22/09/2008 - 10:30

الأزمة المالية المعاصرة../ د.محمد الحسين

الأزمة المالية المعاصرة../ د.محمد الحسين
إن أحد أهم أسباب هذه الأزمة يكمن في أزمة النظام الرأسمالي نفسه...فالاثنين الأسود الحالي والذي واجه العالم صباح الاثنين في 15/9/2008 مع انهيار مؤسستين ماليتين عملاقتين هما مصرف ليمان برذرز LEHMAN BROTHERS وميرل لينش MERRILL LYNCH، هو تكرار لأزمات الاقتصاد الرأسمالي منذ الاثنين الأسود عام 1929 وانهيار البورصات الأمريكية حينها، والاثنين الأسود في عام 1987 والاثنين الأسود في 1997 في آسيا كلها أزمات دورية في النظام الرأسمالي..

ولكن بذور الأزمات الأخيرة بدأت في عام 1971 عندما تم فك الارتباط بين الدولار الأمريكي وبين الذهب، وكان ذلك بمثابة إعلان عن مرحلة جديدة للنظام الرأسمالي هي مرحلة الليبرالية الاقتصادية وتراجع دور الدولة في الحياة الاقتصادية وتحرير أسعار الفائدة وأسعار الصرف. وإذا استمر هذا الوضع فالرأسمالية والاقتصاد العالمي مرشحة لمزيد من الأزمات. وبرأينا فإن من الضرورة القصوى عقد مؤتمر دولي جديد على غرار مؤتمر بريتون وودز Bretton Woodsعام 1944 تكون مهمته صياغة نظام مالي عالمي جديد يكون فيه دور واضح للدولة عبر السياسات النقدية والمالية في حماية الاقتصاد العالمي والحد من تدهوره وآثار ذلك على البشرية وخاصة الفقراء منها، وتجاوز مقولة الليبراليين الجدد " دعها تشتد وستمر.." وتكفي الإشارة إلى أن من معالم أزمة الليبرالية الرأسمالية، أن قيمة الإنتاج الحقيقي في العالم بلغت /48/ ألف مليار دولار... بينما بلغت قيمة الأصول في العالم حوالي /144/ ألف مليار دولار، أما قيمة التعاملات في الأوراق المالية والمشتقات المالية فقد وصلت إلى حوالي /600/ ألف مليار دولار وهو ما يشير إلى ضعف الوظائف الرقابية للسلطات النقدية والأجهزة الحكومية في العالم... بفعل تراجع دور الدولة تحت عنوان الليبرالية الرأسمالية وهي المرحلة الراهنة في الرأسمالية..

سوء السياسات الاقتصادية للإدارة الأمريكية الحالية:

عدا عن أن الأزمة المالية الراهنة هي أزمة في صميم الرأسمالية ومراحل تطورها، فإن السياسات الاقتصادية التي انتهجتها إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش منذ عام 2001 من ليبرالية مطلقة، كانت البداية، وبدأت الأزمة مع تراجع عدد الوظائف وفرص العمل وزيادة الإقبال على القروض وخاصة العقارية من المؤسسات المالية، وزيادة الاستثمارات الأجنبية في أسواق المال الأمريكية، ثم ما شهده الاقتصاد الأمريكي، كأكبر اقتصاد في العالم، من حالة اقرب ما تكون إلى الركود، حيث سجل في السنوات السابقة نمواً ضعيفاً، وعلى الأغلب سيكون المعدل لعام 2008 سالباً أو صفرياً في أفضل الحالات...

ومع بداية عام 2007 بدأت في الظهور أزمة الاقتصاد الأمريكي عبر ما سمي بأزمة الرهن العقاري، أو ما سميت بالقروض السيئة، ما أدى إلى تدهور أوضاع المصارف وشركات التمويل العقاري الأمريكية بسبب عدم قدرتها على تحصيل القروض من المدينين، وخلق أزمات سيولة لدى هذه المؤسسات المالية، الأمر الذي أدى في مرحلة تالية إلى ظهور حالات الإفلاس التي يشهدها الاقتصاد الأمريكي والعالمي، فبلغ عدد المؤسسات التي أفلست أو قريبة من الإفلاس في أمريكا إلى حوالي / 120/ مؤسسة مالية، و قبل أيام كان الإفلاس المدوي لمؤسستي ليمان برذرز وميرل لينش ووصول عملاق التأمين الأمريكي AIG American International Group إلى حافة الإفلاس لولا تدخل الخزانة الأمريكية والاحتياطي الأمريكي الفيدرالي لإنقاذها.

