25/11/2009 - 11:43

حروب كثيرة بالطائرات والأقدام... خارج فلسطين وعليها../ طلال سلمان

حروب كثيرة بالطائرات والأقدام... خارج فلسطين وعليها../ طلال سلمان
يسود الاضطراب منطقتنا العربية من أدناها اليمني الى أقصاها المغربي، مروراً بمشرقها الممزق بحروب أهلية مستعرة فعلاً، أو كامنة، تنتظر تفجير «الصواعق» المختزنة أو المستحدثة، لكي تندلع مدمرة ثوابت الأخوة وروابط التاريخ والجغرافيا ووحدة المصير.

تتهاوى وشائج القربى بين من كانوا (وسيبقون) أشقاء، وتنشأ على أنقاضها حالة من العداء المستجد الذي لا تبرره أسبابه المعلنة، ولا تخفي صدوره عن كراهية للذات القاصرة عن المواجهة التي تغدو شبه مستحيلة مع العدو الأصلي والوحيد، حتى لو اتخذ أسماء متعددة: الاحتلال الإسرائيلي، الهيمنة الأميركية، العسف والقمع سواء صدر عن النظام أم عن خصومه المتلفعين بالشعار الديني.

بات العرب يتعاملون مع أنفسهم بمزيج من الكراهية والاحتقار، ويختلقون لأنفسهم المعاذير للهرب من ميدان المواجهة الفعلي الوحيد: مع إسرائيل وعلى أرض فلسطين، بوصفها قضيتهم الجامعة، وعنوان حاضرهم وغدهم.

إن فلسطين ـ القضية المقدسة ـ الجامعة التي تختزن الهوية وإرادة التحرر والتحرير والقدرة على اصطناع الغد الأفضل، تذوي وتكاد تندثر عبر الحروب المفتوحة بين أهلها وعلى أهلها، فوق أرضها وعلى امتداد الأرض العربية الفسيحة.

لقد انحطم حلم عظيم مختزناً من حقبة اكتشاف الذات والقدرة على إعادة صياغة الواقع العربي، بما يتناسب مع حقوق هذه الأمة في أرضها وفي غدها، بقدرات شعوبها التي أكدتها عبر مواجهات مشرّفة في حروب ظالمة، تكاتف فيها الغرب جميعاً، (وإسرائيل هي عنوانه) ضد نهضتها واستعادتها دورها بتأكيد هويتها.

إنه زمن الهرب من العدو الحقيقي، محتل الأرض والإرادة، الى حروب وهمية تذهب بالحاضر وتدمر احتمالات المستقبل، وتمكن لإسرائيل ومعها وفيها وأمامها ومن خلفها مشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة جميعاً، وباستخدام عوامل التفجير الكامنة في داخلها والتي يسهل إعادة تظهيرها بالفتنة، لطمس المشترك الموحد والجامع، والذي يشكل المدخل الحتمي الى مواجهة ناجحة، تستنقذ الحاضر والمستقبل.

لننتقل من المجرد إلى أمثلة واقعية ومحسوسة نعيش تفاصيلها المأساوية بالصوت والصورة والدلالات المفجعة:
في اليمن تتعاون دولتان كبيرتان على «قبيلة» صنفت عاصية على الحاكم الفرد وخارجة على «النظام»، الذي تبدى في لحظة، أنه يتعدى نطاق صنعاء الى جوارها السعودي: انتباه! إنهم الحوثيون!

لقد وجدت فيها الدولتان اللتان يختزن تاريخهما المشترك دهوراً من العداوة وحروب الحدود بالضم والفرز، فرصة لاستعراض القوة، وقد وحدها عدو وهمي «مثالي»:
قبيلة لم تتعرف الى الدولة إلا عبر الحرب الأهلية، والتي كانت فيها «حليفة» للسعودي الذي أراد وأد الثورة اليمنية في مهدها، وإسقاط «الجمهورية» التي كان إعلانها زلزالاً خطيراً ينذر بسقوط الأنظمة القائمة في تلك المنطقة على السيف والدينار، والمحروسة جيداً باعتبارها مالكة أرض الذهب الأسود.

