06/08/2008 - 23:17

ابراهيم شكري.. "فتى" مصر التسعيني../ معن بشور

-

ابراهيم شكري..
لم يُلمَّ خطب ببلد عربي إلا وكنت ترى هذا الشيخ الجليل إبراهيم شكري متأبطاً عمره المديد ومتوجهاً إليه مع كوكبة من أخوانه...

هذه كانت حاله مع بيروت المحاصرة صيف 1982، وقد جاءها بحراً على رأس وفد من كبار المثقفين والفنانين ليشهد في مثل هذه الأيام من شهر آب/ أغسطس واحدة من أعظم معاركها ضد الغزاة الصهاينة في محور المتحف حيث لم تستطع دبابة "الميركافا" الإسرائيلية أن تتقدم وبعد يوم كامل من القصف الجوي والبحري والبري سوى أمتار عدة قيل يومها أنها طول الدبابة نفسها، فاستحقت العاصمة صورتها التي وصفتها "السفير" حينها " بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء".

وهذه كانت حاله مع طرابلس مدينة الجرح المتجدد أبداً حين وصلها عن طريق البحر، أواخر عام 1983، ليسعى إلى وقف الاقتتال "الأخوي" الفلسطيني آنذاك، حول المدينة المجاهدة التي تعيش اليوم فصلاً جديداً من فصول تلك المأساة المتلاحقة، وبعناوين متعددة، وكأنه مكتوب على هذه الفيحاء أن تدفع بشكل دائم ثمن عروبتها وإيمانها وتضحياتها في كل معارك الوطن والأمة.

بل هذه كانت حاله مع بغداد الذبيحة يوم استبيحت من الاحتلال قبل سنوات خمس ونيّف فحزم إبراهيم شكري همته وعزيمته وتوجه إليها "متطوعاً" ليشارك في مقاومتها للمحتل الذي يقيم اليوم بين أحيائها أكثر من جدار عازل أو فاصل لا فرق، هدفه تفتيت العاصمة بعد تمزيق الوطن وتجزئة الأمة.

لم يكن العمر المثقل بالنضال والمواقف الشجاعة حائلاً أمام نخوة هذا الرجل الفذ من أبناء مصر، الذي يحمل جسده أثار رصاص الاحتلال الانكليزي في مظاهرات أواسط الثلاثينات، ولم تحل ظروف الإحباط المخيمة على أحوال الأمة دون تجدد عزم "فتى مصر" المناضل خريج حركة "مصر الفتاة" ونائب رئيسها ومؤسسها الزعيم الوطني المصري احمد حسين في كل مرحلة من مراحل العمل الوطني والقومي حتى استقر به الأمر رئيساً ومؤسساً "لحزب العمل" صاحب الصولات والجولات في مقاومة التطبيع ورفض معاهدة كمب ديفيد وتحقيق النتائج الباهرة في دورات مجلس الشعب إلى أن ضاق صدر السلطة (وكثيراً ما يضيق صدر السلطات في بلادنا) ذرعاً بالحزب فعمدت إلى تجميده، وإغلاق صحيفته "الشعب" مراراً وإدخال رئيس تحريرها الصديق مجدي احمد حسين السجن المرّة تلو الأخرى بسبب معارك مع وزراء نافذين كانت تنتهي عادة لمصلحة "الشعب" بإقالة الوزراء واستقالتهم أو بتعديل وزاري لائق.

ولم يكن إبراهيم شكري وطنياً مصرياً صافياً، وعربياً قومياً ساطعاً، بل كان وهو ابن الباشا صاحب أول مشروع قانون للإصلاح الزراعي إلى مجلس الأمة المصري قبل أشهر من ثورة 1952 التي أخرجته من سجن أدخلته إليه مقالة له شهيرة أعتبرها القضاء المصري مساً "بالذات الملكية" آنذاك.

وبقدر ما كان هذا المجاهد المصري، ذي الجذور العريقة في حركة بلاده النضالية، وطنياً وعروبياً واشتراكياً، كان في الوقت ذاته إسلاميا رافضاً ذلك الفصل المصطنع بين الدوائر الوطنية والقومية والإسلامية، بل بين القصيدة ومضمونها في العدل الاجتماعي...

استطاع إبراهيم شكري على مدى أكثر من سبعة عقود، هي عمره في النضال الوطني والسياسي، أن يحقق معادلة صعبة في التوازن بين المسؤوليات الوطنية والواجبات على مستوى الأمة، فلم يغرق في تفاصيل سياسات الداخل وتفاصيله عن النظر إلى أحوال العرب والمسلمين من حوله، كما لم يحلّق بعيداً في فضاء المواجهات القومية فيهمل أمور بلده، وكيف يفعل ذلك وهو ابن مصر التي تكاد تكون أكثر أقطار الأمة تأثراً وتأثيراً في واقعها ومصيرها.

حين اتصل بنا بالأمس اللواء طلعت مسلم (المنسق العام المساعد للمؤتمر القومي/الإسلامي ونائب رئيس حزب العمل) يعلمنا بوفاة الزميل في المؤتمرات الأستاذ إبراهيم شكري، قفزت بي الذاكرة عامين إلى الوراء، حين شن أولمرت، الراحل من الحكم بعد أسابيع، بدعم من إدارة بوش الراحلة من البيت الأبيض بعد أشهر، إلى حديث أبلغني به الصديق مجدي احمد حسين الذي أتى إلى لبنان في زمن العدوان مع مفتي مصر السابق الدكتور نصر فريد واصل وقائد المقاومة الشعبية في بور سعيد الشيخ حافظ سلامة، إن إبراهيم شكري، ابن التسعين، كان مصمماً أن يكون على رأس القادمين للتضامن مع لبنان عبر دمشق، لكن الجميع رفض ذلك بسبب تقدمه في العمر والطبيعة الصعبة للمرحلة، فكان جواب الرجل الكبير "هل تريدونني أن أغادر الدنيا ولا أشارك شعب لبنان معركة ظافرة طالما انتظرها العرب، أريد أن ازور لبنان لكي أرى كيف يثأر اللبنانيون لوطنهم من غزاة 1982، بل لأمتهم من كل الغزاة على امتداد الزمان والمكان".

يستقر اليوم إبراهيم شكري الجسد في أرض مصر الطاهرة التي طالما أحبها وأفنى عمره في سبيلها، لكن روح إبراهيم شكري ستستقر أيضاً في وجدان الأمة وستزهر مقاومة لكل احتلال بنفس العزم الذي واجه به إبراهيم شكري رصاص الانكليز في كوبري عباس عام 1935 وأطلق عليه مذاك لقب "الشهيد الحي" لأنه اعتبر شهيداً ونقل فعلاً إلى المشرحة في المستشفى ليكتشف الأطباء انه ما زال حياً.

التعليقات