بلغ ايهود اولمرت المهزوم على يد المقاومة في لبنان من «القحة»، درجة المباهاة بقرار اتخذه مجلس الامن، ليس ضد ايران بقدر ما هو لمصلحة اسرائيل، يقضي بفرض عقوبات على ايران تتعلق بالملف النووي.
المفارقة البديهية التي لا يتوقف عندها احد، ان من يرحّب بفرض العقوبات على ايران، لاحتمال امتلاكها سلاحاً نووياً، يصرّح مواربة قبل العقوبات التي كان ينتظر فرضها على ايران، بأن اسرائيل تمتلك السلاح النووي. وما لا يستسيغه عقل او ضمير، هو ان العالم بأسره كأنه اصيب بالصمم والعمى امام هذا التناقض الصارخ في المقاييس المتبعة دولياً.. وان كان ليس مطلوباً ان يتوقف اولمرت عن «وقاحاته» لانه «يتفرعن» بسبب عدم وجود من لا يردّه على الصعيد العالمي، فما هي «العلّة» التي تعقد ألسنة معظم المسؤولين العرب بحيث لا ينبسون ببنت شفة، وهم المعنيون قبل ايران، بوجوب مقاومة امتلاك اسرائيل للاسلحة النووية، ولو بكلمة او التصريح: فامتلاك اسرائيل للسلاح النووي - وهو حقيقة واقعة وامر واقع مفروض على العرب - دون ان تمتلك دولة عربية واحدة مثل هذا السلاح - ما عدا محاولة النظام البائد في العراق امتلاك هذا السلاح، والذي غطّى طغيانه على مدى اهمية امتلاك العراق لمثل هذا السلاح، لو انّ حكومة عراقية عادلة «ليست «ديتكاتورية») ورثت مثل هذا المفاعل النووي الذي تم تدميره على يد اسرائيل مباشرة. ومن المؤكد - لو ان عند اعداء صدام الذين توصلوا الى السلطة بواسطة الاجنبي، ادمغة تفكر ولو كانوا يمتلكون الحسّ الوطني، لوجب عليهم ان يكونوا اول النادمين على عدم امتلاك العراق لهذا السلاح، او على الاقل لكانوا يأسفون ويحتجون على هدر الامكانات التقنية والعلمية العراقية التي لو كانت متوفرة، ولم يتم تهريب «الادمغة» العراقية، وتشريدها مع عوائلها، وهو مطلب اسرائيلي قبل ان يكون مطلباً اميركياً، في حين عمد «الحكام العراقيون الجدد» المحكومون بالاحتلال، الى مساعدة سلطات الاحتلال - واستطراداً تحقيق امنيات اسرائيل - «بابادة» هؤلاء العلماء، بحجة انهم كانوا متعاونين مع النظام البائد، في حين نعرف، ان العلماء الالمان الذين تعاونوا مع «النازي» خلال الحرب العالمية الثانية، استفادت منهم الولايات المتحدة «زعيمة العالم الحر»، كما تلقّب نفسها، فاحتضنتهم «لكفاءاتهم» في حقول عديدة وفي الحقل النووي بالذات... بل ان اسرائيل على عدائها الشديد للنازية التي تتهمها اسرائيل «بالهولوكوست» (المحرقة) حاولت بالترهيب والترغيب الاستفادة من العلماء الالمان الذين ظلوا احياء بعد سقوط النازية والتي تزامن سقوطها قبل سنوات فقط، من نشوء الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين حيث استفادت منهم حتى في بناء مفاعل «ديمونة» في صحراء النقب، والذي كان نواة للقنبلة النووية الاسرائيلية.. هكذا تصنع «الانظمة اليقظة» التي يجب ان نتعلم منها حتى ولو كانت معادية!
ولو فتح الحديث حول مأساة الكفاءات والنوابغ في العراق من الذين تم تشريدهم مع عوائلهم والذين عوملوا «كسبايا» ومسببين فأرغم بعضهم على العمل مع دول مساندة لاسرائيل ومعادية للقضايا العربية واغتيل بعضهم او عذّب، لمجرد رفضه العمل مع اعداء وطنه.. في حين ان «البلهاء» من العرب الذي كان يتربع الكثيرون منهم في مواقع النفوذ والسلطة، كانوا يصفّقون لتدمير الكفاءات العربية (العراقية خاصة) والتي استفاد منها اعداؤهم، بينما هم زهدوا بها بل شاركوا في هدرها واضطهادها وصح فيهم، وهم يهدرون كفاءاتهم التي هم بحاجة الى كل واحدة منها لانها اهم من «النفط» «والذهبين الاصفر والاسود»، قول احد الشعراء العرب الذي كان يعصر قلبه الالم، وهو يرى الطاقات المهدورة لهذه الامة الغنية بالنابغين في شتى الحقول العلمية، في حين ان معظم الحكام العرب يلهثون وراء استجداء كفاءة اجنبية قد تكون دون مستوى ما عند شعبهم من كفاءات:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمولُ!
