01/10/2009 - 07:49

صيف الكراهية في أمريكا../ جميل مطر

صيف الكراهية في أمريكا../ جميل مطر
نحن المخضرمين، من منا لا يذكر صيف عام 1969 كان صيفا فريدا. الشباب والألوان في كل مكان، في الحدائق والمتنزهات العامة وفى الخلاء والمحميات الطبيعية، وشوارع المدن الجامعية الأشهر كمدينة آن آربر في ولاية ميتشيجان، وسيراكيوز في ولاية كاليفورنيا، وأكسفورد في بريطانيا، وفى أحرام الجامعات في مدن أوروبية وأمريكية وكندية مثل باريس وواشنطن ومونتريال. الموسيقا تصدح والفتيات يمرحن ويغنين حتى الفجر ويرفلن في جلابيب واسعة ألوانها زاهية.

كنا وكانوا في حال احتجاج سياسي على حرب وحشية في فيتنام وفى يد كل فتى وفتاة زهرة، ينقسمون إلى جماعات، هذه للخطابة، وتلك للرقص والغناء، وثالثة للاستماع إلى قصائد الحب. كان صيفا استحق بكل جدارة أن يطلق عليه صيف الحب.

تذكرت صيف ،1969 صيف الحب، وأنا أقرأ منذ أيام تصريحاً للرئيس الأسبق جيمي كارتر يصف فيه صيف 2009 بصيف الكراهية. قضيت دقائق أحاول استيعاب مدى القسوة المتضمنة في هذه العبارة. كنت كتبت منذ أسبوعين أصف حال أمريكا هذه الأيام ومبدياً الشفقة على إدارة الرئيس باراك أوباما ومصير خياراته التي حملته فيما يشبه الأسطورة إلى البيت الأبيض. كنت أتحسس مواقع الخلل في حكومة أوباما ومصادر الضغط الرهيبة عليه وعنف اللهجة المستخدمة ضده وغضب متصاعد من فئات متزايدة العدد ولكن تجنبت كلمة الكراهية فأنا أدرى بجسامتها وقسوتها، لذلك كانت مفاجأة أن أقرأ لرجل في قامة كارتر وحكمته ويعيش في قلب الأحداث ويحس بنبض الشارع الأمريكي يصف أيام أمريكا الراهنة بصيف الكراهية.

كارتر ليس شخصية سياسية عادية ولا يجوز أن نمر على كلامه مروراً سريعاً. فالرجل يقف على قمة سلم زعامة الحزب الديمقراطي وما كان يمكن أن ينطق بما نطق به إلا من باب الحرص على الحزب وعلى الإدارة التي تجسد إرادة هذا الحزب، والرجل زعيم سياسي خرج من قلب الجنوب الأمريكي، حيث نبتت العنصرية البيضاء ضد الإنسان الأسود، ولذلك فإنه حين يقول إن المعارضة المتصاعدة ضد الرئيس أوباما تنطلق من قواعد عنصرية ولأسباب عنصرية، فإن كل فرد منا يجب أن يأخذ كلامه مأخذ الخطورة وبكل الاهتمام.

والرجل معروف بشجاعة نادرة، وأقول شجاعة نادرة، لأن السياسي في أمريكا لا يجرؤ على توجيه اللوم علنا لـ“إسرائيل” وجماعاتها الأمريكية، وحين يفعل سياسي فإنه يستحق أن يحصل على ثقة وتصديق المحللين الجادين المهتمين بحال أمريكا ومصير قياداتها. وأعتقد أن موقفه المندد بنفوذ “إسرائيل” داخل أمريكا يعطي لتصريحه عن صيف الكراهية وعن عنصرية بعض أطراف المعارضة لأوباما صدقية كبيرة.يعود حديث الكراهية إلى يوم وقعت فيه حادثة تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في سبتمبر، ففي ذلك اليوم تولى الرئيس جورج بوش الصغير قيادة حملة أمريكية لشن حرب كراهية ضد الإسلام والمسلمين..

