختلف حوله المحللون والمراقبون، في كل المجالات التي خاضتها إدارة بوش في الشرق الأوسط منذ وصولها إلى البيت الأبيض في بداية عام 2001، ولا سيما مشروعها الكبير المعلن المتعلق بالحرب العالمية على الإرهاب.

ففي أفغانستان، حيث تزدهر صناعة الأفيون على نحو غير مسبوق، ويتقاسم السيطرة على البلاد خليط هجين من الميليشيات المحلية والإقليمية والطالبانية، تكاد حكومة الرئيس كرازاي ــ الذي تقوم بحراسته قوات أجنبية لا أفغانية ــ لا تسيطر على مسافة أبعد من الحدود الإدارية لمدينة كابول.

وفي العراق الذي سقط فيه 650 ألف قتيل منذ احتلاله من قبل القوات الأميركية والبريطانية، على ما تعلن إحصاءات جامعة هوبكينز، والذي بات ساحة حرب أهلية مذهبية تفتك بالأخضر واليابس وبالحجر والبشر، تعيش القوات الأميركية وضعاً شبيهاً بالحرب الفيتنامية، ما اضطر بوش الى الاعتراف به أخيراً.

لقد عادت عقدة فيتنام لتبعث حية في العراق، بعد أن أعلن الرئيس بوش الأب، في غمرة انتصاره على هذا العراق نفسه في آذار 1991، أنه «قد تم دفن عقدة فيتنام هنا في رمال الصحراء العربية». وفي إطار مشروع دمقرطة ما سماه الأميركيون «الشرق الأوسط الكبير» أو الأكبر، فإن الانتخابات النزيهة رفعت أعداء الولايات المتحدة الى السلطة في غير بلد عربي وإسلامي، الأمر الذي أحرج أصحاب هذا المشروع فتركوه يحتضر من دون تدخل لإنقاذه.

وللتذكير، فإن مراقبي ومحللي النظام الدولي كانوا قد توقعوا عشية الغزو الأميركي للعراق أن تقرر نتائج هذا الغزو الشكل الذي سيتخذه هذا النظام: أحادياً أميركياً مطلقاً أو متعدد القطبية في ظل هيمنة أميركية قد تكون مضمرة أو معلنة او في غيابها. قرار غزو هذا البلد، ذات الأهمية الاستراتيجية الفائقة، احتل موقع حجر الزاوية في مشروع هيمنة المحافظين الجدد على النظام الدولي انطلاقاً من الشرق الأوسط (الكبير أو الأكبر أو الأوسع أو الجديد كما سمته رايس إبان العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان). هم أنفسهم أعلنوا: «قطارنا ينطلق من بغداد» (عنوان كتاب صدر في عام 2003 لكريستول وكابلان) ليجتاز كل عواصم المنطقة، التي من يهيمن عليها هيمنة ناجزة يهيمن على العالم الذي تهب عليه رياح العولمة.

بعد أقل من ثلاث سنوات تبيّن فشل إدارة بوش الذريع في تحقيق الأهداف المتوخاة من غزوها للعراق، اللهم إلا إذا كان تدمير هذا البلد كما يحصل اليوم هو الهدف المتوخى.

و«النموذج العراقي» بدل أن يقوم بدور الجاذب للمزيد من المكاسب والمناصرين بات يؤدي دور النابذ والمعطل لكل ما يصدر عن إدارة بوش من مبادرات ومشاربع. ولاننسى انحياز ادارة بوش السافر للمتطرفين في "اسرائيل" الذي تكفل بالقضاء على القلة القليلة من مصداقيتها في نظر العرب والمسلمين"متطرفين" كانوا ام "معتدلين" على ما تصنفهم كوندوليزا رايس. هذه الشعوب تعاني من سكيزوفرينيا حقيقية بسبب السياسات الاميركية، فشبابها يسعى للذهاب الى اميركا والدراسة فيها او الحصول على عمل وعلى "الغرين كارت" وحتى الجنسية الاميركية, لكنه يمقت هذه السياسات، على ما تدل استطلاعات الرأي، ويعلن استعداده لمحاربتها بكل الوسائل.