بل لقد بلغ من القصور العقلي والعقم والعجز النفسيين عند معظم الانظمة العربية - رغم توفر كل الطاقات التي تساعدهم على اللحاق بركب التكنولوجيا العصرية المتقدمة - درجة محاولة مساواة امتلاك دولة جارة لهم مثل ايران لهذه التكنولوجيا بامتلاك اسرائيل للاسلحة النووية! وهذه الانظمة تعلم تمام العلم، ان ايران دولة من دول العالم الثالث منعتقة من ظلم النفوذ الاجنبي المجحف الذي اعترف كل من كلينتون وبلير بان بلديهما قد ارتكبا المظالم ضده عبر عقود. وايران ليست دولة طامعة بخيرات بلد مجاور او بعيد، بل ان كل طموحها ان يكون ما تمتلكه من خبرات نووية استطاعت ان تحصل عليها «بعصامية» في ظروف صعبة، ووسط حصار عالمي شديد، فرض عليها بعد ثورتها المدينة السلمية، والتي كان الغرب الجاهل بخصائص وامكانات الشعوب، رغم تقدمه العلمي والتنكولوجي، بان ايران التي تخلصت من الحكم الشاهنشاهي هي الذي فرض قراره الوطني استرضاء للاجنبي، والذي كان اكثر الانظمة في البلدان الاسلامية - بعد تركيا - سابقاً - تعاملاً سافراً مع اسرائيل، كان اول انجاز «خارجي واقليمي» اقدم عليه بعد تخليص قراره الوطني من التأثيرات الاجنبية و«العلاقات الوطيدة» مع اسرائيل واقام سفارة فلسطينية في طهران، على انقاض مقر البعثة الاسرائيلية التي كان لوبراني «القايل الطايل» في ايران، والذي اضطُرّ أن يهرب منها بعد قيام الثورة، عبر نفق يمتد من مقر البعثة الاسرائيلية، الى اطول وأعرض شارع في طهران والذي كان يطلق عليه في عهد الشاه شارع «ولي العهد»، والذي اصبح يسمى بعد قيام الثورة بشارع «ولي العصر» والمقصود «بولي العصر» هو الامام المهدي المنتظر الذي يؤمن به المتدينون المسلمون سنّة وشيعة مع بعض الفوارق في التفاصيل. ولا حاجة للتذكير لمن لديه الحد الادنى من المعلومات حول لوبراني الذي انتقل بعد سقوط نظام الشاه والغزو الاسرائيلي الاول للبنان عام 1982، الى بيروت، حيث اقام في منطقة ضبيه، والذي جعل لنفسه عنوان «منسّق الانشطة الاسرائيلية في لبنان» والذي اصبح «مرجعاً» للمنحرفين الذين كانوا يتسابقون على بابه ويزورهم ويزورونه، والذي كتب عليه ان «يفر» من لبنان كما فرّ من ايران، بعد ان عمدت المقاومة اللبنانية الشعبية والسياسية ضد اتفاقية 17 ايار الى طرده من لبنان، وهو الذي سلك في لبنان ما كان يسلكه في ايران، من حيث التخريب والتفرقة والتحريض والبحث عن الثغرات في «الخريطة الطائفية» للبلد الذي يمثله فيه الكيان الغاصب. حيث كان يطمح الكيان الصهيوني بعد «الكارثة» التي اصابته في تموز، ان يجد بين اللبنانيين من ينوب عن اسرائيل في تحقيق ما كانت ـ ولا تزال ـ تهدف اليه في لبنان من تدمير «نموذجه الحضاري الفريد» في العيش المشترك، الذي يظل رغم ما يعتريه من قصور وفساد معظم افراد الطبقة السياسية فيه، وعجزهم واستلابهم امام الارادات الاجنبية وخاصة امام الارادة الاميركية، والذين وصل العجز عندهم درجة ما يشبه التواطؤ المباشر مع العدو وهو التواطؤ الذي اصبح واضحاً ومعروفاً، وما خفي منه، وما سيكشف النقاب عنه، «أفظع» مما عرفه الرأي العام بكثير حتى الآن!