وقد دشن بوش الحملة بطرح سؤال خطير في مغزاه وشرير في هدفه، سأل لماذا يكرهوننا؟ وأجاب بنفسه على السؤال قائلاً: هم (المسلمون والإسلاميون) يكرهون الولايات المتحدة بسبب نظامها الديمقراطي. بهذا السؤال وإجابته عنه أشعل بوش كراهية أمريكية حمقاء ضد عدو من الخارج اختلقه، أو اختلقته له جماعات “المحافظون الجدد”.

لفت انتباهنا في تلك الأيام، أيام بوش اللئيمة التي أعلت صوت الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، أن الولايات المتحدة لم تشهد إلا القليل جداً من جرائم أساسها أو مبعثها عنصري، أو على الأقل لم تهتم وسائل الإعلام الأمريكية ومراكز الأبحاث بالكراهية الداخلية واهتمت بالتركيز على تضخيم طاقة الكراهية الأمريكية المخزونة وإعادة توجيهها لخدمة أهداف خارجية.

كان المطلوب طاقة هائلة ليشن حربا على أفغانستان وطاقة أضخم يغزو بها العراق ويفرض على دول معينة في الشرق الأوسط الانضمام إلى حلف غربي جديد. ولا يخفى أن اندراج دول إسلامية في حلف ينشر الكراهية ضد الإسلام كان سبباً مباشراً في تصعيد سباق الكراهية بين إدارة بوش وكافة شعوب المسلمين.

ولم يعد محل شك كبير في أوساط نخب السياسة الخارجية الاقتناع بأن سباق الكراهية التي أشعلها بوش وحروبه في المنطقة وإطلاقه العنان لـ“إسرائيل” لتحقق أطماعها وهي مطمئنة إلى انخراط الدول العربية والإسلامية في حلف ملتزم ضمنياً حمايتها ومنشغلاً بغيرها، ساهمت بقدر وافر في إفشال حروب بوش في العالم الإسلامي وفي فوز الحزب الديمقراطي وسقوط الرئيس بوش شخصياً وسياسياً سقوطاً مدوياً.

أوباما والكراهية

كثيراً ما تردد سؤال عن علاقة فوز باراك أوباما في انتخابات الرئاسة بحالة الكراهية الداخلية المزمنة في أمريكا وهي الحالة التي غطت عليها لثماني سنوات حملة بوش لنشر الكراهية للمسلمين.

لا أتصور أن الطبقة النافذة غابت عنها حقيقة وجود قاعدة للكراهية الداخلية في أمريكا كانت كامنة في عهد الرئيس بوش في انتظار خروجها للعلن عندما تسنح الفرصة المناسبة. وربما كانت وراء اختيار الرئيس أوباما من جانب هذه الطبقة النافذة الرغبة في تقليص هذه الكراهية أو منع انفجارها. وأذكر أن بعض الخبثاء تساءل عما إذا كان أوباما جاء للتنفيس أم للتغيير.

أجد صعوبة في القبول بالرأي القائل بأن الطبقة النافذة لم تكن تعلم بوجود كراهية عظمى كامنة أو أنها كانت تعلم ولكنها لم تحسب حسابها عند اختيارها لأوباما أو قبولها ترشحه.. الدليل على ذلك هو أن زعماء في الحزبين، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق جيمي كارتر، خرجوا الآن يؤكدون أن الكراهية الداخلية، وبخاصة الكراهية العنصرية، كانت موجودة وتؤكده أيضا تقارير عديدة صادرة عن مراكز أبحاث وأجهزة في الحكومة الفيدرالية عن أنشطة التنظيمات المتطرفة ودورها في نشر الكراهية.

يقول تيد جانديرسون TED GUNDERSON الضابط السابق بمكتب التحقيقات الفيدرالية في خطاب ألقاه في مظاهرة نظمتها جماعة عشاق الوطن في ولاية فلوريدا، إن الحكومة الفيدرالية أقامت 1000 معسكر اعتقال، وكلفت شركات نجارة بتصنيع نصف مليون صندوق للموتى قامت بتخزينها مع 30,000 مقصلة إعدام في مدينة أطلنطا عاصمة ولاية جورجيا، استعدادا ليوم إعلان قيام نظام عسكري يفرض الأحكام العرفية ويأمر باعتقال أو قتل المعارضين.

