من «الثلثاء الأسود» الى «الخميس الأسود»، هل سيكون هناك يوم اسود آخر في سجل الصراع الدائر. والى اي حد يمكن للبنان ان «يستوعب» المحطات السود من دون ان تنفلت الامور من ضوابطها وتتحول فعلا الى حرب اهلية؟
حتى الثلثاء، كانت القوى المعنية في المعارضة والغالبية تتعاطى مع هذا الملف من باب «عض الاصابع»، فتمارس التصعيد الى الدرجة القصوى سعيا الى تحقيق المكاسب السياسية. وقد ثبت ان احدا غير مستعد لاطلاق صرخة الالم وتقديم التنازل في ظل حالة توازن القوى القائمة على الساحة.
وبدت المعارضة التي «تخيم» في وسط بيروت منذ نحو شهرين عاجزة عن حسم المعادلة لمصلحتها بالأساليب المعتمدة حتى اليوم، ولذلك اختارت للمرة الاولى اسلوب المواجهة غير المعتاد، اي قطع الطرق وشلّ الحركة بالاطارات المشتعلة والدشم والاتربة. وعلى الارجح لم يكن يدور في خلد اي من قادة المعارضة ولا سيما السيد حسن نصرالله، ان هذا الامر يمكن ان يؤدي الى ما ادى اليه لسببين : الاول هو اعتقاد المعارضة بأن هذا التحرك سيفاجىء الفريق المقابل ويوقعه في الارباك. وهو سيقطع التواصل بين اقطاب الغالبية بحيث يصبحون عاجزين حتى عن الاجتماع لتنسيق خطواتهم. والثاني هو اعتقادها بأن احدا في فريق الغالبية لن ينزل الى الشارع لمواجهة عملية قطع الطرق. وجاء تأكيد العديد من اقطاب المعارضة لاحقا ان التحرك اقتصر على يوم واحد خوفا من الفتنة ليثبت ان القائمين بهذا التحرك فوجئوا بالمسار الدموي الذي اتخذه في داخل المناطق المسيحية وطرابلس .. ومن ثم في بيروت.
السؤال : من ايقظها ؟
فالفتنة التي تخوف منها الجميع، والتي سبق للبطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير ان حذر من ايقاظها، لم تعد نائمة، ولم يعد المطلوب تجنبها، بل وقفها، علما ان الجميع «يلعنون من ايقظها» متنصلين من دورهم في هذا المجال. وبالتالي حرّكت صور الدم والنار والدمار والحواجز المذهبية والقناصة ذاكرة الحرب لدى المعنيين. فسارعوا الى اطلاق الدعوات واصدار الفتاوى للانسحاب من الشارع.
وخلافا للانطباعات والسيناريوهات المرعبة التي يتوقعها البعض، يقول مرجع سابق ان الصدمة التي احدثها يوما الثلثاء والخميس الماضيان ربما كانت لها المفاعيل الايجابية التي لطالما افتقدناها لدى الاطراف المعنيين.
اذ لم يكونوا يصدقون ان استمرار الشحن يمكن ان يؤدي الى الفتنة، وهم لطالما راهنوا على ان الساحة اللبنانية مضبوطة بمظلة اقليمية - دولية لم تتمزق وانه تحت هذه المظلة يمكن اللعب بالشارع والمساومة الى الحد الاقصى. فجاءت الوقائع لتؤكد انه على رغم وجود ارادة دولية حتى الان باستمرار الاستقرار في لبنان، فإن اللعب بالنار الداخلية التي يمكن ان تغذيها بعض المصالح الخارجية من شأنه ان يخلق وقائع تصعب معالجتها.
وهذا ما حدث احيانا في الحرب اللبنانية خلال 15 عاما، عندما كانت تتصارع الارادة الدولية في بعض المراحل مع حالة الاهتراء الداخلي الذي تغذيه المصالح الاقليمية للاستمرار في الحرب. ولهذا السبب علقت المعارضة تحركها مساء الثلثاء بعدما كانت قد اعلنت استمراره لايام اخرى، ومن ثم اصدر السيد نصرالله فتواه التحريمية بحق الذين لا يستجيبون الى نداء الخروج من الشارع، وهي الاولى من نوعها، وسيكون لها الاثر الكبير في تحرك الشارع الشيعي خصوصا، والشارع المعارض عموما، في الفترة المقبلة، حيث من المتوقع ان تستعيد المعارضة تحركها الاعتراضي بعد دراسة متأنية له وتحت عناوين سملية تماما.
