23/11/2009 - 10:45

اليسار وحزب الله والمقاومة../ سلامة كيلة*

اليسار وحزب الله والمقاومة../ سلامة كيلة*
يحاول الصديق قاسم عز الدين أن يوجه النقد لقوى اليسار انطلاقاً من موقفها من حزب الله في مقال له نشر في جريدة «السفير» (12/11/2009)، وإن كان يعمم التسمية على مجمل المقاومة، كما يعمم النقد على مجمل اليسار. وهو يعزو نقد اليسار للحزب إلى الموقف العلماني لديه، وبالتالي عدم تفهمه للطابع الديني للمقاومة.

ففي مقاله (المشكلة ليست في الحائط ... بل في الرأس، العلمانية الدينية ومأزق صلة اليسار بالمقاومة الإسلامية) يعتقد بأن «مقاربة علمانية دينية ظلت سائدة في أوساط اليسار»، وهي التي قادت إلى «تأويل مفتعل لخلاف مع المقاومة بسبب معتقداتها الإسلامية». وربما كان التعميم في الحديث عن اليسار خاطئ هنا لأن المقاربات مختلفة في الموقف من «المقاومة الإسلامية»، لكن يبدو أن المقصود هنا هو الحزب الشيوعي اللبناني الذي بات يشير إلى «طرفي السلطة الطائفية».

ما يهمني هنا هو تناول هذه المسألة التي باتت تعاني من التباسات، حيث سنلمس بأن أول إشكالية تواجهنا، هي هذا الدمج بين المقاومة وحزب الله (أو المقاومة الإسلامية).

وهذا الدمج يفرض أن يصبح الموقف من أي منهما هو موقف من الآخر. بمعنى أن حزب الله يصبح هو المقاومة، ونقده يعني نقد المقاومة، الأمر الذي يفرض أن تكون مع أو ضد من دون مقدرة على فهم موضوعي للمسألة. فالمقاومة هي شكل ممارسة الصراع ضد الاحتلال، وبالتالي هناك تنظيم ما يمارس هذا الشكل، والتنظيم هو ليس فقط المقاومة هذه، بل هو البشر الذين ينحكمون لأيديولوجية ومصالح، وإذا كانوا يمارسون المقاومة فمن أجل هدف.

من هذا المنطلق أحاول كيساري أن أدرس طبيعة حزب الله (وكل المقاومات الإسلامية)، من حيث الأيديولوجية والمصالح الطــبقية. لهذا سنلمس الطابع الطائفي للحزب، وبالــتالي الأيديولوجية التي تشكل تراث هذه الطائفة، وتمظــهرها في الصيغة التي طرحتــها ولاية الفــقيه. وبالتالي حصر البنية التنظــيمية في الانتـماء الأيديولوجي هذا، وتشكيل مصالح خاصــة به. وهنا، ومهما كان هذا الإطار الأيــديولوجي «مســالماً» في النظر للطوائف الأخرى، لا بد من أن يثير التاريخ والتناقضات، أو على الأقل التمــايزات والشـقوق. وهـذا أمـر موضـوعي لـه علاقة بالتــاريخ والــوعي المــوروث.

ثم إن كل الأمور المطروحة الآن في مواجهة حزب الله لم تكن مطروحة من قبل اليسار قبل سنة 2000، وحتى 2004 ربما، حيث كانت المقاومة هي الممارسة الأساس للحزب، وكانت مؤيدة من قبل هذا اليسار. لكن اختلف الأمر بعد أن بات الحزب يشارك في السلطة، ولديه أجندة داخلية، وهو الأمر الذي فرض تناول البرنامج الاقتصادي للحزب. وهنا كانت سياسته تقوم على دعم البرنامج الليبرالي للحريري الأب، وفي الحكومات التي شارك فيها. وهذا ليس مستغرباً على حزب يتبنى أيديولوجية شيعية تلتزم ولاية الفقيه، لأن السياسة الاقتصادية التي تمارس في إيران هي سياسة ليبرالية بامتياز، وهي ككل الليبراليات التي نعرفها في الوطن العربي. وهذا أمر طبيعي لأن تلك الأيديولوجية تنطلق من التحرر الاقتصادي.

هذه مسائل هي جزء من تكوين الحزب، ولا نقولها من موقع الإدانة، فهو حق وتعبير عن مصالح طبقية لفئات اجتماعية، وبالتالي لا ينتقص من الدور المقاوم للحزب. وما دامت المقاومة مستمرة فمن الضروري أن تكون أساس العلاقة تنسيق نشاط المقاومة. لكن حين يصبح النشاط هو الصراع في إطار الدولة اللبنانية، ومن أجل خيارات مختلفة، لا يعود التوافق على المقاومة هو محدِّد العلاقة، لأننا هنا إزاء تناقضات طبقية، وخيارات طبقية، لا يلغيها التوافق على المقاومة ضد الاحتلال. وهذا أمر «طبيعي» كذلك، حيث أن القوى المتوافقة على المقاومة هي مختلفة حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، وحول طبيعة السلطة.