وفي بيان أصدرته جماعة حراس القَسَم OATH KEEPERS من مدينة ليكسنجتون بولاية ماساتشوستس، المدينة التي انطلقت منها حركة الاستقلال ضد الاستعمار البريطاني في عام ،1775 وردت عبارة نصها “نحن اليوم في وضع أخطر من وضعنا يوم خرج الشعب الأمريكي في ثورة يطالب بالاستقلال”. أحد حراس القسم، وهو ضابط مظلات سابق عائد لتوه من العراق وأفغانستان وصف أوباما بأنه عدو الدولة، وقال “أنا أفضل الموت على أن أعيش عبدا لحكومة أمريكي”. ويرتدي أفراد منظمة حراس القسم قمصاناً مكتوب عليها “أنا متطرف يميني وأفخر بذلك”.

ويقول ممثلون عن حركة “المليشيات” إنه منذ أن صار وجه الحكومة الفدرالية أسود، دعت الحركة المتطوعين في أيداهو ونيوجرسي وميتشيجان وفلوريدا وولايات أخرى إلى “التدريب في الغابات والأحراش على المهارات القتالية استعداداً ليوم التصدي للقوات المسلحة الاشتراكية التابعة للنظام العالمي الجديد”. ولم يكن معروفاً عن حركة “المليشيات” أن لها ميولاً عنصرية، ولكن يبدو أنها صارت عنصرية بعد وصول أوباما إلى منصب الرئاسة ومتأثرة بكثافة هجرة الملونين من أصول لاتينية.

ويقدر أحد رجال الأمن السابقين أن العنف الراهن لم يصل بعد إلى مستويات أعوام ،1996 ،1997 ،1998 ومع ذلك فقد تأكد أن أكثر من خمسين جماعة ميليشيا مسلحة نشأت في العامين الأخيرين فقط، وأن مبيعات الأسلحة اليدوية ضربت جميع الأرقام القياسية، ويروي بيرت ماكنتيار Burt McEntire ويعمل الآن في جهاز مكافحة المخدرات والمتفجرات في ولاية فرجينيا، تجربته مع إحدى جماعات الميليشيا، فيقول إنه اندس في صفوف إحدى الجماعات المسلحة “ليكتشف أن هؤلاء الناس يشترون كميات من الأسلحة والعتاد تتناسب مع عنف اللغة التي يستعملونها”، ويقول مراقب آخر إنهم ما زالوا دون مستوى ما كانوا عليه في التسعينات، ولكنهم بلغوا درجة من الضخامة هي الأعلى خلال اثني عشر عاماً. وقال إنهم جاهزون “ولا ينقصهم إلا إطلاق الشرارة”، وتنبأ بأنه “لن يمر وقت طويل قبل أن نرى عنفاً وتهديدات”.

وتشير إحصائيات أمنية إلى أنه تم اكتشاف أكثر من 75 مؤامرة داخلية، وأنه خلال الشهور الأخيرة فقط، وبالتحديد منذ أبريل الماضي، جرت 6 عمليات اغتيال رجال أمن بخلاف أن رجلا أبيض غاضباً جداً لفوز رجل أسود في انتخابات الرئاسة كان يعد قنبلة قذرة مشعة وقع اكتشافه قبل انتهائه من تنفيذ عمليته، ورجل آخر من جنود المارينز اعتقل أثناء تخطيطه لاغتيال أوباما، واثنان آخران في ولاية تينيسي ضبطاً يخططان لنفس الهدف. وفى بوسطن اعتقلت أجهزة الأمن رجلاً أبيض في حال غضب وثورة “بسبب عمليات إبادة الجنس الأبيض” بعد أن قتل اثنين من المهاجرين السود وبدأ التخطيط لقتل عدد من اليهود. وفي واشنطن قام رجل بقتل حارس متحف الهولوكوست.