الساحة» لمن؟
وفي رأي المرجع السابق ان الغالبية ستكون امام إحراج التقاط زمام المبادرة في المرحلة المقبلة. ففيما يمرّر «حزب الله» مناسبة عاشوراء بحدود غير مسبوقة من الهدوء في المواقف وعروض القوى، تقترب مناسبة 14 شباط وكأنها استحقاق «تقليدي» لفريق الغالبية لا يستطيع تمريرها بالظروف القائمة حاليا في وسط بيروت، اي بكون خيم المعارضة تملأ الساحتين: رياض الصلح والشهداء، ولذلك فإن دعوة النائب الياس عطالله الى اعتصام امام مجلس النواب للمطالبة بفتح دورة استثنائية تبدو احد الخيارات المتداولة داخل الفريق المعني. لكن دون ذلك هواجس العودة الى الصدام المستجدّ، بطابعه المذهبي خصوصا، والذي كاد يصل الى شارع المصارف يوم «الخميس الاسود». وهذا يعني ما يمكن ان يعنيه من اعادة رسم للخطوط بدءا من وسط بيروت.
وبعبارة اخرى، ادت اطلالة الفتنة في الساحتين المسيحية والسنية - الشيعية، الى مراجعة جديدة للحسابات المحلية، والى حالة استنفار ديبلوماسي عربي - دولي ستظهر مفاعيلها لاحقا.
الإيرانيون والتهدئة
وفيما السعوديون يقودون وساطة على الخط الإيراني، وعبّر الرئيس نبيه بري عن اعتقاده بوجود بعض التفاؤل بعد زيارة السفير عبد العزيز خوجة لعين التينة، تشير بعض المصادر الى ان الجو الايراني يوحي بالايجابية لجهة الرغبة في انتاج تسوية داخلية تأخذ في الاعتبار توافق جميع الاطراف، وان طهران تسعى الى جس نبض القوى المتحالفة معها، وفي مقدمها دمشق، حول الأفكار التي طرحها السفير السعودي في واشنطن الامير بندر بن عبد العزيز، والتي قد يحملها معه الأمين العام للجامعة العربية في تحركه المقبل، اذا ما تم التوافق حولها. وهي تتضمن خصوصا تسوية لأزمة الحكم تشكل صيغة 19-10-1 مقدمة لها، على ان يعقبها حوار وطني حول الاستحقاقات السياسية والدستورية المقبلة، اي رئاسة الجمهورية والانتخابات النيابية المبكرة. كما تقدم تطمينات الى فريق المعارضة وسوريا حول المحكمة الدولية.
وهذه الاجواء الايجابية ستسمح للجميع بالخروج من لعبة الشارع، سواء المستمرة حاليا او تلك المتوقعة، بالخروج الى رحاب طاولة الحوار الوطني تحت سقف المجلس النيابي، ووفق قاعدة «لا غالب ولا مغلوب». وهذا ما يفسّر دعوة الرئيس السنيورة الى الحوار امس، اذا تعذّر انعقاد المجلس.
وفي رأي المصدر أن هذا المخرج سيتيح للحكومة اللبنانية، كما للمقاومة، ان تعودا الى تحديد الوجهة الأساسية في الصراع الحقيقي الذي يخوضه لبنان، اي اسرائيل.
مع الإفادة من تجربة حرب تموز المريرة التي وإن كبّدت لبنان المليارات من الخسائر وحجما كبيرا من الشهداء، لكنها كانت مجالا لإظهار تضامن اللبنانيين على اختلافهم وتوحدهم في وجه العدوان، بدلا من الارتداد على واقعهم الداخلي المتصارع.
"الديار"
التعليقات