26/07/2008 - 09:30

أوباما يعيد ترتيب أولويات أمريكا../ عصام نعمان*

أوباما يعيد ترتيب أولويات أمريكا../ عصام نعمان*

قد لا يختلف باراك أوباما كثيراً عن منافسه جون ماكين في الحرص على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة وفي نظرته إلى أعدائها وأصدقائها، لكنه يختلف كثيراً مع الرئيس جورج بوش في طريقة معالجة المشاكل والتحديات التي تواجهها. الاختلاف بين الاثنين يتركز على مقاربة أولويات أمريكا في المنطقة. كل الأولويات مهمة بطبيعة الحال، لكن ثمة بينها ما هو مهم وثمة ما هو أهم. في مجال المفاضلة بين الأولويات، أعاد أوباما ترتيبها على نحوٍ قلبها رأساً على عقب، أو كاد.

أولى أولويات بوش إيران. ليس الملف النووي الإيراني بل إيران تحديداً التي باتت، في نظره، قوة إقليمية مركزية تهدد مصالح أمريكا وحلفائها في المنطقة. لمواجهة إيران وتطويعها سعى بوش، من خلال تضخيم مخاطر عملية تخصيب اليورانيوم، إلى حمل إيران على وقف التخصيب - وهو أمر مستحيل في نظر طهران - تحت طائلة توجيه ضربة قوية إلى منشآتها النووية وقاعدتها الصناعية تعيدها عشر سنين إلى الوراء، أو تشديد العقوبات عليها ومحاصرتها بغية تعطيل اقتصادها وإكراهها على الرضوخ لمطالب الغرب الأطلسي.

قياديو الحزب الديمقراطي تحفظوا عن منطق بوش، حتى إذا حذر رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيوش الأمريكية من مغبة اللجوء إلى الخيار العسكري في مواجهة إيران بادر أوباما إلى الانحياز إلى معارضي الإدارة محبذاً الخيار الدبلوماسي.

غير ان أهم من موقف أوباما حيال إيران موقفه حيال أفغانستان. فالمرشح الديمقراطي للرئاسة يعتقد اعتقاداً راسخاً بأن كسب الحرب ضد “الإرهاب” في أفغانستان يجب ان يكون أولوية أمريكية مطلقة وليس الحرب في العراق. هو يؤكد، شأن كثيرين من زملائه الديمقراطيين، ان حرب بوش في العراق ألهت امريكا عن متابعة أولويتها المطلقة في أفغانستان. لذلك دعا أوباما - مع تأييد صريح من نوري المالكي - إلى الخروج من العراق في مهلة 16 شهراً والمبادرة إلى زيادة القوات الأمريكية في أفغانستان من أجل ضمان انتصارها على حركة طالبان.

موقف أوباما المغاير شكّل، إلى مواقف أخرى، ضغطاً على إدارة بوش، حملها على تعديل موقفها من قضيتي إيران والعراق. فقد وافقت واشنطن، بعد طول ممانعة، على مفاوضة إيران بإيفادها وكيل الخارجية للشؤون السياسية وليم بيرنز للمشاركة في اجتماعات جنيف بين وفدي الاتحاد الأوروبي وإيران لمعالجة الملف النووي. ثم ما لبثت الخارجية الأمريكية ان أعلنت عن اعتزامها إقامة مكتب لرعاية المصالح الأمريكية في إيران.

قادة “اسرائيل” لم يعجبهم أبداً لا موقف أوباما ولا موقف بوش الأخير من إيران. كانوا يعولون على قيام أمريكا، قبل انتهاء ولاية بوش، بتوجيه ضربة مدمرة إلى إيران. غير ان انفتاح واشنطن الجديد على طهران اعتبره هؤلاء، كما جاء في صحيفة “هآرتس” المستقلة، “صفعة أمريكية ل”إسرائيل””.

عشية وصول أوباما إلى “اسرائيل”، كشفت وزارة الخارجية في واشنطن موقفاً لافتاً يفصح عن مدى انزعاجها من المرشح الديمقراطي وخشيتها على ما تبقّى من أولوياتها في المنطقة. فقد طلبت الوزارة من سفرائها في الخارج تقليص المساعدة المقدمة إلى مرشحي الرئاسة خلال جولاتهما الخارجية “حتى لا يمثل ذلك انتهاكاً للقانون والسياسة الأمريكيين”. ماكين لا يتأثر، بطبيعة الحال، بهذا التدبير لأن مواقفه تكاد تكون متطابقة مع بوش الذي لا يبخل عليه بأي مساعدة ممكنة في كل المجالات. المقصود بالتدبير الأخير أوباما ليس إلا، خاصةً بعد تمكّنه من الحصول على موافقة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ونائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي على خطته بسحب القوات الأمريكية من العراق خلال 16 شهراً.