وما يجب ان يدركه المواطنون اللبنانيون الحقيقيون، هو ان مصير الصراع بين الاستقلالية النسبية في قرارات بعض الانظمة في الدول المجاورة للبلدان العربية، وخاصة ايران وتركيا، ونحن نقدم ايران على هذا الصعيد، لأن «القرار المستقل» فيها متوفر اكثر مما هو لدى تركيا، التي «تتثاوب» محاولة التخلص من الهيمنة السياسية الاميركية على قرارها ومن وجود طبقة معينة تحاول ان تقطع صلتها بشرقيتها تحت وطأة «الشعور بالنقص» امام الغرب. كما انها كانت قبل سنوات قليلة تعاني من ازدواجية السلطة بين العسكريين والسياسيين والمدنيين، حيث اندفع العسكريون «المعزولون» ثقافياً عن انتمائهم، والذين انساقوا لاقامة «علاقات مكشوفة» مع الكيان الصهيوني على النمط الذي كانت تقيمه حكومة الشاه ورئيس وزرائه امير عباس هويدا الذي ظل رئيساً للوزراء لمدة 13 سنة، وشقيقة الشاه «شمس الملوك» التي كانت تقيم «جسر اً جوياً» مع الكيان الصهيوني يتضمن عقد الصفقات، الى جانب امداد اسرائيل بالبترول الايراني.
في ذلك الوقت، لم يكن الذين يحاولون اثارة الفتن الطائفية داخل دول المنطقة اليوم، يثيرون النعرات بين السنّة والشيعة، وكان حكّام دول الخليج «السنية» يحجّون الى طهران لنيل رضا الشاه الشيعي، بل كان بعض السياسيين اللبنانيين، رغم ادعائهم تمثيل المسيحيين يتجاوبون لدرجة اقامة علاقات عضوية، مع ما يسمى «بالحلف الاسلامي» الذي كان يضم نظام الشاه مع انظمة دول الخليج، ولم يكونوا «يتذكرون» انهم سنّة، وان ايران «بلد شيعي» لأن «لعبة الأمم» في المنطقة، كانت تريد جمع الانظمة المستنيمة للنفوذ الاجنبي والتي تقيم علاقات مع اسرائيل والتي كان نظام الشاه في طليعتها. وخلال مؤتمر صحفي عقده الامام الصدر رداً على «افتراء» فتنوي في ذلك الوقت، وجه اليه السيد عباس بدر الدين مدير وكالة «أخبار لبنان» والذي غُيّب معه فيما بعد: عن رأيه «بالحلف الاسلامي» الذي كان بعض اقطاب السياسة اللبنانيين الذين ينسبون لأنفسهم تمثيل «لبنان أولاً»، مؤيدين لهذا «الحلف» الذي يضم شاه ايران وعدداً من حكام الدول الخليجية المجاورة لايران وبعض الانظمة التي لا نريد تسميتها اليوم وهي القريبة من دول الخليج والتي اصبحت تدرك مدى خطورة رهن ارادتها للدول المحابية لاسرائيل والتي استفاقت على ان اصابع التآمر الصهيوني، ليست بعيدة عما يحصل فيها بين فترة وأخرى حتى في موسم الحج احياناً، من اعمال ارهابية. والتي تلاقت فيها اهداف الارهاب والنزعة الفتنوية الطائفية مع الاهداف الصهيونية في اشاعة الاضطراب والخراب في المنطقة!
وهكذا ثبت لها ان بعض الذين يرفعون شعارات ظاهرها الغيرة على السيادة في «لبنان اولاً» الى جانب اناس يتحدثون بلغة مذهبية، فإن التجارب علمتنا، انهم لا تهمهم العناوين الدينية أو الطائفية، بل ان «استراتيجيتهم» المتلاقية مع استراتيجية «لعبة الأمم» ليست ضد «العنوان الاسلامي» اذا كان مضمونه الاستنامة للطروحات الطائفية والتبعية للنفوذ الاجنبي. ولعبة الامم ليست ضد الشيعة او السنة لانه ليس هنالك «خلافات فقهية» بين الاستعماريين والعقائد والمذاهب الدينية فهم ضد الشيعة اذا كانوا وطنيين ومقاومين وضد الفتن الطائفية، كما هو موقفهم بالنسبة للشيعة وقياداتها في لبنان. وهم يرضون عن السياسيين الشيعة في العراق، اذا كانوا يسايرون المخطط الفتنوي، ويحاربون في الوقت نفسه المقاومين الشيعة للاحتلال، حتى لو دخلوا في العملية السياسية كما هو الشأن مع التيار الواسع الذي يقوده السيد مقتدى الصدر. وبعض المستلبين من جانب «لعبة الأمم» من الاطياف السياسية في لبنان، حتى لو كانوا مسيحيين او دروزاً او ارثوذكساً او كاثوليك، مستعدون لأن يؤيدوا حلفاً اسلامياً، اذا كان يقوم على اساس الاستنامة «للعبة الأمم» او يمكن ان يشكل قيام هذا الحلف سداً في وجه اي «إسلام آخر»! اذا كان هذا الاسلام «مناوئاً» للنفوذ الاجنبي.
