23/10/2009 - 09:59

منظمة التحرير الفلسطينية.. بداية النهاية../ سمير كرم

منظمة التحرير الفلسطينية.. بداية النهاية../ سمير كرم
عاشت جماهير الأمة العربية لنحو خمسة عقود متوالية تعتبر عبارة «منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني» عقيدة رسمية وشعبية لها وهتافها وشعارها الأول، قبل كل المبادئ والشعارات الأخرى المتعلقة بفلسطين والتحرير.

وطوال حقب الصراع الشرعي بقيادة هذه المنظمة كانت الحكومات العربية تنتقل من مؤتمر إلى مؤتمر ومن مناسبة دولية إلى أخرى طارحة هذا المبدأ ـ العقيدة ـ الشعار بنداً أول لجدول أعمالها...حتى حينما وقعت كارثة كامب ديفيد التي أخرجت مصر من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وهزت مواقف كثير من الحكومات العربية من هذا الصراع، ظلت تخفي عن جماهيرها هذا التراجع والاهتزاز، وراء ستار التمسك بشعار «منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني».

ماذا الآن وقد قررت منظمة التحرير الفلسطينية ـ بالممارسة الفعلية وبوضع توقيعها على عدد من السياسات الرسمية للسلطة الفلسطينية ـ أن تخرج من الصراع العربي ـ الإسرائيلي؟

لقد قدمت السلطة الفلسطينية الدليل القاطع على أنها اختارت الخروج من هذا الصراع.

لم تكن أوسلو ولا دايتون ولا أي لقاء آخر أو أية اتفاقات أخرى كافية لتكون بمثابة الجرم المشهود الدال على أن منظمة التحرير الفلسطينية وصلت إلى نقطة العجز عن تمثيل الشعب الفلسطيني، تاركة السلطة تقرر التصرف كأنها جزء تابع للإدارة الإسرائيلية. أصبح يكفي أن يصيب الشلل منظمة التحرير الفلسطينية بينما السلطة تمارس التعاقد والتعاون مع العدو الإسرائيلي ـ بما في ذلك أمنياً ـ تسلمه أبناء الشعب أخوة المنظمة ليضمهم إلى آلاف الأسرى والمعتقلين في سجونه.

أصبح كافياً أن تبادر السلطة إلى الانحناء طاعة أمام الضغط الإسرائيلي الأميركي، فتسبقهما إلى طلب تأجيل النظر في تقرير لجنة حقوق الإنسان الدولية برئاسة القاضي الدولي ريتشار غولدستون... وعندما ترتعد السلطة أمام رد فعل الشعب الفلسطيني ومؤيديه في أنحاء العالم، وعندما تخشى إسرائيل أن تغير السلطة الفلسطينية موقفها تعلن صراحة أنها كانت تحارب الفلسطينيين في غزة بتحريض من السلطة الفلسطينية، بل تعلن إسرائيل أن السلطة الفلسطينية كانت تمعن في تحريض الآلة العسكرية الإسرائيلية على تشديد النكير على المقاومة الفلسطينية: «دعونا ننتهي منهم» عندما كان يبدو أن في نية إسرائيل أن تنهي ما يسميه العالم الآن جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة.

أصبح يكفي أن ندرك أن السلطة الفلسطينية تحولت من ابن شرعي لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى ابن غير شرعي للسياسات الإسرائيلية والأميركية ضد القضية برمتها. وأصبح يكفي أن يدرك الشعب الفلسطيني والعربي أن مرحلة جديدة بالغة الخطورة قد بدأت أصيبت فيها منظمة التحرير الفلسطينية بسكتة دماغية وقلبية معاً في وقت واحد، إذ أصبحت غير قادرة على التحرك للتبرؤ من السلطة الفلسطينية وممارساتها.

هذا اخطر بكثير من خروج مصر السادات من الصراع العربي ـ الإسرائيلي قبل ثلاثين عاماً... فوقتها صمدت منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهة الصدمة، ووقفت تمثل شعبها وتعطي الدليل لشعب مصر والشعب العربي على أن الفلسطينيين صامدون مستمرون في المقاومة. وكان أن اجبر الشعب المصري حكامه على أن لا يجاهروا بالتطبيع.

