07/03/2008 - 12:11

وزراء قمع وصحفيون درجة سادسة../ حنين زعبي

وزراء قمع وصحفيون درجة سادسة../ حنين زعبي
أثارت وثيقة الفضائيات العربية، الذي اقترحها وقدم لها كل من مصر والسعودية، والتي صادق عليها وزراء الإعلام العرب في القاهرة –باستثناء لبنان وقطر- قبل أكثر من أسبوعين، ضجة كبيرة في أوساط الإعلاميين العرب. استهدفت الوثيقة والتي حملت عنوان " تنظيم البث الفضائي في المنطقة العربية"، أكثر من 400 محطة تلفزيونية عربية تدار من قبل نحو 60 هيئة للبث في الدول العربية.

ليست كل التنظيمات المفروضة على الإعلام هي تنظيمات رقابية، وليست كل التنظيمات الرقابية تنظيمات مقيدة للعمل والحرية الصحفية. بالإضافة لذلك ليست كل التنظيمات هي تنظيمات تقع في حدود الحرية الإعلامي، التنظيمات الداخلية للمؤسسات الإعلامية هي تنظيمات مهنية في الأساس. لكن أهم التمييزات بين أنواع المواثيق المختلفة الخاصة في العمل الإعلامي، هي بين تلك الصادرة من قبل سلطات الدولة المختلفة من جهة، وبين تلك الصادرة بمبادرة الصحفيين أنفسهم كتنظيمات نقابية أو غيرها، أو من قبل المؤسسات الإعلامية نفسها.

الوثيقة التي نحن بصددها، قدمت نفسها كميثاق أخلاقيات، وهو أهم ما في العملية من خطورة، إذ أنها لا تستطيع أن تكون كذلك، بصفقتها صادرة عن وزراء حكومة، أي عن سلطات دولة. فميثاق الشرف الذي دخل الساحة الإعلامية سنة 1952 هو ميثاق يوضع من قبل المؤسسة الإعلامية نفسها، أو مجموعة من الصحفيين بمبادرتهم الذاتية، وفيه لا يعلنون عن حدود وضوابط مهنتهم – ما لا يستطيعون تجاوزه أو التعبير عنه- بقدر ما يحددون تعريفهم لمسؤوليتهم ولطبيعة مهنتهم من جهة، ويعطون توصيفا لقواعد عملهم المهنية بالذات فيما يتعلق بمصداقية المعلومات وبحيادها عن مصالح القوى المتنفذة في المجتمع. وقد طورت المؤسسات الإعلامية مفهوم مواثيق الشرف كفعل ضابط بحد ذاته لقدرة أو لحاجة الدول لتطوير قوانين في المجال الإعلامي. إذ تعد مواثيق الشرف التي تضمن مهنية ومسؤولية الإعلام فعل وقائي يهدف إلى نزع الذرائع من الدولة لأن تضع هي بنفسها قوانين ل"ضبط" و"تنظيم" العمل الإعلامي.

من جهة أخرى، الوثيقة المذكورة ليست عبارة عن تشريعات وقوانين تدخل المنظومة القانونية للدول العربية الموقعة على الميثاق، والدول المختلفة تضبط العمل الإعلامي (حيث هنالك احترام لحرية العمل الإعلامي) أو تراقب وتقيد (حيث لا احترام لحرية العمل الإعلامي) عبر قوانين رسمية.

الوثيقة التي نحن بصددها، هي أمر غريب بشكل كامل عن سلوك المجال الإعلامي في كل المجتمعات، وهو غريب حتى عن السلوك الاستبدادي، ولا يمكن لتعبير "استبداد" أو "قمع" أن يشرحه. إذ أن خطورة الذي حصل لا يكمن فقط في مستوى الحريات الإعلامية، وإلا لاعتبرنا ما حصل منسجما مع تعامل الأنظمة العربية مع المؤسسات الإعلامية تاريخيا، وملاحقتها للصحفيين، وسجن مصر عشرات أصحاب المدونات في السنة الأخيرة، ومحاكمتها لسبعة رؤساء تحرير، وتطوير دولة كتونس قائمة بمواقع الانترنت التي تمنع عن المواطن التونسي، أسوة بالسعودية.

تكمن خطورة ما حصل في مستوى بديهيات المجال الإعلامي. ما حصل هو نسف للحدود بين ديناميكات صحفية داخلية، وبين ديناميكيات خارجة عن العمل الصحفي، ولتكن قمعية كما تستطيع. ما حصل هو نسف لمفهوم تاريخي لما يسمى بـ"الميثاق الإعلامي"، والذي هو عادة "ميثاق أخلاقيات"، ومصادرة وظيفته الأخلاقية المواجهة لوظيفة القانون الرقابية، واستعماله بوظيفة مناقضة لطبيعته.