في “اسرائيل” حاول أوباما موازنة دعوته الجادة إلى قيام دولة فلسطينية إلى جانب الدولة العبرية بإظهار اهتمام بالغ بأمن هذه الاخيرة. لذلك حرص على زيارة بلدة سديروت المتاخمة لقطاع غزة والتي تتعرض غالباً إلى القصف بالصواريخ الفلسطينية، قبل ان ينهي زيارته التي دامت 15 ساعة بزيارة “حائط المبكى” (البراق).

لم يبكِ أوباما القتلى والجرحى “الإسرائيليين” الذين كان جرفهم غسان ابو طير (22 سنة) بجرافته على مقربة من فندق “الملك داوود” حيث يقيم السيناتور الأمريكي، كما فعل قبل نحو 20 يوما مواطنه المقدسي حسام دوبات (30 سنة). استنكر أوباما الحادث، لكنه لم يتراجع عن موقفه الداعي إلى “العمل على التوصل إلى تسوية سلمية بين “اسرائيل” والفلسطينيين من يومي الأول في السلطة إذا ما انتخبتُ رئيساً”.

إذ يتابع أوباما عملية إعادة ترتيب الأولويات الأمريكية في المنطقة، تتقلص فرص إدارة بوش في التوصل إلى تسويات مقبولة مع الأطراف المعنيين في العراق وفلسطين ولبنان، كما تتصاعد حرب طالبان على قوات حلف الأطلسي في أفغانستان، ذلك ان المسؤولين في تلك البلدان يميلون إلى الاقتناع، يوما بعد يوم، بأن إدارة بوش تفقد نفوذها باطراد وان لا مصلحة في عقد تسويات مع رئيس مغادر ما دام رئيس آخر قادما خلال أشهر معدودة. أكثر من ذلك، يشعر هؤلاء بأن الرئيس القادم هو باراك أوباما بالذات، وانه سيكون كريماً معهم أكثر من بوش المشاكس.

على هذا الأساس تشجّع المالكي ورفاقه في حكومة بغداد على رفض تعليمات بوش بوجوب الانتهاء من إقرار “اتفاقية وضع القوات الأمريكية” في العراق قبل آخر الشهر الجاري. ذلك حمل الخارجية الأمريكية على التسليم بالواقع والإعلان عن تأخير التوقيع “ بضعة أيام”.

رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض استشعر هو الآخر تراجع نفوذ بوش وانعكاسه على حكومة “اسرائيل” ورئيسها المضطر إلى الاستقالة عاجلاً أو آجلاً، فأخذ يهدد على غير عادته بالتراجع عن تطبيق الخطة الأمنية في المدن في حال استمرار التدخل “الإسرائيلي” في مناطق السلطة. هل يطول الوقت قبل ان يخالج الرئيس محمود عباس الشعور نفسه بالخيبة فيتخذ تدبيراً أكثر سلبية؟

في لبنان أحس أركان قوى “14 آذار” بأن حليفتهم إدارة بوش تليّن موقفها من سوريا وتكاد تجاري الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في تقربه المتدرج من الرئيس السوري بشار الأسد، فأخذوا يدعون على عجل الرئيس اللبناني ميشال سليمان إلى إرجاء زيارته المرتقبة إلى سوريا إلى ما بعد إقرار البيان الوزاري لحكومة السنيورة، والى إرجاء تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى ما بعد إفراج دمشق عن المعتقلين اللبنانيين في سجونها وتوفير المعلومات اللازمة عن المفقودين اللبنانيين في أثناء وجود قواتها في لبنان.

هذه المناورات وغيرها ما كانت لتحدث لولا ان قوى 14 آذار تشعر بضمور نفوذ واشنطن، فتحاول استنهاض إدارة بوش لدعمها قبل ان يصبح هذا الأمر صعباً وحتى مستحيلاً في الأشهر الثلاثة المقبلة.

إدارة بوش أصبحت، باللغة السياسية الأمريكية، “بطة عرجاء”. لذلك لن يهتّم أوباما بالسير على إيقاعها، ولا حلفاء بوش “السابقون” سيهتمون أيضاً.

التعازي بدأت اليوم والتهاني للرئيس الجديد في مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني.
"الخليج"

التعليقات