وفي شهر فبراير الماضي، قتل رجل ينتمي إلى جماعة “المواطنون السياديون” أربعة أشخاص في مدينة نيويورك، متعللاً بأنه مواطن في “جمهورية نيويورك” ولا يعترف بولاية الحكومة الفيدرالية. والمعروف أن أعضاء هذه الجماعة يعتبرون أنفسهم أرقى من بقية المواطنين. هؤلاء قرروا أنهم يخضعون فقط للقانون العام وليس لقوانين الدولة، خلافاً للسود وغيرهم من الملونين الذين يجب أن يخضعوا للحكومة وقوانينها، فضلاً عن أن السياديين لا يدفعون ضرائب للحكومة.

أما رونالد كيسلر Ronald Kessler أحد أفراد حرس رئيس الجمهورية الذي استقال ليكتب كتاباً بعنوان “الخدمة السرية للرئيس” فيذكر أن أوباما كان هدفا لثلاثين تهديداً بالقتل كل يوم، وهو رقم يعادل أربعة أضعاف التهديدات التي كانت تصل إلى الرئيس بوش. وينشر أحد مراكز البحث إحصائية تؤكد أن المركز قد تعرف على 926 جماعة كراهية في العام الماضي (2008)، بزيادة 4% عن عام ،2007 وزيادة بنسبة خمسين في المائة عن أرقام عام 2000 أي عشية وصول بوش للحكم.
تجاوز العنف الكلامي ومظاهر الكراهية لأوباما كل ما كان متوقعاً. كان الرهان أن أوباما سيفتتح عصر ما بعد العنصرية، أو عصر ما بعد التمييز العنصري. كان هناك رهان آخر وهو أن أوباما سيتسبب في تعميق المشاعر العنصرية، لأن البيض سيراقبونه مراقبة شديدة وسيتعاملون بشك مع كل تشريع أو سياسة ينتهجها أوباما متوقعين أن يتحيز للسود والملونين على حساب مصلحة الجنس الأبيض.

توقعنا أيضاً تذمراً بين السود الذين فاقت توقعاتهم قدرات إدارة أوباما على تحسين أوضاعهم، هؤلاء الذين انتظروا عقوداً بل قروناً حتى جاءهم المخلص فإذا به كالرئيس الأبيض يبدو مربوط بمصالح الطبقة الحاكمة البيضاء.

ومن أمثلة العنف الكلامي بالغ القسوة والكراهية هذا الشعار الذي رفعه أحد قادة المعارضة حين قال ساخراً من أوباما “لا تدعوا أوباما يعرف ماذا يوجد بعد التريليون”، بمعنى أن الرئيس حقق عجزاً في الميزانية لا يماثله عجز آخر في التاريخ، رفع آخرون شعاراً لم يرفعه أحد من قبل حتى في ظل عهود التمييز العنصري وهو الفصل مع المساواة، آخرون رددوا في الإذاعات اليمينية عبارات من نوع “أوباما مثل أي زنجي آخر غاضب دائماً حتى وإن ابتسم”.

إلا أن أقسى ما قيل في حق أوباما كرئيس أسود لأمريكا جاء على لسان مقدم البرامج في قناة “فوكس” الفضائية المتهمة بأنها كارهة لكل شيء ما عدا اليهود وأباطرة المال. قال جلين بيك Glenn Beck عن الرئيس أوباما إنه “يحمل كراهية عميقة للبيض”. من ناحية أخرى طلع الإذاعي لو دوبس Lou Dobbs في قناة CNN على ملايين المشاهدين يحكي تفاصيل خطة أزطلان Aztlan المكسيكية، وهي الخطة التي يزعم دوبس أنها تهدف إلى تحرير جميع ولايات الجنوب التي كانت قديما جزءاً من المكسيك قبل أن تسلبها حكومة الولايات المتحدة غواية أو إكراها، ومن بينها تكساس وكاليفورنيا وإريزونا ونيو مكسيكو ونيفادا. الخطورة هنا أن حملة من هذا القبيل تضع أكثر من ثلاثين مليوناً من الأمريكيين من أصول لاتينية في موقع التواطؤ مع المكسيك وخيانة الولايات المتحدة. يذكرنا هذا بما حدث للجالية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية وما تحملته الجاليات الإسلامية خلال عهد الرئيس بوش وحربه العالمية ضد الإرهاب.