فجأة ودون سابق إنذار، أخرجت الدولتان ما تملكان من أسلحة تدمير وقتل، في البر والبحر والجو، وأطلقت المدافع وقاذفات الصواريخ والدبابات نيرانها الحارقة، ونشطت الوحدات الخاصة الفخمة الملابس والأحذية، اللامعة بنادقها المخرجة للتو من صناديقها، واندفعت الحوامات تطارد «الأشباح» من رجال القبيلة العاصية، الذين يتخذون من طبيعتهم الجبلية القاسية، التي بالكاد عرفت الطرق المسفلتة، «حصوناً» لا يطالها إلا البرق. ووقف جنرالات المصادفات والنسب والإرث أمام الكاميرات يستعرضون جنودهم الذين لا يعرفون من يقاتلون ولماذا.

هو التيه عن العدو الحقيقي، واستبداله بعدو «داخلي» وهمي ليس له مشروع سياسي جدي، ولا يملك غير طبيعة أرضه البكر سلاحاً لصد الغارات بصواريخ الطائرات ومدفعية الميدان وحملات التشويه السياسي.

هو التيه، يعمي البصائر والأبصار، ويختلق الأعداء، بينما العدو الحقيقي يمدد احتلاله للأرض العربية في فلسطين، ويديمه بالمستوطنات التي يستقدم إليها وحوش المستوطنين من أربع رياح الأرض على مدار الساعة، ويواصل اختراقه للدول العربية (والصديقة)، باللعب على أوتار المصالح، والإيهام بمفاوضات تبدو مفتوحة الى الأبد على اللاشيء: فقط دولة يهود العالم، وليذهب الفلسطينيون ـ مع أهلهم العرب ـ الى الجحيم، ومن له شكوى فليتوجه بها الى «الصديق الكبير» في واشنطن والباب الدوار للبيت الأبيض.

هو التيه... وها هم في العراق يختلفون من حول قانون الانتخابات وتوزيع المقاعد في البرلمان الجديد الذي بين شروط ولادته أن يكرس الانقسام العمودي القائم، والذي غدا استثماراً مجزياً للاحتلال الأميركي وللطامعين من الجيران، وفيهم العربي والعجمي، فيثبته بانقسام أفقي، طائفي ومذهبي وعنصري وجهوي بحيث يتم استيلاد نظام هجين لا هو موحد للشعب ولا هو مؤسس لبناء دولة قوية، لا هو مؤهل لحماية الثروة الوطنية (التي تم تنظيم نهبها المستقبلي في ظل الاحتلال)، ولا هو قادر على إنجاز مهمة تثبيت الوحدة الوطنية.

والاحتلال الأميركي «يهدد» العراقيين بسحب قواته وتركهم في أتون الحرب الأهلية يقتتلون حتى إبادة الوطن ودولته بتدمير وحدة شعبه.

إنه التيه... وبين عناوينه المستجدة «حرب الهدف الضائع» بين مصر والجزائر.
لقد صارت «الأقدام» أيضا، صاحبة قرار في تحديد العلاقات بين الدول العربية، وبالذات بين دولتين ربطهما النضال المشترك من أجل الاستقلال وتأكيد الهوية العربية والنزوع الى التحرر واستعادة القدرة على القرار.

اكتسبت «الأقدام» هيبة لم تكن لها في أي يوم، وصار لها شأن في تحديد السياسات، بعدما اكتسبت تأثيراً غير مسبوق على «الرؤوس»، أين منها تأثير العقائد والأفكار والمبادئ والروابط النضالية وحتى المصالح المشتركة.

