04/11/2009 - 08:18

من وعد بلفور البريطاني إلى التوحد مع المشروع الأميركي../ طلال سلمان

من وعد بلفور البريطاني إلى التوحد مع المشروع الأميركي../ طلال سلمان
وفي الذكرى الثانية والتسعين لصدور «وعد بلفور» بإقامة «وطن قومي لليهود» على أرض فلسطين العربية، أسقطت وزيرة الخارجية الأميركية السيدة هيلاري كلينتون آخر ما كان تبقى من وعود رئيسها باراك أوباما، وسلفه جورج بوش، حول «دولة ما» لشعب فلسطين على بعض البعض من أرضه التي ظلت أرضه على مر الأزمان.

وعلى خطورة ما ترتب من نتائج على تنفيذ «وعد بلفور» بإقامة دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية، بالقوة المسلحة، وتواطؤ الانتداب البريطاني مع العصابات اليهودية المعروفة وأشهرها «شتيرن» و«الهاغاناه»، على ترويع الفلسطينيين بالمذابح المنظمة التي أبادت سكان قرى بكاملها ولم تفرّق بين الرجال والنساء والأطفال، تمهيداً لطردهم أو إجبارهم على الخروج من ديارهم هائمين على وجوههم الى الأقطار العربية الأقرب (لبنان وسوريا خاصة)،
...فإن قراءة متأنية للأحداث التي مهدت ثم رافقت تنفيذ هذا الوعد «الذي أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق»، تكشف أن «وعد بلفور» إنما كان خلفه في سلسلة من المخططات والسياسات الغربية التي مزقت المشرق العربي بأهله الى مجموعة من الدويلات العاجزة والمفتقرة الى أبسط مقومات الحياة، فكيف بأن تكون «دولا» قابلة للحياة، وقادرة على حماية وجودها ذاته، ناهيك بالأهلية والكفاءة والقدرة على نجدة الشعب الفلسطيني وتأمين الدعم اللازم له لمواجهة جيش نظامي جاء جاهزاً عبر الفرق اليهودية التي كان قد تم حشدها وتدريبها وتسليحها عبر الحرب العالمية الثانية، لتتولى «تطهير» الأرض من أهلها تمهيداً لإقامة الوطن القومي اليهودي في قلب مشرق عربي ممزق الى دويلات، فيها الإمارة، وفيها المملكة، وفيها الجمهورية، وفيها الكانتونات الطائفية، وفيها الأوهام الإمبراطورية التي تحولت الى كوابيس تطارد أصحابها في المنافي.

قبل إقامة إسرائيل بثلاثين سنة، أي مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، كان الحلفاء، وبالذات منهم البريطانيون والفرنسيون، قد توزعوا في ما بينهم المشرق العربي، أي: فلسطين وسوريا التي اقتطعوا منها إمارة شرقي الأردن للأمير عبد الله (الذي سيغدو مع النكبة في فلسطين ملكاً)، ثم طردوا من دمشق الابن الثاني للشريف حسين، فيصل الذي نودي به ملكاً، الى بغداد حيث سيكون عرشه الهاشمي، تمهيداً لان يمزقوا سوريا الى أربع دويلات طائفية لم تعمر طويلاً، بسبب تمسك السوريين بوحدتهم...

أما لبنان فقد ابتدعوا له كياناً خاصاً بإضافة الجنوب والبقاع والشمال وبيروت الى «متصرفية جبل لبنان» لتكون «الجمهورية اللبنانية» التي لا تزال تتصدع مع كل حدث كبير يقع في سائر الدول من حولها، ناهيك بالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليها التي توالت وتدرجت عنفاً حتى صارت حروباً شاملة (منها الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982، الذي أدى الى طرد المقاومة الفلسطينية من لبنان، ومنها الحرب الإسرائيلية على لبنان ومقاومته الباسلة في صيف 2006، فضلاً عن أنصاف حروب استهدفت جنوب لبنان والمقاومة فيه خلال أعوام 1993 و1996و1999 الى أن أخرجت المقاومة المجاهدة قوات الاحتلال الإسرائيلي من كامل الأرض اللبنانية في 25 أيار ـ مايو 2000).

من هنا نفهم لماذا عجزت «دول» عربية عدة عن مواجهة «العصابات الإسرائيلية» التي صارت جيشاً قوياً بسلاح طيران ودبابات ومدفعية ميدان، وبقادة مؤهلين، وقد اكتسبوا خبرات قتالية ممتازة عبر جيوش الحلفاء، بينما لم يكن لدى أي دولة عربية جيش بالمعنى المعروف للكلمة، ما عدا مصر التي كان الاحتلال البريطاني يتحكم بقرارها، ومع ذلك فقد بعثت بجيشها الى الميدان حتى لا يسجل عليها أنها تخلت عن فلسطين وتقاعست عن نجدة شعب شقيق.

على أن الترجمة العملية لوعد بلفور جاءت من ألمانيا عبر احتلالها دولاً أوروبية عدة، حيث قام الجيش النازي بتنظيم مذابح ومعتقلات عنصرية لليهود في أكثر من دولة أوروبية بينها على وجه الخصوص ألمانيا ذاتها وبولونيا.

