ليست التدخلات الخارجية بالامر الجديد في لبنان، الذي حفل تاريخه الحديث بالامثلة التي لا تعد ولا تحصى من التدخلات والوصايات والمحاور. لكن الامر غير المسبوق هو بلوغ هذه التداخلات هذا الحجم من الاتساع، بحيث باتت الساحة اللبنانية اشبه بحلبة مفتوحة على كل النزاعات الدولية والاقليمية ومكانا لاختبار النفوذ او لمحاولة استعادة مجد ولى. وبعدما بدا ان الاحداث التي توالت منذ مطلع العام 2005، وبينها الانسحاب السوري من لبنان، تتجه صوب تحييد هذا البلد عن الصراعات الاقليمية بدعم دولي، يظهر الان ان هذه الاحداث كانت في الواقع بداية لعملية تدويل وتعريب واقلمة (من اقليمي) كبيرة ومفتوحة.
فالى الدور الاميركي الذي كان على الدوام «بيضة القبان» عند الاستحقاقات اللبنانية الكبرى، حتى عندما تم تلزيم لبنان اميركيا لسوريا، اضيف الدور الاوروبي المتعاظم، خصوصا عبر فرنسا ورئيسها الحالي جاك شيراك الذي انخرط في الملف اللبناني في شكل بارز، علما بأن الدور الفرنسي كان اساسيا في مراحل مهمة سابقة في تاريخ لبنان. ولكن الانخراط الفرنسي الحالي استتبعه انخراط اوروبي، تجلى في اقصى مظاهره في «القوات الدولية» التي يقوم عمودها الفقري وقيادتها على القوات المسلحة الاوروبية، بعدما اصبح الاتحاد الاوروبي فارضا نفسه كقوة ثانية وربما موازية للولايات المتحدة على الحلبات الدولية، وخصوصا ان اميركا فقدت الكثير من صدقيتها في منطقة الشرق الاوسط، حيث تناصبها العداء دول وجهات عدة. وقد اتسع الدور الاوروبي ليطال مثلا دولا كالمانيا، كانت مشاركتها في قوات «اليونيفيل» هي التدخل الاول لها في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية. ويغطي هذين الدورين الاميركي والاوروبي مظلة الامم المتحدة التي اصبح دورها يسمح لها بالتدخل في اي مكان في العالم لحل النزاعات وحفظ السلام وما سوى ذلك من المهمات التي اتسعت وتشعبت.
اما اقليميا، فقد ارتبط الصراع الداخلي في لبنان في شكل وثيق بالملفين الايراني والسوري، وهو ارتباط لم يغب في السابق، لكن طغيان الملف الايراني بات حاسما، واصبحت المسألة النووية والصراع حولها يترجمان في لبنان وكذلك الصراع حول المحكمة الدولية الذي يعني سوريا في شكل اساسي. واتخذت طبيعة النزاع الداخلي، الذي يظهر فيه الجانب المذهبي، ابعادا عربية في اطار النزاع السني - الشيعي الذي يتجلى في العراق والمحاور التي تدور في فلكه من ايران وما تمثله من دولة شيعية تطمح الى ان تصبح قوة اقليمية كبرى. الى السعودية الدولة السنية الكبرى ومصر وما لها من مصالح وشؤون في كل ذلك. وانطلاقا من ذلك تشعبت التداخلات الخارجية الى درجة غدت معها الساحة اللبنانية ساحة للصراع الدولي - الاقليمي والعربي - الاقليمي وصراع النفوذ السني - الشيعي مع ما يرافق ذلك من مصالح دولية وعربية ومحلية مختلفة ومتنوعة.
حتى ان اتساع تشابك المصالح في الداخل اللبناني جعل دولا كروسيا مثلا، بعدما فقدت موقعها كدولة عظمى وكتركيا، تسعيان الى القيام بدور في الشرق الاوسط عبر البوابة اللبنانية المفتوحة.
فروسيا التي تسعى الى استعادة متانة لها كدولة عظمى سابقا، تراعي المصالح الاميركية حينا وتعارضها حينا آخر كمدخل لحفظ موقع لها كلاعب دولي ذي شأن.
من هنا كان دعمها لواشنطن في حربها ضد افغانستان، ثم معارضتها الحرب على العراق. ومن هنا تحاول الدخول على الخط اللبناني عبر موقعها في مجلس الامن وموقفها ازاء مشروع المحكمة الدولية. وهي حاولت القيام بدور ما على الخط اللبناني - السوري بعدما استقبلت تباعا رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة ثم الرئيس السوري بشار الاسد، كما انها صوتت في الملف الايراني على العقوبات ضد ايران ولكنها بعدما اسهمت في ادخال تعديلات على القرار خففت من مفاعيله.
اما تركيا، التي يصل رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان الى بيروت الاربعاء المقبل، فتحاول ايضا عبر لبنان تحديد دورها الاقليمي وطموحها الاوروبي. وبعدما شاركت في القوات الدولية، في اول تدخل لها في لبنان منذ هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية، تسعى الى المشاركة في الوساطات القائمة حول الصراع الداخلي اللبناني، وتحديدا في مسألة المحكمة الدولية التي تعثرت مع استقالة الوزراء الشيعة، حيث يقوم مسعى دولي - اقليمي لايجاد مخرج لموضوع المحكمة قبل ان تصل الامور الى اللجوء الى الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، وهو ما عبرت عنه فرنسا في شكل غير مباشر.
ومن المتوقع ايضا، في موازاة التحرك الروسي - التركي، ان يصل الى بيروت في الايام المقبلة وزير الخارجية الايراني منوشهر متكي للمساهمة في المشاورات الجارية للتوصل الى تسوية ما. وقد تمهد كل هذه الاتصالات لعودة الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى لبيروت اذا ما نضجت شروط التسوية على الصعيد الاقليمي قبل المحلي.
"الديار"
التعليقات