ويكفي أن نشير إلى أن الأزمة المالية الحالية كلفت الاقتصاد الأمريكي فقط حتى تاريخه حوالي 1000 مليار دولار هذا عدا عن آثارها على الاقتصاد العالمي وخاصة الأوروبي والأسيوي وغيرها، مما استدعى تدخلاً مباشراً من الرئيس بوش وإدارته الاقتصادية لإيجاد حل لهذه الأزمة. وخصصت مبالغ ضخمة لتجاوزها قدرت بحوالي /800/ مليار دولار حسب خطة الإدارة الأمريكية، لأنها تنذر بمخاطر جسيمة على النظام المالي والاقتصاد الأمريكي وبالتالي العالمي، فبلغ مجموع ما ضخه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي حتى الآن حوالي /180/ مليار دولار، وقامت الخزانة الأمريكية بطرح سندات خزينة وشراء القروض المتعثرة لإنقاذ المصارف والمؤسسات المالية الأمريكية...

إن خطورة الوضع في أمريكا تكمن في الآتي:
أقرت إدارة الرئيس بوش بخطورة الأزمة وضرورة تدخل الدولة لمعالجتها، وهذا يعني استخدام الأموال الحكومية في المعالجة وهو ما يعني أن وزارة الخزانة الأمريكية والاحتياطي الفيدرالي ستستخدمان أموال الخزينة الأمريكية في مساعدة هذه المؤسسات وشراء القروض العقارية والأصول المشكوك فيها لدى المصارف والمؤسسات المالية، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى مزيد من عجز الموازنة الأمريكية والى ازدياد معدلات التضخم وأسعار الفائدة، وستزداد مديونية أمريكا، وهي حالياً الأعلى في العالم إذ من المتوقع مع خطة إدارة الرئيس بوش أن تتجاوز /11/ ألف مليار دولار أمريكي، ومخاطر ذلك على الاقتصاد الأمريكي خاصة والاقتصاد العالمي بشكل عام.

ونحن نعتقد أن هذه الإجراءات ستسهم في تهدئة الأسواق المالية لفترة محدودة، لكن الأزمة ستعود من جديد لأن الخلل قائم في بنية النظام والمعالجة حالياً تتم للنتائج وليس للأسباب، فخبراء صندوق النقد الدولي يشيرون إلى أن الأسوأ لم يأتي بعد.

ومن آثار هذه الأزمة هو تدخل الإدارة الأمريكية عبر استخدام أموال الشعب وأموال دافعي الضرائب، وخاصة الصغار، في إنقاذ هذه المؤسسات المتعثرة والتي كانت منذ أيام مؤسسات عملاقة ويملكها الكبار!.. بينما كان عتاة الليبرالية والرأسمالية يمنعون حكومات جنوب شرق آسيا – النمور الآسيوية – من التدخل إبان أزمة الاثنين الأسود عام 1997.. المهم أنهم اليوم يعترفون بأنها أسوأ أزمة يشهدها الاقتصاد الأمريكي منذ أكثر من 50 عاماً وأنها الأخطر. وهو ما يعد إحدى "مآثر" إدارة الرئيس بوش في المجال الاقتصادي، الذي ألهته شعارات الحرب على الإرهاب عن معالجة أزمات الاقتصاد الأمريكي مما أوصله إلى هذا الوضع الخطير...

آثار الأزمة على الاقتصاد العربي:

إن الأزمة انتشرت كالنار في الهشيم فوصلت إلى كافة دول العالم، فمن اليابان إلى روسيا إلى أوروبا وأمريكا اللاتينية سارعت المصارف المركزية إلى التدخل وضخ السيولة في الأسواق سعياً منها لتطويق الأزمة والتقليل من آثارها على الاقتصاد العالمي.

