27/04/2008 - 17:43

ومن المفاوضات.. ما قتل!../ خليل شاهين*

ومن المفاوضات.. ما قتل!../ خليل شاهين*
لا تحاكم عملية المفاوضات بوصفها مجرد ثرثرة، انتهت إلى "فضيحة" للمفاوض الفلسطيني في واشنطن، ولا بوصفها مجرد اجتهاد من "بعض" القيادة الفلسطينية لاستكشاف آفاق التوصل إلى إقامة الدولة الفلسطينية عبر التفاوض، بل تحاكم بوصفها سياسة تعبر عن نهج متواصل منذ مؤتمر مدريد عام 1991، لا يؤمن بأية بدائل لمبدأ "ما لا يأتي بالمفاوضات يأتي بالمزيد منها".

أحد المعايير الصالحة للحكم على جدوى المفاوضات في غياب الإستراتيجية البديلة هو بالضبط ما سبق أن كرره الدكتور صائب عريقات، رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية، بقوله إن المفاوضات مجرد وسيلة تحاكم وفق مدى تقريبها الفلسطينيين من إقامة الدولة. وعريقات هو أول المطالبين بالإجابة، بعد عودته من واشنطن، عن السؤال البسيط وفق معياره: هل قربت المفاوضات الفلسطينيين من الدولة؟

إن فعلت المفاوضات ذلك، فلا بد للفلسطينيين من مكافأة أبطال منتخب المفاوضات، بل ولا مناص من اعتذار من أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بعد وهم يصرخون ليل نهار أن نهج التفاوض من أجل التفاوض لا يعني سوى مطاردة خيط دخان.

لكن سؤال الاقتراب أكثر من الدولة كلما طالت معركة المفاوضات واشتد أوارها يمكن أن يقرأ أيضا، على الجهة المقابلة من العملة، على النحو التالي: هل بعدت المفاوضات الفلسطينيين عن الدولة؟ ويترتب على ذلك مزيد من الأسئلة: إلى أي مدى ساهمت سياسة التفاوض على أنقاض البدائل الأخرى في إبعاد الفلسطينيين عن الدولة؟ أو إلى أي مدى أسهمت هذه السياسة في تقويض حل الدولتين؟

يتعلق مثل هذه الأسئلة بحسابات الربح والخسارة التي تتجاوز النظر إلى سياسة الرئيس محمود عباس كمجرد جلسات مباحثات إن لم تنفع فهي لا تضر كما يزعم البعض، لتطال رصد النتائج الفعلية لهذه السياسة على أرض الواقع. ففي نهاية المطاف، فإن المتغيرات على أرض الواقع ستبقي البرهان على مدى الاقتراب أو الابتعاد من الدولة كما يحددها أو "يعرفها" برنامج منظمة التحرير المعروف باسم "المشروع الوطني"، وكذلك البرنامج السياسي الذي انتخب على أساسه الرئيس عباس نفسه.

وفي رصد المتغيرات على أرض الواقع، تقرأ نتائج المفاوضات في حسابات الربح والخسارة بمدى التقدم الحاصل في كل من "المشروع الوطني" و"المشروع الإسرائيلي للحل"، فيما لا يحتاج المرء لعناء كبير ليلاحظ تراجع الأول لصالح تقدم الثاني بقوة الاستيطان والجدار والشوارع الالتفافية.

كان المسار السياسي الذي أفضى إلى تراجع الرؤية الفلسطينية للحل، وتقدم الرؤية الإسرائيلية على أرض الواقع، يتم في ظل المفاوضات، بل وفي أحيان كثيرة بفضل ما توفره من غطاء سياسي وعامل زمن لمضي الحكومة الإسرائيلية في فرض المتغيرات في خارطة الضفة الغربية تحديدا على الأرض، وفي تعميق الاختلال في ميزان القوى لصالح القوة المحتلة، وفرض هذا الاختلال بوصفه العامل المقرر على طاولة المفاوضات.

وكان كل ذلك يجري بعلم وموافقة الراعي الأميركي المتفرد بالحكم والتحكم بمسار المفاوضات بمباركة الطرف الفلسطيني الأضعف في المعادلة. لذلك، تبدو مشاعر الحنق الممزوجة بالاستغراب لدى أبطال منتخب التفاوض الفلسطيني من الموقف الأميركي حيال رفض "تعريف" الدولة الفلسطينية ارتباطا بحدود الرابع من حزيران 1967، وكذلك رفض ممارسة ضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان، ضربا من السذاجة التي ترقى إلى مستوى "الفضيحة".

فالرئيس عباس وفريقه التفاوضي انخرطا في مفاوضات يعرف الجميع أن الولايات المتحدة تدعم فيها علنا موقف إسرائيل الرافض للانسحاب إلى خط الرابع من حزيران، وقد ضمن الرئيس جورج بوش هذا الموقف في رسالة الضمانات المرفقة بخطة خارطة الطريق كما قدمت لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ارئيل شارون، إلى جانب مواقف أخرى تمس صميم قضايا الحل النهائي، كدعم ضم الكتل الاستيطانية لإسرائيل، ودعم مبدأ "يهودية" الدولة العبرية، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الديار التي هجروا منها، وغير ذلك.