وفّر هذا الاضطهاد النازي ذريعة دموية لمطالبة يهود أوروبا بدولة لهم، تكون «وطنهم القومي» حيث يأمنون على أنفسهم من الإبادة... وبرغم أن الحلفاء كانوا قد درسوا أكثر من خيار لمثل هذه الدولة اليهودية، فقد أصر اليهود على فلسطين، وعززوا مطالبتهم بالوعد التعيس الذي كانوا قد حصلوا عليه من وزير خارجية بريطانيا آنذاك، آرثر بلفور... خصوصاً أنهم كانوا قد استطاعوا خلال الحقبة الفاصلة بين الحربين الاستيلاء على مساحات واسعة من أرض فلسطين، أقلها بالشراء ومعظمها بمساعدة قوات الاحتلال البريطاني! ثم أتموا «مصادرة» أراضي الفلسطينيين، وفيها المدن والبلدات والقرى، عبر الغارات المنظمة التي شنتها عليهم العصابات اليهودية التي ستغدو «جيش الدفاع الإسرائيلي» قبيل وخلال الحرب التي امتدت متقطعة على امتداد العام 1947 وحتى 15 ايار ـ مايو ـ 1948.

ما تحاول تبيانه هذه القراءة المتأخرة للحقبة الزمنية التي سبقت إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين وعلى حساب شعبها أن الأهداف البعيدة لهذا المشروع كانت تتجاوز الهدف الإسرائيلي الخطير، وبينها:
الفصل الكامل بين مشرق الوطن العربي ومغربه، ففلسطين كانت هي الرابط بين مصر ومن خلفها أفريقيا العربية، وبين سوريا ومن خلفها العراق والجزيرة العربية...

وبينت «الإغراءات» اليهودية التي قدمت لبريطانيا «أن إسرائيل ستكون الحامية القوية لقناة السويس بأهميتها الحيوية للإمبراطورية في ما وراء البحار». ولقد تمت الخطوة العملية في هذه الخطة عندما استولت القوات الإسرائيلية على «أم الرشراش» فوضعت أقدامها عند بعض الشاطئ العربي للبحر الأحمر (إيلات حالياً، التي غدت قاعدة بحرية قوية).

إقامة قاعدة غربية أمامية على الأرض العربية، تظل مهما تبدلت الأحوال، أقوى من أية دولية عربية منفردة، حتى لو كانت مصر، وأقوى ـ بالحماية الغربية، عسكرياً ـ من مجموع الدول العربية. وهذا ما أثبتته الوقائع الميدانية في حروب 1956، 1967، 1973، كما في الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2000 التي كانت بالأمر الأميركي المباشر.

إبقاء الدول العربية، وبينها من لا مبرر لوجوده ولا مقومات تحمي هذا الوجود، في حالة ضعف سياسي واقتصادي وعسكري، تفرض عليها اللجوء الى نوع من الحماية الغربية بحيث تكون ـ موضوعياً ـ حليفاً لإسرائيل، فأي تهديد جدي لدولة يهود العالم تهديد للكيانات المجاورة. هل من الضروري التذكير بأن الأردن تحول من إمارة الى مملكة عندما تم للأمير عبد الله ضم ما عجزت إسرائيل عن احتلاله (أو هي أرجأته) في العام 1948، من أراضي فلسطين ليغدو ملكاً (سنة 1950) فيتحرر من عقدة النقص (تجاه أخيه فيصل ووريثه في ملك العراق آنذاك)، وليسبغ على نسبه الشريف مزيداً من الوجاهة عبر سدانته للمسجد الأقصى (وقد اغتيل فيه في العام 1951).

حماية منابع النفط وطرق وصوله الى «مكتشفيه» ومستثمريه في الغرب، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بداية، ثم الولايات المتحدة الأميركية. وليس سراً أن هؤلاء المستثمرين كانوا وراء أول انقلاب عسكري أطاح الحياة السياسية وبداياتها الديموقراطية في سوريا (حتى الزعيم ـ 1949) وكانت ذريعته المعلنة الهزيمة أمام إسرائيل في فلسطين، في حين أن سببه الفعلي كان يتصل بالنفط وطرق إمداده ووصوله الى البحر الأبيض المتوسط... وهو مشروع تكامل في ما بعد، فأقيمت مصفاة بريطانيا في طرابلس، لبنان، لنفط العراق، ثم أقيمت مصفاة ثانية أميركية للنفط السعودي في محلة الزهراني، جنوبي لبنان. وفي حين تم وقف العمل بمصفاة الزهراني الأميركية بعد الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان وما جاورها من الأرض السورية في حرب 1967، فإن العمل في المصفاة البريطانية قرب طرابلس قد توقف نتيجة للحرب الأهلية في لبنان 1975.

بعد حرب العبور 1973 وانتكاستها، تم القطع الكامل والنهائي براً بين مصر والمشرق العربي بدوله جميعاً وصارت إسرائيل الحاجز المانع للتواصل السياسي العملي، وللتباعد النفسي الى حد الانفصال، بل التضاد في المصالح بين من كانوا إخوة وشركاء في مصر.