وقد يكون الطائفيون من المسلمين عموما، قد وصل بهم «العمى السياسي» و«التعصب الاسود» درجة اتباع سياسة السكوت او المهادنة مع العدو الاسرائيلي، والتلاقي معه ضد مذهب اسلامي آخر، ولكن «لعبة الأمم» اذا رأت مصلحتها في ان تجبرهم على مهادنة اتباع هذا المذهب، فانهم يستجيبون «لأمر العمليات الاجنبي» على مضض: وعزاؤهم المذهبي ان «لعبة الامم» نادرا ما تحاول «اجبار» اتباع مذهب على اقامة وفاق مع المذهب الآخر، لأن سياسة التفرقة، هي «السلاح الأشد قذارة» الذي تلجأ اليه «لعبة الامم المحكومة صهيونياً» لابقاء نفوذها والذي يعينها على تحقيق «الحلم القديم الجديد» بابقاء المنطقة مفتتة وعاجزة عن النهوض!
واخيراً لا اخراً... فانه لا خلاص لنا في لبنان والمنطقة العربية وللامم والشعوب المجاورة التي ذاقت «المرارات» من فقدان القيادات الحرّة ذات القرار المستقل فعلاً... وليس الرافع للشعارات اللفظية للاستقلال، وهي شعارات تعني على ارض الواقع نقيض معناها اللفظي، حتى ان بعض من يكثر المناداة «بالسيادة» نراه قد غرق في الدوس على معنى السيادة من قمة رأسه الى اخمص قدميه!
اما الذي يتحدث عن السيادة بصدق، فهو لا يجتزئها، فيرفعها في وجه شقيق الذي مهما اخطأ فاننا رغم رفضنا لاملاء الشقيق على شقيقه فان هذا الشقيق مهما اخطأ او تجاوز، او ارتكبت «ادوات التنفيذ» التي يعتمدها اخطاء في ممارسة دور اخوي اوكل اليها، وفان العداء لها يجب الا يتجاوز اطار الرفض للتجاوزات التي تحصل في العائلة الواحدة. اما شعار السيادة والاستقلال الحقيقيين يجب ان يرفع في وجه الدول المستكبرة التي تريد ان تفرض تسلطها الغاشم على شعوب ليست منها ولا تعرف تاريخها ولا تتفهم قضاياها او تشاركها آمالها او آلامها!
والدرس نأخذه حاليا من دولة ليست بعيدة عنا في العادات والتقاليد والتي يصح فيها قول امير الشعراء:
ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم ونحن في الجرح والآلام اخوانُ!
ولقد مضى الوقت الذي كان فيه الحاكم يسمعنا «جعجعة» «ولا نرى طحناً!» بل اصبحنا في زمن يقول فيه حاكم لبلد مضطهد سابقاً، انتزع قراره المستقل بارادة شعبية عارمة حتى «اذا قال فانه يفعل القول!». فاذا قال مثلا ان الدول التي وافقت على فرض العقوبات على بلد ناهض كايران، سوف تندم على ما فَعَلت.. فانه يعني ما يقول. لان «سوابق» الحكم الحالي في ذلك البلد الصديق، تؤكد انه عندما ينذر بامر فانه يكون عند انذاره! واذا وعد بفعل او تحقيق شيء، فانه يفعله ويحققه..
والسؤال الذي نختم به في النهاية: هل لدينا نموذج من هذه القيادات في لبنان او البلاد العربية؟ نعم.. وننظر كلبنانيين ماذا فعلنا بعدونا في تموز رغم التدمير الجبان الذي قام به.. واذا كنا مع هذا النموذج، فليس لان القائمين به ينتمون اى حزب او تنظيم معين او طائفة معينة فلو لم يفعل ما فعله او فعل عكسه، لكنا ضده مثلما نحن ضد كل من يريد النيل منه او التآمر عليه!
"الديار"
التعليقات