إذن، فيم الدهشة والإحباط من الموقف الأميركي، وقد أجهز المفاوض الفلسطيني على كل أوراقه عندما توجه إلى مؤتمر أنابوليس وهو يعرف كل ما سبق، وليضيف إليه تسليما بوضع كل البيض في السلة الأميركية، من خلال الرضوخ لاستبدال مرجعية قرارات "الشرعية الدولية" بمرجعية الإدارة الأميركية، بل والتهليل لانتصار مزعوم باستحداث "آلية المراقبة الثلاثية" بقيادة واشنطن فيما يخص تطبيق خارطة الطريق. وبقية القصة في نتائج الرهان على الراعي الأميركي تابعها الجميع وصولا إلى زيارة الرئيس عباس الأخيرة إلى واشنطن؟!

والمفارقة أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، حسب استطلاعات الرأي العام، وخلافا لموقف أصحاب نهج التفاوض، لا تؤمن بإمكانية نجاح المفاوضات الجارية في التوصل إلى حل نهائي يحقق إقامة الدولة وفق "التعريف الفلسطيني"، بل وتطالب بوقفها طالما استمر التوسع الاستيطاني على أرض الواقع. وحده الرئيس وفريق "المقاطعة" يرى عكس ذلك ويرفض الاستماع لرأي الشارع ولمئات المقالات ووجهات النظر التي حذرت من نتائج التمسك بسياسة التفاوض على أنقاض الخيارات السياسية الأخرى، وقبل ذلك على أنقاض وحدة الشعب الفلسطيني باستمرار وضع الشروط التعجيزية لانطلاق حوار وطني شامل. وفي ضوء ذلك، فيم الدهشة إن استمرت شعبية الرئيس وحكومته بالتراجع مع نشر نتائج كل استطلاع جديد للرأي العام الفلسطيني.

ما تراه عين الفلسطيني من نتائج في التوظيف الإسرائيلي للمفاوضات العبيثة من أجل الإسراع في استكمال فرض خطة التجميع على أرض الواقع من دون "ضجيج فلسطيني"، أبلغ وأشد تأثيرا مما تسمعه أذنه من "ضجيج" حول نجاحات المفاوض الفلسطيني في تحويل المفاوضات إلى "وسيلة كفاحية" في مواجهة "المشروع الإسرائيلي للحل".

وفي الواقع، مثلما تراكمت "الخبرات" لدى عدد من أعضاء فريق التفاوض الفلسطيني طيلة السنوات الماضية، فقد تراكمت "الخبرات" في المقابل لدى جيل فلسطيني بأكمله لمحاكمة هذا المسار التفاوضي وفق النتائج التي يلمسها يوميا في تقلص مساحة الأرض التي تطؤها قدماه، وانحسار أفق حركته وتنفسه على مقاسات كانتونات الفصل العنصري الجاري ترسيمها في ظل جعجعة المفاوضات.

فهناك جيل من الفلسطينيين ولدوا عام 1991، عندما بدأ صائب عريقات وصحبه التفاوض في مدريد، باتوا يستعدون للالتحاق بالجامعات العام المقبل، وقد كانوا شهود عيان على هذا المسار الذي تضاعفت في سياقه مساحة الاستيطان، وأعداد المستوطنين، وبات حسم معركة القدس جغرافيا وديمغرافيا لصالح إسرائيل في آخر فصوله، وأنشئت سلطة وطنية تحددت وظائفها فيما نلمسه اليوم من استعصاء الانفتاح على أفق الدولة، وتعمق الانفصال بين سلطتين بحكومتين لا تقويان على الحكم.

نحن أمام جيل كامل شهد الانتفاضة الثانية صغيرا، إثر فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، وقد يفجر الانتفاضة الثالثة مع فشل المفاوضات الحالية في تحقيق ما يصبو إليه. فالانفجار إن حدث لن يتوقف على سجن غزة، وقد يماثله انفجار أشد في كانتونات الضفة. وفي كل ذلك استخلاص قد يكون الأهم، وهو أن التفاوض من دون مقاومة الإجراءات الإسرائيلية والتصدي لها في القدس وعلى الحواجز العسكرية والجدار ومداخل الكانتونات، إنما يعني استمرار تزويد الحكومة الإسرائيلية بمزيد من عناصر القوة لاستكمال فرض خطة التجميع بموافقة فلسطينية تأمل بانتزاعها داخل غرف المفاوضات، أو بالعودة إلى خيار فرضها بشكل أحادي الجانب إن تعذر الحصول على موافقة "الشريك الفلسطيني" على دولة الكانتونات حتى لو سميت دولة ضمن حدود مؤقتة.

وسيبقى المعيار الحاسم للحكم على جدوى المفاوضات هو مستوى التقدم الإسرائيلي في فرض خطة التجميع، وهو تقدم لا يقضي فقط على سياسة التفاوض المجردة من أوراق القوة، بل ويقضي على مبدأ حل الدولتين الذي ينشده الرئيس عباس وفريقه في اللهاث وراء خيط الدخان. وعند هذه النتيجة، سيتضح كم أسهمت المفاوضات من دون مقاومة في تبديد "المشروع الوطني" بدلا من تعزيزه وتقدمه، وسيتأكد أن من المفاوضات ما قتل!

التعليقات