قد لا يستطيع كثيرون من بسطاء الشعب العربي في مصر وغيرها أن يميزوا بين السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، لكنهم يدركون أن السلطة وباسم المنظمة أخرجت نفسها من الصراع وقررت مؤازرة العدو الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، وقررت دعم إجراءاته بتسليم فلسطينيي المقاومة في الضفة الغربية ليتم ترحيلهم إلى معتقلات إسرائيل. لهذا فإن هذا الموقف بدا كافياً ليدرك هؤلاء البسطاء أن المنظمة قد ماتت بما فعلته السلطة.

بالتالي فإنه من وجهة نظر شعبية بحتة أصبح من المحتم أن يبدأ النضال الفلسطيني من البداية، من الخطوة الأولى، إذا لزم الأمر، من اجل استعادة الأرض وإقامة الدولة الحقيقية ذات السيادة والقادرة على الدفاع عن نفسها. فإن السلطة أو المنظمة لم تعد قادرة على أن تقود... بل إنها غير قادرة على أن تعود إلى الحياة، فضلاً عن أن تعود إلى المقاومة.

بل الحقيقة أن السلطة أو المنظمة لم تعد تصلح شريكاً لمؤيدي الشعب الفلسطيني الذين تكتظ بهم أصقاع العالم متظاهرين ومحتشدين ومعتصمين ومحتجين. لقد وجد مؤيدو الشعب الفلسطيني أنفسهم فجأة مضطرين لأن ينددوا بالسلطة الفلسطينية ومواقفها المتخاذلة وتحريضها غير المتخاذل لإسرائيل ضد المقاومة.

لم يعد مؤيد القضية الفلسطينية يكتفي بالتنديد بإسرائيل وجرائمها ضد الفلسطينيين، إنما أصبح من قبيل الواجب الأممي والنضالي أن يكشف هذا التواطؤ الذي دفع رئيس السلطة الفلسطينية لأن يصدر تعليماته إلى ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في جنيف بالتعاون مع الجهد الأميركي ـ الإسرائيلي لحمل مجلس حقوق الإنسان الدولي على تأجيل النظر في قرار بإحالة تقرير لجنة غولدستون إلى مجلس الأمن.

وبسبب هذا التأييد الدولي للقضية الفلسطينية رغماً عن مواقف السلطة/المنظمة فشلت محاولة التأجيل في منتصف الشهر الحالي.

اضطر مؤيدو حقوق الشعب الفلسطيني ـ حتى داخل إسرائيل ـ إلى اعتبار موقف السلطة سبباً كافياً للاعتراف بحماس باعتبارها «القيادة الوطنية الحقيقية للشعب الفلسطيني»، وبالتالي إن السلطة الفلسطينية لم تعد الشريك الشرعي الذي ينبغي أن تتفاوض إسرائيل معه سعياً وراء حل للصراع عن طريق المفاوضات في المستقبل القريب». (حسب تعبير جويل بينين في مقال نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية المستقلة في 7/10/2009).

وعبرت عميرة هاس الصحافية الإسرائيلية المؤيدة لحقوق الفلسطينيين والتي تقيم في الضفة الغربية وليس في إسرائيل عن المعنى نفسه في قولها «لقد برهن محمود عباس في مكالمة هاتفية واحدة إلى ممثله في جنيف عن إغفاله للعمل الشعبي وافتقاره إلى الإيمان به في مواكبته للسلطة والمكان الذي يضع فيه الحركات الجماهيرية في عملية التغيير. لمدة تسعة أشهر ظل آلاف الناس من الفلسطينيين ومؤيديهم في الخارج والناشطين ضد الاحتلال في إسرائيل يناضلون من اجل أن لا يلقى في مزبلة دول الاحتلال بما لديها من مشاعر التفوق، ميراث العدوان العسكري الإسرائيلي ضد غزة.» (هآرتس في 7/10/2009).

هكذا أصبح واضحاً أن التقدم ـ في نظر السلطة/المنظمة هو البقاء على مقاعد الحكم للقيام بدور «المقاول من الباطن» لحساب جيش الدفاع الإسرائيلي وإدارة المخابرات الإسرائيلية الداخلية ( الشين بيت) وإدارة الحكم الذاتي «(حسب تعبير منظمة «أخبار السلام اليهودية» في موقعها على الانترنت في 12/10/2009).