ويبدو أن الكراهية وصلت إلى سياسيين تمتعوا أحياناً بسمة معتدلة نسبياً مثل بات بيوكانن الذي بلغت به المبالغة حد تشبيه ما يحدث للأمريكيين البيض الآن بما كان يحدث للأمريكيين السود في عهود التمييز العنصري. وبعضنا لا شك يذكر حادثة ديك بيرى حاكم ولاية تكساس، وخليفة جورج بوش في منصب المحافظ، حين أعلن في أعقاب إعلان فوز أوباما بمنصب الرئاسة، عن احتمال قيام ولاية تكساس بالانفصال عن الولايات المتحدة الأمريكية كرد فعل لانتخاب رئيس أسود.

وإن تحدثنا عن المبالغات في لغة الكراهية المستخدمة حالياً في الميديا الأمريكية فلن تكفينا هذه المساحة التي بين أيدينا، يكفي إيراد نماذج بارزة مثل الكلمات التي صاغ بها ديك موريس المذيع في قناة فوكس روايته التآمرية ودعوته إلى الاستعداد للتصدي للقوى العسكرية “التي ستبعث بها منظمة الأمم المتحدة للقضاء على الدستور الأمريكي والديمقراطية وحقوق الإنسان”.

ومن النماذج أيضا رجل مشارك في المظاهرة التي حشدها اليمين الأمريكي احتجاجا على إصلاح برنامج الرعاية الصحية الذي يطرحه أوباما. يحمل صورة له كساحر مشعوذ إفريقي تخترق أنفه من الناحيتين عظمة، ورغم الاستنكار والإدانة استمر أعضاء الحزب الجمهوري في التهجم على أوباما وعائلته، إذ نقل عن أحد الناشطين في الحزب الجمهوري تعليقه في حديقة الحيوان على غوريللا إفريقية. جاء في تعليقه قوله: “لا بد أنها إحدى جدود ميشيل أوباما، وفى الغالب لن تكون مؤذية”.

ولا يغيب عنا ما فعله النائب، المتقلب بين الحزبين جون لويس حين قاطع خطاب أوباما قبل أيام قليلة واتهمه بالكذب، وكان يمكن أن يمر الحادث دون ضجة كبيرة كغيره من الحوادث المماثلة في تاريخ الكونجرس، لو لم يكن هذا النائب متطرفاً وعنصرياً إذ كان هو الذي رفع راية الكونفدرالية، رمز العنصرية ضد السود، على مقر الهيئة التشريعية في ولاية كارولينا الجنوبية فور إعلان انتخاب باراك أوباما رئيسا أسود للولايات المتحدة.

كما لا يغيب عنف ردود الفعل على الزيارة التي قام بها أوباما لمدرسة موجها منها رسالة إلي أطفال أمريكا، إذ اتهمته المعارضة بأنه “يحاول غسل مخ الأطفال ونشر أيديولوجيات شريرة” حتى إن بعض الآباء طالبوا الرئيس بألا يزور مدارس أطفالهم بدون الحصول على إذن مسبق من أولياء الأمور!!

تصدرت التفسيرات والأسباب التي قدمها خبراء وإعلاميون وأكاديميون أمريكيون، ولكني استأذن انتقاء عشرة منها على الأكثر:

1 - مازال الجمهوريون غير مصدقين لحجم الهزيمة التي مني بها الحزب الجمهوري والصورة السيئة التي خرج عليها زعيمهم جورج بوش من البيت الأبيض على يد زعيم ديمقراطي وأسود.