صار بإمكان «كرة» تاهت عن «المرمى» أن تشعل حرباً بين العرب والعرب، كأنما لا تكفيهم «الحروب» التي تشعلها المنافسة على النفوذ والخلافات بين الزعماء، أو صراع المصالح، أو التدخل الأجنبي أو العمى السياسي وأثره الحاسم في قلب المباراة الرياضية، الى اشتباك مريع يدفع ثمنه الفادح أطرافه، بينما يجني ذلك الأجنبي الأرباح السياسية والمادية بغير حساب.

وبديهي أن يستفيد العدو الإسرائيلي من هذه الواقعة المفجعة لكي يتوجه بالنصح الى «أصدقائه» العرب طالباً «ضبط النفس»، ومعالجة الأمر بروح الأخوة والمصالح المشتركة.

إنه التيه...
إنه انفجار للمكبوت في الزمان الخطأ والمكان الخطأ وبالذريعة الخطأ: تطمس أسباب الضيق الحقيقية ويترك للجمهور أن ينفس عن غرائزه بعيداً عن كل ما يمس سلامة النظام، فتتفجر لمصلحته وضد «العدو» الوهمي الذي استقدم على عجل، وبتواطؤ ضمني من النظامين، لتبديل طبيعة الصراع بمباراة خائبة النتائج المرجوة، كائناً من كان الفائز فيها.

يتم الدوس بالأقدام على كل ما كان يجمع من أهداف التحرر والتحرير: تسَفه الشعارات التي كانت في صون المقدس، تحرق الأعلام التي كان الناس يتبركون بها في البلدين الشقيقين، وبينهما ما ليس بين أي منهما وكل دول العالم مجتمعة من روابط. تحقر التضحيات الغوالي في ميدان المواجهة مع العدو الأصلي، المستعمر لاغي الهوية الوطنية.

يقاتل المهزوم المهزوم في الداخل والخارج، المضيّعة منه الطريق الى كرامته الشخصية ومكانة دولته. يدوس كل طرف أعلام الطرف الآخر، الأخ الشقيق من قبل ومن بعد.. يدوس الجميع على أحلامهم، على حقوقهم، على كرامتهم، على مكانة دولتهم في العالم. الأقدام الآن أهم من الرؤوس. الكرة أهم من العلم الوطني.

فريقان رياضيان دون المتوسط، تم اعتمادهما لطمس الواقع المعيش في كل من مصر والجزائر، ودفع «الجماهير» التي عُبّئت على مدى شهور الى المواجهة العبثية.. خارج موضوع المنافسة الفعلي.

الفريقان يشبهان نظاميهما: لا قدرة على الانتصار، فلنبحث عن ذريعة مدوية تغطي الهزيمة المدوية. وهكذا يمنحان امتيازات تتجاوز المقبول، ويتم تعظيم الصورة لإخفاء الواقع. ليس أقدر من الكرة ومن مبارياتها على سحب الجمهور بعيداً عن قضاياه وعن مطالبه.

تلك هي وظيفة الفريقين، وقد أدياها بنجاح منقطع النظير: سحبوا الجمهور بعيداً عن الواقع المعيش، وهو بائس، عن فلسطين ومواجهة العدو الإسرائيلي فيها الى الفريق المنافس، مع القفز من فوق واقع ما بين البلدين من علاقات تاريخية تتجاوز المصالح.

أين هذه الملايين بغضبها المدمر للذات من قضاياها الأصلية وهمومها الفعلية؟
كم أنفق على الفريقين وعلى المناصرين الذين حصلوا على امتيازات مذهلة تمتعوا بها لساعات، بينما مطالبهم الأصلية مهملة أو منسية بذريعة العجز؟

لقد أعطى الرؤساء والوزراء والإدارات في الدولتين من الاهتمام والمال والرعاية ما لم يعطوه لقضية فلسطين، أو لفقراء بلادهم، وهم الأغلبية الساحقة من رعاياهم.
لم تكن مأساة المواجهة في «الأقدام» بين المصريين والجزائريين أكثر من دليل حاسم على أن العقول أعطيت إجازة طويلة.

