06/10/2008 - 07:14

للمصالحات معنى في لبنان../ عبد الإله بلقزيز

للمصالحات معنى في لبنان../ عبد الإله بلقزيز
حتى الآن، يبدو أن مفاعيل الوفاق الوطني اللبناني، الذي أطلقه “اتفاق الدوحة” قبل أربعة أشهر، تثمر نتائجها الطيبة على التوازن والاستقرار والتفاهم الوطني. ولست أقصد بذلك أن تنفيذ بنود الاتفاق أخذ مجراه بعد انتخابات رئيس الجمهورية، وتأليف حكومة الائتلاف الوطني، وإقرار القانون الانتخابي في المجلس النيابي، وانعقاد أولى جلسات الحوار الوطني برعاية رئيس الجمهورية، فهذه على أهميتها لا تختصر المشهد التوافقي الراهن في لبنان الذي يتوجه مسلسل المصالحات الذي بدأ في النصف الثاني من شهر سبتمبر/ أيلول 2008 المنصرم وما يزال مستمراً.

لا بد ابتداء من التشديد على أن التنفيذ السريع لبنود “اتفاق الدوحة”، وانخراط الجميع في ذلك التنفيذ من دون تردد، يوذن بنضج سياسي لدى الطبقة السياسية في لبنان أعلى مما كان متوقعاً حين قيل على نطاق واسع إن “اتفاق الدوحة” ليس أكثر من هدنة، وروهن على أن ينهار سريعاً أو في أقل القليل أن يشهد تعثراً مديداً في التنفيذ يعيد العلاقات الداخلية إلى مناخات التوتر والتواجس (التوجس المتبادل). وحين نتذكر أن “اتفاق الطائف” الذي أنهى الحرب الأهلية وقارب عمره العشرين عاماً على التوقيع، ما فتئ حتى اليوم موضع تجاذب ولم تنفذ بنوده كافة، أدركنا أهمية العمل الذي جرى في الأشهر الأربعة الأخيرة لطي صفحة النزاع الداخلي على السلطة في لبنان وتثبيت مبدأ الشراكة والتوافق.

على أن المصالحات خطت، في الواقع، خطوة أبعد مما فرضته على قواها المتنازعة أحكام “اتفاق الدوحة”. فإذا أمكن أن يقال مثلاً إن الاتفاق فرض عربياً ودولياً على من لا يريده من اللبنانيين، أو على من يعتقد أنه ما أنصفه في حقوقه، وما كان ممكناً رفضه مخافة الاصطدام بإرادة من فرضوه (وهذه قراءة ليست مجافية تماماً للحقيقة وإن لم تكن دقيقة)، فإن أحداً لا يملك أن يدعي أن هذه المصالحات موحى بها من خارج، أو أنها مصالحات إعلامية يقدم عليها من يقدم عليها كي يشهد الناس جميعاً على أنه ضد الفتنة ومع الوفاق الوطني لرفع الشبهة والعتب. ذلك أن هذه المصالحات صناعة لبنانية خالصة ليس من ختم خارجي عليها اللهم إلا إذا كان الارتياح لها من هذه الدولة أو تلك من الدول ذات العلاقة بالشأن اللبناني شبهة أو مدعاة إلى الاشتباه. وفي ذلك تزيُّد يفيض عن حدود المعقول. أما أن يقال إنها مصروفة للاستهلاك الإعلامي، فإن على مصدق الرواية أن يتمتع بخيال الراوي السياسي حتى يتفاعل مع المشهد ويعقله.