إن عقلاً أحادياً (يتبع المنطق الصوري) هو وحــده الذي يــقرر أن التوافـق على المقـاومة يفرض التوافــق الكامل، أو التـزام خــيار المقاومة وتجاهل كل القضايا الأخرى لأن خلافاً يقوم حــولها. ولهذا أشرت إلى ذاك الدمج بين المقاومــة وحـزب الله، لأن الدمـج يفــرض تـجاهل كل القضايا الأخرى من أجل «التركيز» على المقاومة. رغم أن الواقع لا يحتمل التجاهل، ولأن مسألة الصراعات لا تختصر في طرفين، كل منهما متماثل، بل أن التناقض الرئيسي يفرض التوافق على النقــطة الرئيسية، مع بقاء كل القضايا الأخرى مجال خلاف لاختلاف المصالح الطبقية حولها.

لهذا فإن التوافق على المقاومة لا يلغي الخلاف حول البرنامج الاقتصادي، والطبيعة الطائفية، اللذين يتوافقان مع رؤى الطبـقة البرجوازية في فرض مصالح هذه الطبقة وتكريس نظام طائفي يقوم على المحاصصة.

هنا من الحتمي أن يكون اليسار في تناقض مع هذه البنية، خصوصاً أن الطابع الطائفي للدولة هو الذي يعيد إنتاج السيـطرة الطبقية للبرجوازية. ولهذا بدت الصراعات في السلطة خلال الفترة الماضية على أنها خلافات بين شرائح البرجوازية من كل الطوائف من أجل الاستحواذ بحصة أكبر.
ربما ليس حزب الله في هذا الوارد، حيث ليس دائماً يكون الوعي الطبقي واضحاً، خصوصاً لدى الفئات الوسطى، لكن جوهر برنامجه وتكوينه وسياساته الداخلية تصبّ في هذا المساق. وأعتقد بأن قطاعاً كبيراً من الحزب ليس في هذا الوارد، لكن ـ في النهاية ـ ليست النيات هي ما يتحقق في الواقع.

طبعاً يبرر الصديق قاسم مشاركة حزب الله في الحكومة بأنه من أجل «عرقلة ما يمكن عرقلته من زحف السلطة»، لكن هذه المشاركة تسهل تنفيذ السياسة الليبرالية التي هي جوهر «عجلة الزحف النيوليبرالي»، كما أنها تنطلق من المحاصصة الطائفية ذاتها، التي تكرس الطبقة البرجوازية ذاتها، وتكرس طائفية النظام السياسي. وهنا تؤدي في الواقع إلى عكس ما تهدف إليه، فقد صدت المقاومة الزحف الصهيوني لكنها لم تصد، وليست في وارد أن تصد الزحف الليبرالي، وما تريده هو إفشال المؤامرات على المقاومة ذاتها. لكن ماذا يفيد إذا رددنا الزحف على الحدود، ولكنه تغلغل في العمق عبر الزحف النيوليبرالي؟ وهو الأمر الذي يضع المقاومة ذاتها في بيئة هشة، وقابلة للتفجر. فقد أسهم الطابع الطائفي للحزب في تعميق التأزم الطائفي، ليس لأنه يريد بل لأن تشكله «ككتلة» تمثل طائفة سيقود إلى تشكلات مقابلة بالضرورة، وأي ممارسة سوف تسمح بأن تستغل من أجل ذلك، كما حدث في 7/5/2008.

هذا ما يجب أن يكون اليسار على وعي به، حيث أن النظر الأحادي يفرض التركيز على مسألة وتجاهل كلية الوضع، وبالتالي تصبح مهمة «اليساري» أن يدعم «المقاومة» وأن «يلتف خلفها»، وليس كشف كل «نقاط الضعف» وفهم صيرورة تطورها، وبالتالي العمل على أن يطور دوره المقاوم بالمعنى الوطني كما بالمعنى الطبقي. فقد قيل ما يقال الآن عن حزب الله وعلى «المقاومة الفلسطينية»، وخصوصاً على حركة فتح، لكن وصلنا إلى أوسلو، والكارثة التي نعيشها. إن التعلق العمومي بالمقاومة هو الذي قاد إلى ذلك، وهو الذي سيقود إلى نتائج مماثلة.

ولقد قيل أيضاً ما يقوله الصديق قاسم عن «المقاومة الإسلامية» من أنها نتاج بيئتها و«مضطرة للاحتماء بثقافة بيئتها المحلية حفاظاً على استمرارية وجودها»، من خلال الإشارة إلى البيئة. وربما فرضت الظروف هذه الصيغة لأسباب عديدة، لكن هل يجب على اليسار أن يبرر هذا الشكل لأن الظرف الموضوعي قد فرضه، أم يجب عليه أن يبحث في مشكلة هذا الشكل وهو يخوض المقاومة؟

إن الحفر في تكوين القوى التي تمارس المقاومة هو أمر حتمي من زاوية فهم صيرورتها، ومعرفة حدودها، ولتطوير ممكناتها. وإلا سادت العفوية، وسيطر الميل التبعي، وبالتالي ماتت النزعة النقدية الضرورية في كل عمل.

ربما كانت هناك مشكلات كثيرة يعاني منها اليسار، وهو يعيش أزمة عميقة، لكن سنلمس بأن أحد أسباب أزماته هو هذه النظرة التي لا زال الصديق قاسم يتمسك بها، لا أقصد طبعاً دعم المقاومة بل أقصد الانسياق إلى الدعم المطلق، ورفض كل نقد، وتبرير كل سياسة. فقدسية المقاومة لا يجب أن تحجب كل المشكلات التي تعيشها القوى التي تمارس المقاومة.
لهذا أقول بأن «المشكلة ليست في الحائط... بل في الرأس».
"السفير"

أنظر المقال الذي نشر في موقع عــ48ـرب:

التعليقات