2 - لم يكن مبالغا كارتر والكاتبة الساخرة مورين دود وغيرهما حين قالوا إن الأمريكيين لم يتعودوا بعد على وجود رجل أسود في البيت الأبيض. تقول دود “بعض الناس لا يصدقون أن رجلاً أسود رئيس لأمريكا.. ولن يصدقوا”.

3 - شهدت السنوات الأخيرة صعوداً شديداً في التوترات العرقية والاجتماعية بسبب اتساع نطاق الهجرات من شعوب ملونة كالمهاجرين من بلاد أمريكا الوسطى والجنوبية ومن الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. ففي ولايات متعددة واجهت حكومات محلية مشكلات معقدة مثل لغة التدريس في المدارس وإقامة المساجد والكنائس الكاثوليكية وانحسار التحدث بالإنجليزية في عديد من مدن الجنوب وبخاصة فلوريدا وكاليفورنيا.

4 - نشطت نشاطاً خطيراً جماعات مسلحة تعمل على الحدود مع المكسيك زاعمة تحملها عبء وقف الهجرة غير الشرعية وتتسبب في عمليات قتل واسعة النطاق وهي متهمة بأنها “عسكرت” مساحات واسعة من أقاليم الحدود.

5 - الانتشار واسع النطاق لظاهرة معارض بيع السلاح اليدوي والمتوسط في تحد واضح لأوباما وحكومته التي تعهدت بتقييد حركة تملك السلاح.

6 - توسعت ظاهرة اجتماعات المدن و”حفلات الشاي”، وهي التي استخدمها أوباما بنجاح كبير خلال حملته الانتخابية، وانقلبت الآن ضده حيث يستخدمها الحزب الجمهوري والمتطرفون اليمينيون لنشر أفكار خطيرة بعضها فاشي التوجه، وبعضها من نوع المطالبة بالسيادة القانونية والسياسية للولايات، وإلغاء البنك المركزي، ومحاربة الأفكار الاشتراكية يقصدون بها برامج الإصلاح التي وعد أوباما الناخبين بتنفيذها.

7 - التقدم أو الانتشار الواسع في الأنشطة وتسهيلات الاتصال والتواصل عن طريق الشبكة الالكترونية، هذه الشبكة التي أبدعت جماعة أوباما في استخدامها خلال الحملة الانتخابية ويعود لها فضل كبير على فوزه.

8 - هزيمة بوش العسكرية، والسياسية والكشف عن فضائح تعذيب، والاعتراف الكامن بأن أمريكا أخطأت خطأ جسيماً بشنها الحرب ضد العراق، واستمر تصاعد الخسائر في حرب أخرى تسبب فيها بوش، هذه السلبية أضعفت قيادة الحزب الجمهوري، مما أدى إلى فراغ في القيادة الحزبية، أدى بدوره إلى زحف الغوغائيين والمتطرفين والمشعوذين والمتخلفين عقليا إلى احتلال مواقع التخطيط والتوجيه في أجهزة الإعلام اليمينية وفي الشارع وفي المجتمع المدني.

9 - كانت حادثة الأستاذ الأسود في جامعة هارفارد الذي اعتقل خطأ وتسرع أوباما في إقحام البيت الأبيض في الموضوع باتهامه الضابط الأبيض بالغباء أحد أهم دوافع تصعيد التوتر العنصري. أضف إلى هذه الحادثة أن أوباما، الرئيس الأسود راح يقضى إجازة الصيف في جزيرة مشهود لها بأنها منتجع أكابر الطبقة البيضاء الحاكمة. وتصادف أن أستاذ هارفارد الأسود كان يقضى إجازته بها. وقد وصف بعض كبار نزلاء الجزيرة من البيض وجود أوباما وصديقه البروفسور جيتس بينهم بالصدمة.