في مصر احتقان عنيف، أسبابه داخلية حصراً، يختلط فيها افتقاد المكانة التاريخية عربياً ودولياً، مع الضيق في مصادر الرزق ونقص فرص العمل التي تحتاجها أجيال جديدة من اليد العاملة المصرية، مع التزايد المهول في أعداد السكان، الذي يفاقم المشكلات الداخلية العديدة، من الخبز الى الدور والمكانة.

وهي الحال نفسها في مجمل الأقطار العربية: لا يستطيع الجمهور مواجهة النظام وأسباب القصور الفعلية فيه، فيهرب من مواجهة الذات الى إفراغ شحنة التوتر في الجار القريب، إما لأنه مختلف دينياً، أو لأنه مختلف سياسياً.

تتعذر المواجهة مع العدو الفعلي الوحيد، إسرائيل، فتنقل الى خصوم وهميين، هم الأقباط تارة، وهم المختلفون فكراً، (الإخوان المسلمون) تارة أخرى. لا مجال لحرب طبقية، يساند الفقراء فيها الفقراء لخوض حرب ضد أغنياء النهب المنهجي لموارد الدولة. لا مجال لتصادم مع الحكومة بأمنها المركزي القوي. لا مجال لنجدة غزة بالتصادم مع العدو الذي ما زال عند الناس، هو العدو، في حين انه صار في موقع «الحليف» على مستوى علاقات النظام الخارجية.

وهكذا تتوجه التظاهرات الغاضبة الى السفارة الجزائرية في الزمالك وليس الى السفارة الإسرائيلية في الجيزة.

أما في الجزائر ذات الثروات، البشر والنفط والغاز والأرض الزراعية المهجورة، فهنالك الفساد المستشري والنهب المنظم لموارد الدولة. وهناك النظام الذي يشتري الولاء بالرشى، ويكافح الدين بتهمة الإرهاب، ويعجز عن حل مشكلات شعبه الذي يتزايد بمعدلات قياسية، كما كل الفقراء: لا أوروبا تقبله، ولا الإدارة الأميركية تعتمده، وهو لا يريد العرب وقضاياهم الثقيلة!

المشكلة المفتعلة مع الغرب حول الصحراء تنهكه، ولكنه لا يملك الشجاعة لكي يخرج منها بتسوية تحفظ مع الكرامة المصالح.

ولكي يتكامل المشهد بأبعاده جميعاً تجيء زيارة رئيس دولة العدو الإسرائيلي شيمون بيريز الى مصر، في ذروة «الحرب» بين المصريين والجزائريين، ليس فقط في شوارع القاهرة والجزائر العاصمة، بل ان الجزائريين يمدونها الى مناطق «نفوذهم»، في فرنسا خاصة وبعض أوروبا، وهم ما وصلوا الى هناك وارتضوا ان يعملوا في مهن وضيعة، وان يعيشوا ظروفاً بائسة، لو ان نظامهم حفظ لهم كرامتهم في وطنهم الغني بالبترول والغاز والأرض الزراعية، فيسر لهم أن يعملوا فيها ولها وأن يعيشوا منها ولها.

إنه عصر التيه العربي، وقد جاءت «حرب الأقدام» لتكشف كم توغلنا فيه بعيداً عن هويتنا وأهدافنا، بحيث بات صعباً الخروج منه بشهادة الوقائع الدموية في اليمن وفي العراق... فضلاً عن فلسطين التي صارت «كرة ضائعة» تفوقها أهمية لأنها ـ كما تشهد موقعه الخرطوم ـ باتت مقدسة الى حد الجهاد في سبيلها.

... مع التمني ألا يكون رئيس الكيان الإسرائيلي شيمون بيريز قد عرض بذل مساعيه الحميدة لإصلاح ذات البين بين الدولتين اللتين كانتا شقيقتين، وستبقيان شقيقتين: مصر والجزائر.
"السفير"

التعليقات