يبدو ـ مع ذلك ـ أن هذا التحول نحو التفاوض من موقع الخادم المطيع لأميركا وإسرائيل المعترف بأفضالهما عليه ليس كافياً لأن الإدارة الأميركية أظهرت إصرارا على مواصلة الضغط على هذا الجانب الفلسطيني نفسه، بعد كل ما تعرض له من معارضة فلسطينية وعالمية. لقد بعثت الإدارة الأميركية برسالة إلى الحكومة المصرية ـ أثناء اجتماع المبعوث الأميركي جورج ميتشل والوزير عمر سليمان مدير المخابرات العامة المصرية ـ طلبت فيها أن تمتنع القاهرة عن تأييد اتفاقية المصالحة بين حركة فتح وحركة حماس، لأنها تضر بفرص التفاوض بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.

أي أن الإدارة الأميركية طلبت من مصر أن تجهض الاتفاقية التي صاغتها بنفسها بعد مجهود شاق بين الطرفين الفلسطينيين، لتكون الوثيقة التي تتم على أساس بنودها المصالحة الوطنية بين حماس وفتح (...).

ولعل رفض حماس وباقي فصائل المقاومة المتحالفة معها لتوقيت المصالحة ـ بعد افتضاح موقف السلطة إزاء تقرير غولدستون ـ كان هو المنقذ الوحيد لحكومة القاهرة من الحرج الذي كان لا بد أن يصيبها من الرضوخ للمطلب الأميركي بسحب تأييدها للمصالحة الفلسطينية.

وفي ضوء هذا الرفض لتوقيت المصالحة اصبح في حكم المقرر ان تقوم وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلنتون بزيارة لإسرائيل لحث رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو على العمل بجد من أجل أن تستأنف مفاوضات السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وستعيد هذه الزيارة أجواء تراجع إدارة الرئيس الأميركي أوباما الصريح عن شرطها السابق بأن توقف إسرائيل نشاطاتها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ومن الواضح أن الجانب الأميركي مستمر في تجنب تناول هذه الزاوية من الموضوع ليخفي خضوعه لرغبة إسرائيل في إسقاط هذا الشرط... الأمر الذي يسهم في إضعاف السلطة الفلسطينية ويهز مركز قيادتها.

أما كيف سيكون موقف السلطة/المنظمة فإن الدلائل تشير إلى أن محمود عباس قد كيّف تفكيره وسلوكه في القضية مع المطالب والضغوط الأميركية اعتقاداً منه بأن الفوائد التي ستعود على السلطة ستكون كافية لمنحه تأييد الغالبية في السلطة وفي المنظمة.

ولا يعني هذا على الإطلاق انه سيحصل في الوقت نفسه على صمت من الجماهير الفلسطينية أو على تراجع من منظمات المقاومة التي ردت على سلوكه إزاء تقرير غولدستون برفض المصالحة.

إن استمرار السلطة/المنظمة الفلسطينية في إغفال ما يريد الشعب الفلسطيني ـ وهو نفسه ما تعبر عنه المنظمات المتمسكة بالمقاومة ـ لا يعني أبداً أن خروج السلطة والمنظمة من الصراع العربي ـ الإسرائيلي سيمر من دون عواقب وخيمة.

إن أكثر الفرضيات شرعية وعقلانية هي التي تتوقع أن لا تسير إسرائيل في طريق السلام والمفاوضات. لقد أظهرت إسرائيل بشتى السبل أنها لا تريد بأي حال سلاماً مع الشعب الفلسطيني، حتى لو توفرت لها أفضل الشروط. ويشير هذا إلى أن لإسرائيل «أجندة» إقليمية تتصور من خلالها أنها تستطيع أن تفرض وضعاً بالقوة العسكرية يشمل محاصرة الفلسطينيين خارج أراضيهم. فأين ستضع السلطة/المنظمة نفسها في مثل هذه الظروف؟ لقد أظهرت سلوكيات الأشهر القليلة الأخيرة بنوع خاص أين تقع مواقف السلطة/المنظمة وأين تتبلور ولاءاتها.

لقد بدأت مرحلة نهاية شرعية منظمة التحرير الفلسطينية. وهذا يعني الحاجة إلى بداية جديدة للنضال الفلسطيني في ظروف اعقد سياسيا... ولكنها أوضح وأصلح للمقاومة محلياً وإقليمياً وحتى دولياً.
"السفير"

التعليقات