10 - كان منطقيا في الولايات المتحدة، كما في غيرها، أن يتدهور حال التكامل الاجتماعي والقومي تحت وطأة الأزمة المالية والاقتصادية التي خلفت ملايين العاطلين عن العمل ونسب مرتفعة من الخلافات الزوجية والطلاق والجرائم الصغيرة وبخاصة بين العائدين من ميادين القتال.

يحذر تشييب بير لبت مؤلف كتاب عن التطرف اليميني من قيام شخص انتحاري أو مجنون أو متطرف أو جندي عائد من أفغانستان والعراق بمحاولة للنيل من باراك أوباما متأثراً بحملة الكراهية المتصاعدة ضد السود وضد أوباما وعائلته بشكل خاص. ليس ممكناً ولا جائزاً الاستهانة بمفعول ملصق كريه وباعث عن الكره يحمل العبارة التالية “الموت لأوباما وميشيل وطفلتيهما الغبيتين”، عبارة تكفى لشحن الكره داخل كل أحمق متطرف.

نعم هناك فرق حقيقي بين استفحال الغضب والكره، لذلك اتفق مع الأستاذ جيمس كوروكوران من كلية سيمونز الذي قال إنه يشك في أن المحافظين سيتمكنون من لجم التطرف في اللحظة المناسبة قبل أن ينفجر في وجه إدارة أوباما وقطاعات أخرى من النظام السياسي الأمريكي. وأضيف أنه إذا لم تتوقف فوراً حملة الميديا المنظمة المتعمدة لإثارة مشاعر البيض ضد أوباما والسود، فالمؤكد أن الكراهية سوف تطغى على ما عداها من مشاعر، كمشاعر الانتماء أو الوطنية أو الثقافة العالمية أو ما شابه ذلك.

أمامنا سؤالان، يعتمد على إجابتهما أمور كثيرة شديدة الأهمية، يتصدرها مصير مشاريع أوباما الداخلية وخططه لتطوير سياسة أمريكا الخارجية.. يتعلق السؤال الأول بالقنبلة التي فجرها جيمس كارتر حين اتهم المعارضة السياسية باللعب على وتر العنصرية وكراهية السود للبيض، وما إذا كان متعمدا تفجيرها أم أنها زلة لسان ورأي شخصي..

لا توجد حتى الآن إجابة واضحة، ولا يقلل من آثارها رد فعل البيت الأبيض الذي رفضها وإن بحماسة ناعمة، ولكن الاحتمال الأقوى يبقى لصالح الرأي الذي اشترك في تبنيه والقائل بأن كارتر فعل فعلته وهو يعلم تمام العلم أنه ينطق بلسان باراك أوباما الذي تمنعه جميع الظروف عن النطق بها.

يتعلق السؤال الثاني بدور الطبقة المالية، أي الطبقة التي تسببت في أزمة الرأسمالية العالمية، وأزمة الاقتصاد الأمريكي، وهي الطبقة التي حاول أوباما تهذيب سلوكياتها رغم استعداده لدعمها، وهي الطبقة نفسها التي عادت تمارس سلوكيات لا تختلف كثيرا عن السلوكيات التي دمرت حياة الملايين من بني البشر، وهي الطبقة التي تكره إصلاحات أوباما أكثر مما تكره عقيدة كارل ماركس.

الفضل لأوباما في أنه من دون قصد وبكل النوايا الطيبة أعاد الكراهية من خارج أمريكا إلى داخلها. ومع ذلك أخشى أن يتحطم إنجازه الأكبر وهو انفتاحه على المسلمين والإسلام، على صخرة سياسات أمريكا العسكرية واستراتيجيات الهيمنة التي تطبقها إدارته في العراق وأفغانستان ومعظم أنحاء العالم الإسلامي. أضف كذلك فشله في لجم “إسرائيل”، بل وخضوع إدارته المتدرج لها. عندها ستكتشف خطورة المأزق الذي ينحدر إليه أوباما تحت ضغوط الكراهية وخطورة المأزق الذي نكون قد انزلقنا إليه إن نحن أشفقنا فتهاونا.
"الخليج"

التعليقات