وفي وطننا العربي تتأثر الاقتصاديات العربية بهذه الأزمة، وخاصةً تلك الاقتصاديات المفتوحة أمام تقلبات الاقتصاد العالمي. فقد تعرضت أسواق المال في الدول العربية خلال السنتين الأخيرتين، وبعد أزمة الرهون العقارية، إلى تراجعات كبيرة وتذبذبات في مؤشرات الأسواق المالية، وخسرت الأسواق المالية العربية مئات المليارات من الدولارات. ومؤخراً أعلن في الإمارات العربية المتحدة لوحدها أن خسائرها تجاوزت الـ 300 مليار درهم إماراتي...

ولابد من الإشارة إلى قلقنا الكبير على الأموال العربية المودعة في المصارف والمؤسسات المالية الغربية، وخاصة الأمريكية وكذلك الاستثمارات العربية سواء للأفراد أو للصناديق السيادية العربية أو شركات الاستثمار العربية في الغرب. ونحن نعتقد أنها ستمنى بخسائر كبيرة وبالتالي فإن هذه الأزمة المالية كلفت الدول العربية أكبر بكثير مما كسبته من جراء ارتفاع أسعار النفط في الفترة الأخيرة...!!!
لذلك كنا ندعو دائماً إلى استثمار الأموال العربية في مناطق أخرى في العالم وخاصة في الوطن العربي ذاته...

تأثير الأزمة على الاقتصاد السوري:

نستطيع أن نؤكد أن الاقتصاد السوري من أقل اقتصاديات المنطقة تأثرا بهذه الأزمة. والسبب في ذلك يعود إلى ضيق قنوات نقل هذه الأزمة إلى الداخل السوري، لأن من أهم بوابات عبور هذه الأزمة هي المصارف والمؤسسات المالية، الأسواق المالية، الاستثمارات، القروض الخارجية، التجارة الخارجية. فالسوق المالية السورية لم تولد بعد، والمصارف والمؤسسات المالية ما تزال في بداياتها ويعد رأس المال الوطني هو الأكبر فيها وحتى لو وجد رأسمال غير سوري فان مصدره في الغالب عربي. إضافة إلى ما تقوم به السلطات النقدية السورية في المراقبة والإشراف على القطاع المصرفي وأسواق الصرف.

وكذلك الحال بالنسبة للاستثمارات، فنسبة الاستثمارات غير السورية في الاستثمار السوري لا تصل إلى أكثر من30% ومعظم هذه الرساميل غير السورية هي رساميل عربية. أما عن بوابة القروض الخارجية فان سورية نهجت خلال السنوات الماضية على تقليل الاعتماد على القروض الخارجية، وقامت بتسوية كامل مديونيتها الخارجية. وتبقى البوابة الأخيرة وهي التجارة الخارجية فإن بعض آثار الأزمة المالية العالمية يمكن أن تنتقل إلى الداخل السوري عبر ما ستشهده أسعار السلع والخدمات المستوردة والمصدرة في السوق العالمية من ارتفاع أو انخفاض، كذلك تبعاً لما ستشهده أسعار الصرف للعملات الرئيسية في العالم. وقد عانينا في السنوات الأخيرة من تضخم مستورد ويمكن أن تستمر هذه الحالة مع استمرار الأزمة المالية العالمية الراهنة.

بمعنى مختصر وواضح نود طمأنة أبناء شعبنا ورجال أعمالنا ومستثمرينا بأن آثار هذه الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد السوري ستكون محدودة جداً. وذلك بفضل السياسات الاقتصادية المتبعة وأسلوب الإصلاح الاقتصادي التدريجي مع تأكيدنا على دور الدولة الفعال والهام في حماية الاقتصاد ومصالح الناس سواء أكانوا فقراء أم أغنياء، وهو أسلوب جنب سوريا آثار الأزمة الراهنة إلى حد كبير.
"شام برس"

التعليقات