فشل الإدارة الاميركية الحالية هو فشل لفكر المحافظين الجدد الذي هيمن عليها والذي انقاد وراءه جورج بوش بشكل اعمى. لكن هل يمكن الحسم بان سياسات المحافظين الجدد وبوش هي سياسات لابد ان تتبناها الادارة الاميركية المقبلة؟
من دون تردد يمكن الاجابة بالنفي على مثل هذا التساؤل. فالانتخابات النصفية الاخيرة للكونغرس انما تشي عبر نتائجها ان تبدل ساكني البيت الابيض بعد سنتين من اليوم قد ينعكس تغيرا في السياسة الخارجية لاسيما في ما يتعلق بالشرق الاوسط، وهو تغير بدأ يطل بملامحه منذ اللحظة.هناك كلام جدي بدأ تداوله، في اوساط الكونغرس والبنتاغون، عن انسحاب، بطريقة ما متمهلة او متسارعة، من العراق رغم نفي الرئيس واصراره على ان النجاح ما يزال ممكننا.

وعلى عكس القناعة السائدة في اوساط المحافظين الجدد ان الارهاب سمة ثقافية ودينية (اسلامية تحديدا) لا علاقة لها بالمسآلة الفلسطينية فان كل حلفاء بوش في العالم قبل خصومه، من الرئيس برويز مشرف وصولا الى توني بلير، يصرون على ان حل الصراع العربي-الاسرائيلي وتحديدا الحل العادل والدائم للمشكلة الفلسطينية هو المدخل الضروري الوحيد الى افئدة وعقول الشعوب العربية والاسلامية والطريقة الافعل لمكافحة الارهاب عبر التصدي لجذوره واسبابه العميقة. وما المبادرة الاوروبية للسلام التي تقدمت بها باريس وروما ومدريد مؤخرا والداعية لمؤتمر دولي لحل الصراع العربي-الاسرائيلي الا تأكيدا اوروبيا جديدا لهذه القناعة السائدة ومحاولة اوروبية لملء الفراغ الناشىء عن المأزق الاميركي في الشرق الاوسط.

هناك، على وجه التأكيد، مأزق اميركي ليس في الشرق الاوسط فحسب ولكن أبعد منه ايضا. ففي أميركا اللاتينية، على سبيل المثال، يزداد عدد الانظمة المناوئة لواشنطن والتي تصل الى السلطة عن طريق انتخابات لالبس في نزاهتها وقانونيتها، وآخر حلقة في هذا المسلسل كانت نيكاراغوا التي عاد الى حكمها الساندينيون اعداء الولايات المتحدة. انه مأزق الامبراطورية الساعية الى الهيمنة بوسائل ثبت ضعف فاعليتها. هذا السعي لاينفك يصطدم بالعقبات في طول الساحة الدولية وعرضها رغم غياب منافسين حقيقيين على زعامة العالم، على الاقل خلال القطبية الثنائية كانت واشنطن تسيطر من دون منازع على اكثر من نصف الكرة الارضية المسمى"العالم الحر". لكن المفارقة انه رغم غياب المنافسين يصعب ايجاد منطقة مهمة واحدة في العالم ترزح اليوم تحت الهيمنة الاميركية من دون تكاليف توازي او تزيد على المكاسب.

في ما يخص الشرق الاوسط يصعب الكلام عن هيمنة اميركية عليه طالما ان شعوبه لا تعدم مناسية الا وتعلن شجبها ونفورها من السياسة الاميركية. ولا يمكن اذذاك الحسم يأن الحقبة الاميركية في هذه المنطقة بدأت مع انهيار جدار برلين وسوف تنتهي في القريب العاجل، على ما يتوقع ريشارد هاس، الا اذا كان المقصود ركون الزعماء وخضوعهم لهذه السياسة، وهو امر بدأ منذ عقود طويلة ولا يبدو انه سوف ينتهي في المدى المنظور.


"الأخبار" اللبنانية

التعليقات