وللمرء هنا أن يلحظ ظاهرة تدعو إلى الاطمئنان في هذه المصالحات التي تجري وخاصة بين “حزب الله” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” وبين “حزب الله” و”تيار المستقبل” (من دون التقليل من المصالحة الجنبلاطية الأرسلانية في الجبل)، هي أنها جرت بعد أن بلغ الخلاف حد الصدام المسلح وآذن بإشعال فتنة. ومن يستعيد اليوم مناخ الانقسام الداخلي الحاد الذي شهده لبنان منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري (فبراير/ شباط 2005)، وخاصة منذ خريف العام 2006 (عقب انسحاب وزراء “أمل” و”حزب الله” من الحكومة، وإطلاق الاعتصام المفتوح في الوسط التجاري، ومقاطعة الموالاة للرئيس اميل لحود ومقاطعة المعارضة للحكومة)، مروراً بأحداث الجامعة العربية في بيروت التي كادت أن تتحول إلى اقتتال، وصولاً إلى معارك بيروت وبعض الجبل في 7 و8 مايو/ أيار 2008.. الخ، من يستعيد ذلك ويعطفه على ما جرى ويجري في العراق المحتل من اقتتال سني شيعي، يدرك كم كانت هذه المصالحات مطمئنة وشجاعة وقادرة على استيعاب ذيول ما جرى على فادح وطأته على النفوس.

وقد تكون العقدة الكبرى في مشهد المصالحات اللبنانية اليوم مسيحية. مازال الشرخ الداخلي المسيحي عميقاً منذ حصل الصدام الكبير بين قائد الجيش ورئيس الحكومة الأسبق الجنرال ميشال عون و”القوات اللبنانية” وقائدها سمير جعجع قبل ما يقل قليلاً عن عشرين عاماً، والتي لا يبدو أن أحداً منهما نسيه اليوم، خاصة في مناخ استقطاب لبناني وضع كلاً من الفريقين داخل تحالف أعرض مقابل للآخر. وإذا لم تكن مبادرات البطريرك صفير بما يمثل قد أفلحت في إثمار حوار مسيحي داخلي تزيد فرص امتناعه باستمرار الشرخ العميق بين “القوات اللبنانية” وتيار “المردة” نتيجة أثآر قديمة فإن ما تحاوله “الرابطة المارونية” اليوم على هذا الصعيد لن يكون مآله على الأرجح أفضل من مآل المسعى الذي ذهب فيه رأس الكنيسة المارونية صفير قبل أن يسلم بإخفاقه.

لا بد هنا من بعض الاستدراك على سبيل بيان الحدود التي في وسع مسلسل المصالحات الجارية أن يصل إليها، ومن أجل فهم دقيق للمعنى الذي قصدناه بالقول إنها مصالحات ذات نتائج إيجابية على الحياة السياسية اللبنانية. نحن لا نعتقد، وما اعتقدنا يوماً، أن أزمات لبنان السياسية التي ما توقفت منذ العام 1958 قابلة للحل من طريق مصالحات سياسية يجري فيها تبويس اللحى وترطيب الخواطر وتبادل القول المأثور: عفا الله عما سلف، فالأزمة في البلد أعمق وأعصى على صلح عشائري من هذا النوع. وهي أزمة تنهل مصادرها من طبيعة التكوين السياسي للنظام اللبناني الذي يقيم السلطة فيه على مقتضى قواعد طائفية تعصف بها، بين الحين والآخر، التحولات السوسيولوجية والسياسية المتدفقة من دون انقطاع، ما تنتجه أو تقود إليه من توازنات في القوى جديدة. وما لم ينجح اللبنانيون في التحرر من القيود التي يفرضها على تطور الحياة السايسية هذا النظام السياسي، لن يكون في وسع لبنان أن يخلص من عبء أزماته المستمر عليه. لكن هذه المصالحات، التي لن تقوى على تمنيع لبنان ضد أزماته البنيوية، قادرة على الأقل على أن تستوعب حدة تلك الأزمات وتصرفها في المجاري والقنوات السياسية على النحو الذي يحول دون التعبير عنها في الشارع ومن طريق الصدام الأهلي المسلح كما حصل في السابق.

ليس من وظائف وقائية أو علاجية تملك المصالحات السياسية الجارية النهوض بها، لكن الإسعاف قطعاً من وظائفها. وفي مثل حالة لبنان، لا يستهينن أحد بقيمة ذلك.
"الخليج"

التعليقات