(للتذكير فقط يمكن الإشارة الى أن خط سكة حديد كان يربط مصر ولبنان وسوريا، عبر فلسطين، حتى العام 1948، وطالما استخدمه باشوات مصر وكبار أدبائها وفنانيها للقدوم الى المشرق، لا سيما لتمضية الصيف في لبنان..).
أما بعد معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل فقد تقطعت معظم الروابط العملية التي كانت قائمة بين مصر ودول المشرق العربي، وصارت إسرائيل، الى حد كبير، طرفاً مقرراً في العلاقات العربية ـ العربية.

فلما أقدمت القيادة الفلسطينية على التوقيع على اتفاق أوسلو 1993، وأقامت «سلطتها» داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، بالشروط الإسرائيلية المعلنة، فقد تزايدت الانقسامات العربية وبلغت حدود القطيعة والتصادم، وصارت إسرائيل طرفاً مقرراً في العلاقات العربية ـ العربية.

[[[

تهدف هذه المراجعة المتسرعة لآثار وعد بلفور على الواقع العربي في ما يتجاوز فلسطين ولا يتوقف عند حدودها، الى التأكيد على ما ليس بحاجة الى تأكيد: أن إسرائيل هي العدو في الماضي والحاضر والمستقبل لكل العرب، بدولهم الغنية والفقيرة كافة، وليس لشعب فلسطين فحسب.

..وان وعد بلفور ما كان ليتحقق على الأرض، فتقوم دولة إسرائيل على حساب حقوق شعب فلسطين في أرضه، لو كان «العرب» داخل فلسطين، ولا سيما خارجها، يمتلكون الحد الأدنى من القوة والقدرة على اتخاذ القرار، والأخطر: من الوعي بخطورة ما يدبره الاستعمار لمستقبلهم عبر تمزيق أرضهم دويلات، وعبر زرع الفتنة بين الإخوة وأبناء الوطن الواحد، باستخدام السلطة وامتيازاتها وسيلة إغراء على حساب وحدة الأرض ووحدة أهلها في مصالحهم وفي تطلعهم الى مستقبل يلم شتاتهم في كيان سياسي طبيعي بجغرافيته وبنسيجه البشري وبقدرته على أن يكون «دولة» بالمعنى الحقيقي للدولة.

وها نحن نشهد تمزق العديد من الكيانات التي أقامها المستعمر في غفلة من شعوبها، بينما نرى باليقين دولاً عربية عدة تعتبر إسرائيل ضمانا لوجودها ومصدر أمان لأنظمتها، فالمشروع الإسرائيلي يتسع بمخاطره ليشمل ما كنا نسميه الوطن العربي الكبير، من المغرب الأقصى الى اليمن الذي كان سعيداً.

وليس ثمة فاصل لا بالاستراتيجيا ولا بالمصالح المباشرة بين الأقوى من دول الغرب (بريطانيا في الماضي والولايات المتحدة الأميركية اليوم) وبين «دولة يهود العالم» التي زرعت بالقوة في فلسطين لتفصل بين المشرق العربي والمغرب العربي، مما يجعل أمماً شتى ودولاً مستضعفة يسهل استرهانها وإخضاعها لإرادة الأجنبي الذي نشهد الآن وفي ظل السيادة الأميركية الكونية التطابق المطلق بينها وبين الكيان الإسرائيلي.

وآخر ما استجد من تأكيدات لهذا التطابق المطلق يتمثل في انسحاب الإدارة الأميركية (الجديدة؟) من التعهدات التي كان قد أطلقها الرئيس الأميركي باراك أوباما، عن وقف الاستيطان الإسرائيلي في المساحة التي يفترض أن تترك لإقامة مشروع الدولة الفلسطينية عليها، والتي تكاد تذيبها المستوطنات التي يتعاظم عدد سكانها من المستوطنين المستقدمين من شتى أنحاء العالم على مدار الساعة... مع إسقاط التعهد بأن يبقى للفلسطينيين من مدينة القدس ما يتسع لعاصمتهم العتيدة.

ولقد أطلقت وزيرة خارجية أوباما رصاصات الرحمة على الحلم الفلسطيني بالدولة، قبل يومين، ومن عاصمة عربية التقت فيها رئيس السلطة البائسة، بإعلانها التراجع عن التعهد بوقف بناء المزيد من المستوطنات، وبتأكيدها أمام رئيس الحكومة الإسرائيلية أن الاستيطان ليس عقبة في وجه التفاوض.

والسؤال، فلسطينياً بالأساس، وعربياً بالتالي:
التفاوض على ماذا وقد احتلت إسرائيل، المعززة بالتأييد الأميركي المفتوح، الأرض والإرادة.

مسكين بلفور، إن وعده بائس قياساً بالإنجاز الأميركي في إخضاع العرب جميعاً لدولة يهود العالم التي لا تقرر مصير فلسطين وشعبها فحسب، بل المصير العربي في كل الأرض العربية.
"السفير"

التعليقات