لقد تم القفز عن أحد أهم منجزات الساحة الإعلامية العالمية، "ميثاق العمل الإعلامي/ أو ميثاق الأخلاقيات الإعلامية" الذي هو بحكم تعريفه ونشأته التاريخية، والمتعارف عليه، إعلاميا في العالم الأول والثاني والثالث، ومن ثم دول الجنوب والشمال، ومن ثم دول المركز والهامش، كسلاح الصحفي أمام سلطته، وقانون دولته الجائر، والذي هو جزء من ديناميكية داخلية للعمل الإعلامي، وجزء من ترتيب أوراق المهنة، ومصادرة تلك الديناميكية الداخلية من يد الصحفي لتصبح جزءا من ديناميكية الدولة تجاه الصحفي وسلاحا بيدها يشهر في وجه الصحفي وفي وجه حرية عمله.

الخلط بين المهنة وتفصيلات قواعدها المهنية، وبين السياسة – والذي أشرت إلى أنه خطر الوثيقة الأكبر- يكمن ليس فقط في تطبيق الرقابة عبر استعمال انتهازي ومتخلف من قبل النظام الرسمي لـ"وثيقة مهنية"، بل يكمن أيضا في صلب بنود الوثيقة نفسها: إذ تم التطرق للموضوعية –حجر الصحفي المقدس- بوصفها عدم تناول القادة أو الرموز الوطنية والدينية بالتجريح في نفس البند!. أي تم ليس فقط الربط بشكل آلي وتلقائي وطبيعي بين قاعدة مهنية "تقنية" صرفة وبين أمر ومضمون سياسي صرف، بل تم تعريف قاعدة مهنية بمضمون سياسي صرف. إذ تنص النقطة الرابعة في البند سبعة، ب: "الالتزام بالموضوعية والأمانة باحترام كرامة الدول والشعوب وسيادتها الوطنية . . (كضريبة شفهية، ح.ز.) وعدم تناول قادتها أو الرموز الوطنية والدينية بالتجريح"!

أي أن الموضوعية والأمانة الصحفية تتأتى عبر وسيلة سياسية جدا ومعينة جدا، وليس عبر أي نهج عمل يتعلق بجمع المعلومات، اختيارها أو إعدادها. وغني عن الذكر أنه لم يسبق لأدبيات أو لوثيقة مهنية أو حتى لوثيقة سياسية أن عرفت، بل بالأحرى تعرضت للموضوعية بمثل هذا الاستغلال.

بالإضافة للوظيفة السياسية الرسمية التي تنضح بها الوثيقة، والتي هي حلقة مستمرة من مسيرة ضبط الإعلام العربي بالهدف المباشر لحماية النظام، هنالك تطوران خطيران على المستوى السياسي للوثيقة:

أولا: درجة أعلى من التكامل مع الخطاب الإعلامي الأمريكي عبر تبني، ولأول مرة بشكل رسمي –على حد علمي علي أن أقول-، بنود صريحة ضد بث كل ما يشجع على الإرهاب، (وإن ميزت الوثيقة بين ذلك وبين مقاومة الاحتلال، مستهدفة بذلك على ما يبدو أشكال المعارضة المختلفة للأنظمة العربية).

ثانيا: العودة للتشديد على السيادة الوطنية للدول القطرية في العالم العربي، كمحاولة – غبية ومحزنة معا- للالتفاف على أو بالأحرى للاعتراض على الحيز العام العربي المشترك الذي تبنيه الفضائيات العربية، على نقيض ما تحاول السياسة العربية الرسمية أن تعززه من تجزئة للواقع وللمجتمعات العربية.

ولكي نضيف عبثية ورداءة على هذا الواقع نذكر بأن الدول العربية استعملت مبدأ سيادة الدول بشدة قبل ثلاثين عاما، لكن في أروقة اليونسكو ولكي تصد الهجمة الإعلامية الأمريكية التي وصفت بالاستعمارية آنذاك، ولحماية الإنتاجات الإعلامية العربية والعالمثالثية، والآن تستعمل الدول العربية نفس الإدعاء لكن في وجه "الجزيرة وأخواتها" -حسب تعبير قرأته ونسيت أين-، ولحماية نفسها من شعوبها، ولحماية الولايات المتحدة من "الإرهاب".

كانت الحدود ستبقى واضحة بين أسلحة الصحفي وبين أسلحة الدولة، بين ما هو حيز الصحفي المهني وبين ما هو حيز الدولة الرقابي، بين قواعد مهنة لا تستطيع الدولة النيل منها، وبين قوانين وتشريعات تطورها الدولة للالتفاف على قواعد المهنة دون أن تستطيع اختراق مساماتها (كما جرى الآن، ولحد وقاحة تعريف الموضوعية)، لو اكتفى وزراء الإعلام العرب بتحويل البنود الرقابية – عدم بث مواد تحث على الإرهاب وعدم نقد قادة النظام، والتي هي هدف الوثيقة الحقيقي- لبنود قانونية، بحيث تصبح جزءا من سلطة القانون الجنائي نفسه، بدل أن يدخلوا في تعريفات المهنة نفسها. كان من الأفضل لو اكتفوا بمنصب وزراء للقمع، بدل أن يضيفوا لهذا المنصب: وصحفيون درجة سادسة.

التعليقات